مداخلة في ندوة تقديم كتاب “السلوك إلى الله عند الإمام عبد السلام ياسين”، الأحد 11 دجنبر 2022.
مقدمة
ها نحن نجتمع اليوم بمناسبة مرور أربعين سنة على تأسيس جماعة العدل والإحسان، الموافقة للذكرى العاشرة لرحيل مؤسسها الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، وإحياء الجماعة لهاتين المناسبتين فيه إجابة شافية عملية واضحة وصريحة على سؤال هو موضوع هذه المداخلة؛ ماذا بعد رحيل الإمام؟
الجماعة حية، كما نرى ونشهد، مستمرة في سلوكها وسائرة على منهاجها، بفضل من الله تعالى ومنة، وبفضل وفاء جمع الصحب لمن صحبوا وتتلمذوا على يديه، واستناروا بإجاباته على السؤال قبل رحيله رحمه الله، والتي كانت البوصلة الموجهة لمواصلة المسير في طريق السلوك إلى الله، وقد قيض الله رجلا من هؤلاء بذل جهده لاستقراء ما خلفه الإمام رحمه الله تعالى من كتابات وكلمات وحوارات ورسائل؛ خاصة أفادت العموم وأخرى عامة تخص كل فرد فرد، وكذا توجيهاته في مختلف اللقاءات العامة أو حتى تلك المجالس الخاصة مع أعضاء مجلس الإرشاد، ونسجل الشهادة للأستاذ عبد الكريم العلمي حفظه الله، بقدرة هائلة على الجمع والتنسيق بين الأفكار، وعرضها بأسلوب سهل، إذ الغرض هو بيان ما أسسه الإمام في مجال السلوك إلى الله تعالى سواء أتعلق الأمر في حال حياته أو مماته.
وسأجيب عن السؤال من خلال العناصر التالية:
– حقيقة الموت ومصير الإرث.
– “الصحبة والجماعة” و”الصحبة في الجماعة” من خلال وصية الإمام.
– مجلس الإرشاد عنصر ثبات.
– من يخلف الإمام؟
– الشورى وانتخاب الأمين العام بعد رحيل الإمام.
– محاذير.
حقيقة الموت ومصير الإرث
وصف الأستاذ عبد الكريم العلمي حال الإمام رحمه الله وهو يتحدث عن الموت بيقين لا جزع ولا هلع، إذ هي ليست عدما وإنما هي مجرد انتقال من حجرة إلى حجرة، ومن ثم فصلة المحبة والوفاء دائمة لا تنقطع بين الأحياء والأموات، ونقل قول الإمام في وصيته الأخيرة (لا تحبس الصلة برازخ الموت)، مؤكدا على استمرار الوصل بالتزاور عبر الأزمان والتحاب عبر الأزمان بناء على دستور المحبة (حقت محبتي)، ما يفيد أن معاني الصحبة والمحبة تسري من جيل سابق لجيل لاحق عبر الأزمان.
وبما أن لكل راحل إرث يخلفه فإن إرث الإمام تركه للجماعة؛ تنهل منه في الحاضر وتورثه لمن يأتي في المستقبل، لم يوصِ به لأحد لا إشارة ولا عبارة، لا تصريحا ولا تلميحا، وإنما قال رحمه الله تعالى: (إذا مات فلان فقد ذهب إلى ربه وبقي سر الجماعة في الجماعة)، وهذا يتماشى مع الجهد الذي بذله من أجل نقل حال السلوك إلى الله من الصحبة الفردية؛ حيث تأخذ بيد الطالب السائر إلى الله، يد فرد نور الله قلبه، إلى الصحبة والجماعة والصحبة في الجماعة؛ حيث تأخذ بيد طالب أياد وقلوب متعاونة متواصلة، الجامع الصحبة في الله في ظل الجماعة في الله.
وقد سأله الدكتور محمد منار في حواره معه: (تؤكد أن السلوك إلى الله عز وجل يحتاج إلى مرب، كيف هذا الأمر في ظل الجماعة؟) فكان جوابه رحمه الله تعالى بأن كل ما حباه به المولى وتفضل به عليه قد أودعه بتوفيق من الله في الجماعة في حياته، وسيبقى في الجماعة بإذن الله بعد وفاته، فالسر الذي تحدث عنه هو الرحيق الذي يقذفه الله في قلوب من سلكوا طريق الصحبة والجماعة ليكونوا لمن خلفهم ملجأ، تهفو إليهم الفطر السليمة والقلوب المطمئنة، والسر هو النور الذي يقتبس من قلوب العارفين بالله بالصحبة، والصحبة سقاؤها وغذاؤها ذكر الله، وتربتها وهواؤها الصدق مع الله.
وهؤلاء الذين يؤخذ عنهم الرحيق ينبغي أن يكونوا قد سلكوا الطريق، يريدون وجه الله، يتبعون الوحيين؛ كلام الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قدوتهم في ذلك الصحابة الكرام الذين تلقوا السلوك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرصوا على تعليمه لمن تبعهم رضي الله عنهم أجمعين. وهم بذلك يحرصون كل الحرص على المحافظة على الهوية الإحسانية التي لا تتحقق إلا إذا كان للإنسان عند الله حاجة.
الصحبة والجماعة والصحبة في الجماعة من خلال وصية الإمام
ذكر الأستاذ عبد الكريم العلمي أن الإمام رحمه الله تحدث عن مفهوم الصحبة في الجماعة أول مرة وبشكل واضح في وصيته المكتوبة بيده والمسجلة بصوته قبل وفاته بإحدى عشر سنة، وكرر معناها في مجالس المومنين والمومنات. هذه الوصية التي وقف عندها الكاتب مليا فقرأها مبنى ومعنى؛ أما المبنى فقد أبرز أن الوصية بالصحبة والجماعة، والصحبة في الجماعة، تعدل ما جاء في الخصال التسع الباقية مجتمعة. وهذا يدل على عظم شأن القضية، أما المعنى فقد أبانه في ثلاث وصايا كبرى:
أن يظل العدل والإحسان مقترنين، العدل الشامل والإحسان الكامل، حيث لا مدخل إلى الإحسان الكامل المقرون بالعدل الشامل إلا بالصحبة والجماعة وبالصحبة في الجماعة.
الربط بين “الصحبة والجماعة” و”الصحبة في الجماعة”، وعدم الفصل بينهما لأنهما صنوان ونظيران لا فرق بينهما، والمنهاج النبوي جعلهما قرينين متلازمين في التربية الإحسانية، فكل صحبة لا تفضي إلى جماعة مجاهدةٍ ناقصةٌ، والجماعة إن تخلت عن لب الصحبة وجوهرها ونورها لا تلبث أن تصبح جثة بلا روح.
فالصحبة والجماعة وحدة لا تقبل القسمة، والصحبة والجماعة درجة للصحبة في الجماعة. والإلحاح في الدعاء لحفظ أمر الجماعة إلى قيام الساعة، تهمما منه رحمه الله تعالى بالأمر من بعده ويقينه الكامل في أن الله هو خير حافظا، فمائدة الجماعة ستبقى منصوبة وقائمة إن شاء الله إلى قيام الساعة. كما قال رحمه الله.
والحفظ يكون بتبليغ الأمانة وتبليغ الإرث، إذ إن ثمرة الصحبة هي الوصول إلى معرفة الله سبحانه عن طريق الدلالة عليه، فالصوت الذي نادى: من هنا الطريق، من هنا البداية، هو الصوت نفسه الذي ما يزال يتردد في جنبات الجماعة خاصة والأمة عامة من خلال ما حاضر وألف من كتب وما ربى وألف من قلوب، إنه ميراث معنوي ينبغي المحافظة عليه وتبليغه وعدم تعريضه للضياع. يقول رحمه الله تعالى: (اعلموا إخواني أخواتي أن أمرنا صحبة وجماعة، في بعض الأحيان نقول صحبة في جماعة، الصحبة والجماعة، والصحبة في الجماعة، فإذا كنا نريد أن نبث هذا الأمر أن نبلغه لمن هم في زماننا، ومن هم بعدنا، ينبغي ألا نتسرع، ينبغي ألا نسارع ليكون لي أنا وحدي الفضل والحظ الأكبر ) (ياسين نت 2020).
وبيّن المواصفات التي ينبغي أن تتوفر فيمن يعهد إليهم تبليغ هذا الخير العظيم أخذا وعطاء؛ هم الرجال والنساء الذين سقوا من عين الصحبة والجماعة، هم القادرون بإذن الله على الحفاظ على الصحبة في الجماعة، وعلى سقي القلوب جيلا بعد جيل من معينها، ولكي نبلغ هذه الأمانة يلزمنا التخلق بأخلاق جماعة العدل والإحسان، نذكر الله كثيرا حتى تصفو قلوبنا. فإن (لم يكن في جماعة العدل والإحسان ذكر فلسنا في شيء).
بهذه المعاني ومثيلاتها يمكن الاستمرار في عناية ورعاية وسقاية بذرة الحياة التي زرعها الأستاذ المرشد في القلوب، ورعتها وسقتها صحبته رحمه الله تعالى على مدى سنوات وعقود؛ تأليفا بين القلوب، ورفعا للهمم للمعالي، ودلالة على الله وعلى الطريق الموصلة إليه، وعلى كل معالم هذه الطريق. مع السعي لإقامة العدل في الأمة وفي الأرض.
وما دعاء الرابطة الذي أوصى به مرارا إلا ترجمة لهذه المعاني، إذ له بعد فردي وبعد جماعي جهادي يهدف إلى ربط المؤمنين بالجماعة، (فإذا سرى معنى الربط بتكرار المجالسة وتكرار الوقوف بين يدي الله في الصلاة والعمل المشترك والدعاء الرابط، التقت الصحبة بالجماعة، ولم تكن الجماعة شكلا ولا الصحبة صحبة انفرادية) (المنهاج النبوي، 130). هذا الدعاء الذي ينبغي كما قال الأستاذ عبد الكريم (أن ننشئه إنشاء، حتى تكون القلوب ما أمكن حاضرة غير لاهية ولا ساهية. فالدعاء إنشاء من القلب وليس خبرا يتلى) (السلوك، 132).
ما العمل؟
إذا مات المصحوب وانتقل إلى الرفيق الأعلى، ما العمل؟ هل يبقى الواحد منا وفيا لمصحوبه، أم يبحث عن مصحوب آخر؟ ما العمل حينئذ؟ هل سنبقى نردد بأنه كان معنا سيد كان وكان.. لا، فالصحبة لا تكون إلا استفادة من الأحياء، هناك التبرك، الناس الذين سبقونا بالإيمان ندعو لهم في دعاء الرابطة، نحبهم، نصل معهم الأرحام، ولكن السلوك الذي هو غير التبرك خاص بالأحياء. كيف نعمل مع هؤلاء الأحياء؟ كيف نعمل مع هذا الحي؟
سؤال أجاب عنه الإمام رحمه الله تعالى حيث أكد أن أول كلمة عندنا في الجماعة الصحبة والجماعة، وفي الجماعة من الرجال من قلبهم منور ومشع، منهم الإخوان في مجلس الإرشاد، ومنهم إخوان آخرون، فإذا الصحبة في هذه الجماعة تقوم مقام.. يذكر الأستاذ عبد الكريم أن مفهوم العبارة من خلال السياق يدل على القول: (تقوم مقام الصحبة المباشرة)، وكثيرا ما كان يردد رحمه الله أن مجلس النصيحة يقوم مقام الصحبة المباشرة، ويوصي بقوله: فابقوا محافظين على جماعتكم، وابدأوا بمحبة كل من أظهر الله عليه خيرا، أحبوه.
الحفاظ على الجماعة إنما يكون بالتحاب في الله، والتصافي في الله، والتواصل في الله، والذلة على المؤمنين، وتقوية الثقة بين المؤمنين والمؤمنات، وإحياء معاني النصح.
مجلس الإرشاد عنصر ثبات
الجماعة تنظيم وليست حزبا سياسيا (هذه مسألة ينبغي فهمها)، وحدة التنظيم والتربية أمر لازم، كما قال رحمه الله تعالى: (وجوب توحد التنظيم والتربية ووجوب اتساع السبيل لتجتمع الوظيفتان في يد الربانيين، بالوصلة المباركة بين الصحبة والجماعة، ذلك أن الوصلة الصحيحة بين الصحبة والجماعة قيادة ربانية واحدة) (الإحسان، 1/250). (تجتمع في القيادة في شخص واحد أو أشخاص؛ الربانية والكفاءة الجهادية الحركية) (الإحسان، 1/242). قيادة يتحقق فيها المجموع الفريد، لهم قدم السابقة، شهداء بالقسط، الجامع بينهم التوحد والانسجام والتسليم والمحبة، فإذا كان الأمر تربية قبل كل شيء وبعد كل شيء، وتربية مع كل شيء، فالتربية ليست أمرا مرتجلا، والصفات التربوية في القيادة ليست أمرا مرتجلا، (وإنما يبرز الربانيون بعد تجربة ومن محك البلاء والابتلاء وعلى مر السنين والأعوام. فإذا لم يكن هناك عنصر ثبات في الجماعة وتنظيمها، فيوشك أن تتنازل الجماعة عن مبادئها جيلا بعد جيل، ومجلسا بعد مجلس، منتخبا بعد منتخب حتى يؤول الأمر إلى مسخ) (السلوك، 143)، ويقرر الأستاذ عبد الكريم أن هذه التزكية هي لمجموع المجلس ولا يتعلق الأمر بالأفراد لكي لا يكون هناك حرج.
والثبات ليس معناه الانغلاق، وإنما تم منذ 1996 اختيار ستة إخوة من ذوي السابقة والغناء والحظ من الله في دورات مختلفة من مجلس الشورى والهيئة الناخبة.
وإذا تقدمت السنين بأعضاء مجلس الإرشاد (فهم يتفرغون لجوهر الأمر ولبه وهو التربية في إطار ما أسماه رحمه الله تعالى بالإخوان الزائرين، يبلغون معاني الصحبة فتصبح سارية في يسر ورحمة، يستقي البعض من البعض) (السلوك، ص 157).
من يخلف الإمام؟
من بُعد نظر الإمام رحمه الله تعالى أنه لم يعين من يخلفه من بعده، لا إشارة ولا عبارة، لا تصريحا ولا تلميحا، فخرج بذلك عن الأعراف الصوفية التي تقضي في الغالب الأعم أن يعين الشيخ وارثه تعيينا مكتوبا أو مشافهة مشهودا عليه، وحتى ما كان في فصل التنظيم من المنهاج النبوي، أوصى رحمه الله بتجاوزه. قال رحمه الله تعالى: (وفي حالتي استقالة الأمير أو موته يتولى مكانه أكبر أعضاء مجلس الإرشاد سنا إلى أن يتم ملء فراغه واختيار خلفه) (المنهاج، 74).
إذن ما العمل في قضية مصيرية كهذه؛ مات فلان فمن يخلفه؟
تتبع الكاتب ما ألفه الإمام في المسألة فوجده رحمه الله تعالى قد ميز بين مرحلتين: مرحلة تأسيس الجماعة ومرحلة بلوغها الرشد.
مرحلة التأسيس: يبرز فيها أشخاص يملكون من خصال الشجاعة في الحق، والدراية بالواجب الشرعي، والغيرة على مصير الأمة، ما يؤهلهم للقيادة تأهيلا أصيلا، فهم آباء الجماعة وأمهاتها، وعن جدارة واستحقاق. ونتيجة لسابقتهم الجهادية تبوأوا الصدارة، وهذا ما يسمى في لسان السياسة بالقيادة التاريخية. حيث يكون لها مؤهلات علمية، وعملية، وتدبيرية، وجهادية تتحمل المسؤولية وتؤدي الأمانة. ويمكن التمييز بين صورتين:
الأولى ما ينفرد فيه شخص ممتاز رباني بالمبادرة الموفقة، كالإمام البنا رحمه الله، والثانية ما يظهر بتآلف رجال دون ذلك ألمعية (جماعة المسلمين ورابطتها، ص 93).
مرحلة الرشد: من تمام الرشد اختيار القيادة من بين الأقران عن طريق الشورى. يقول الإمام رحمه الله تعالى: (مرحلة بلوغ الجماعة رشدها واستقلالها بذاتها تلزم الجماعة أن تختار القيادة من بين الأقران، ذاك أوان الشورى والرجولة، وفي هذه المرحلة تظهر ثمار التربية من تمكن الرجال في أخلاق الصدق والتعاون، ونبذ حب الرئاسة، والتنازل عن الرأي الشخصي لتبني رأي الأغلبية. فلا حياة للجماعة حاضرا ومستقبلا إلا بهذه الناظمة الواسطة بين ناظمتي المحبة والطاعة وهي الشورى، الشورى هي العماد (على صعيد الفكر والفهم والرأي والسياسة) (المنهاج النبوي، ص87) وهي كلية إلى جانب العدل والإحسان.
الشورى وانتخاب الأمين العام بعد رحيل الإمام
تحدث الإمام بوضوح عن أمر خلافته وحذر من أمرين عبر عنهما بالسؤال: هل يتصارع الناس وكل واحد يقول أنا لها، أنا لها؟ هل يتسابق الناس من بعدي؟ هل نسكت ونستصغر أنفسنا ونقول نحن لا نستطيع أن نخطو خطوة في هذا المهيع؟ فذكر أن الأمر يحسم إذا تلقينا الإشارة الإلهية في قوله تعالى: وأمرهم شورى بينهم، وكذا إذا رجعنا إلى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما خاب من استخار ولا ندم من استشار)، فأمرنا نبينا أن نتشاور ونسأل الله عز وجل أن ينير لنا الطريق.
سنة 2004، وفي إطار مشروع البناء الجديد، حيث تم وضع القوانين المنظمة لكل مؤسسات الجماعة، كان من الطبيعي إعداد قانون مجلس الإرشاد، فعرض على مجلس الشورى الدورة 13 وتم التصديق عليه، فجاء قانون انتخاب مجلس الإرشاد والمرشد العام انسجاما مع البناء الجديد للجماعة الذي أعيد النظر بموجبه في بعض الأشكال التنظيمية وبعض المؤسسات، مع الحفاظ على روح المنهاج النبوي، وتجاوز الشكل والعدد المدرجين في المنهاج، حيث يجتمع مجلس الشورى فيصوت على من اقترحهما مجلس الإرشاد اقتراحا مكتوبا يشهد فيه الله والمؤمنين على صدق نصيحته، ويمضيه كل واحد من أعضائه إلا المرشحين، وينصب مرشدا من حصل على ثلثي أصوات مجلس الشورى (السلوك، ص155)، فالمشورة (أمر بالمعروف ونهي عن المنكر، لكن المشورة النافعة هي التي تنتهي فكريا وعاطفيا بعد التصويت واتخاذ القرار، فينصرف كل إلى مهمته، لا التي تترك أصداء الغل والحزازات نعوذ بالله) (المنهاج، ص40).
تم تفعيل قانون التصويت والانتخاب في الدورة الاستثنائية دجنبر 2012 التي تلت وفاة الإمام رحمه الله تعالى، بهيئة ناخبة موسعة تضم مجلس الشورى وفعاليات وفق المسطرة المنظمة، وتم كذلك استبدال الأمين العام بالمرشد العام، وهو استبدال كان يلح عليه رحمه الله منذ 1998. يقول الأستاذ عبد الكريم: (بعد الإعلان عن وفاة الإمام المرشد رحمه الله وحقق رجاءه في أهله وذريته وجماعته، عقد مجلس الشورى والهيئة الناخبة الدورة الاستثنائية لانتخاب الأمين العام، 22-23 دجنبر 2012 يومان بنهارهما وليلهما لتدبير أمر الخلف لمن كان سببا في خروج الجماعة من العدم إلى الوجود، ثم أصبح لها بعد ذلك والدا ومعلما ومربيا، وشاء الله أن يصطفي لهذه الخلافة عن المرشد المؤسس الأستاذ محمد العبادي الذي انتخبه الإخوة والأخوات أمينا عاما للجماعة بما يفوق ثلثي نسبة الأصوات، ولقد كان اختيارا ربانيا فرح له المؤمنون والمؤمنات)، (جاء به الحكيم العليم في هذا الزمان ليقف على أعظم ثغر من ثغور الجماعة ومهمة هي عظمى من مهامها: جمع القلوب والوقوف بباب الله وقوفا دائما) (السلوك، ص169)، فكان (قيادة محبوبة، مربية، مطاعة… قيادة تشع من ربانيتها معاني الرحمة والذلة على المؤمنين والشدة على عدوهم، ويشع من علمها نور التوفيق للرأي السديد والاجتهاد الرشيد، ويشع من حفظها لحدود الله مهابة معنوية تجعل طاعتها وفدائها بالأنفس مطلبا عزيزا) كما قال الإمام رحمه الله تعالى في كتابه جماعة المسلمين ورابطتها (ص95).
محاذير
حذر رحمه الله تعالى من مجموعة أمور تحول دون تحقيق الغاية من الصحبة والجماعة:
– انفصال الصحبة عن الجماعة: (إن الصورة المناقضة والمنافية لوحدة الصحبة والجماعة هي ازدواجية الأمر الواجب اقترانه وتلازمه، فتصبح الصحبة في جهة والجماعة في جهة أخرى، وفي هذا نزول بالصحبة وبالجماعة معا عن سمو المنهاج النبوي في التربية الإحسانية الكملى الجامعة لعروج الروح في سماء الإحسان، وجهاد العقول والجسوم، انطلاقا من ذلك العروج الروحي لإقامة دنيا الناس. (لا نبحث عن صحبة خارج جماعة، ولا عن جماعة خارج صحبة). فكل صحبة ليست من خصائصها الأساسية جمع الجماعة والحفاظ على قوتها الجهادية الاقتحامية صحبة ضعيفة ناقصة بمعيار السلوك الجهادي الجماعي التابع للنموذج الخالد. كما أن الجماعة إذا تخلت عن لب الصحبة وجوهرها ونورها، لا تلبث أن تصبح جثة بلا روح ولو بقي لها شبه حياة حينا من الدهر) (السلوك، 122_123)، ومن ثم فالشرطان الأساسيان الحاسمان في حياة الأمة وإمامتها صحبة في الله تجمع الجماعة، وجماعة ينجمع أعضاؤها على الله مع الجهاد في سبيل الله (السلوك، 123).
– التنافس المرضي والأنانية الفردية، لأنها تقضي على الجماعة وعلى الروح الجماعية، الأنانية وحدها مذمة ومنقصة كبرى، نعت الفردية من نزوع شيطاني إلى تشتيت الإرث المعنوي ويؤدي إلى التفريق والتمزيق، وإلى محاربة لب الجماعة وجوهرها، وهو الجمع والانجماع، والطمأنينة والسكينة النابعتان من تعاطف وتواد الجسد الواحد.
– الركون إلى الأحوال الجسدية والنفسية أو طغيان “جدبة الأنوار” كما أسماها رحمه الله تعالى، والانبهار بالغيبيات النورانية، فصاحب الأنوار محجوب إن لم يوف الشريعة حقها، ووقف على باب الشارع الكريم صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا، حالا ومقالا، نية وعملا (السلوك، ص 110).
– الكبر والتكبر والتشوف إلى الرئاسة على الخلق، وأخطرها الرئاسة الروحية والمشيخة الدينية، وهذا فيه خراب للآخرة، وهو من شيم النفوس الحابطة الهابطة. يقول الإمام رحمه الله تعالى: (وما خذلك في سيرك إلا نفسك وترهاتها وتعاظمها وكبرياؤها) (الإحسان، 2-390).
– سوء الخلق مناف للصحبة، حيث ذكر رحمه الله تعالى أن غياب البر وحسن الخلق من مجموع المؤمن تسقط أهليته للعضوية، لأنه لا صحبة مع سوء الخلق والانفعال الغضبي (المنهاج، ص145).
– اعتقاد العصمة من الخطأ في القيادة وأنها منزهة عن النصح والنقد مما لا يتنافى مع التعظيم والتقدير.
– أن تغطي شخصيات المؤمنين الأعين عن الأصل وهو الشخص القائد النبي صلى الله عليه وسلم وسنته وسنة الخلفاء الراشدين من صحابته، فيكون الرجال الأفذاذ حجابا عن مصدر كل تشريع.
– الجمود المنافي للاجتهاد، يقول الإمام في الحوار الشامل: (على الناس في زماني وبعد زماني، في هذه الجماعة وفي غيرها، أن ينتقدوا وأن يحللوا، وأن يردوا، وأن يأخذوا، وأن يطوروا، وأن يحوروا فذلك ما أريده. وأرجو ألا يقف أحد معي فأنا أحاجه عند الله عز وجل إن اتخذ فكري وثنا وصنما) (حوار شامل مع الإمام، ص 40).
– الخلاف الغضبي الذي مقصده الشفوف على الأقران وحب الظهور: يقول رحمه الله تعالى: (الولاية بين المؤمنين قرب وتحاب وتناصر، والخلاف الغضبي بعد ووحشة وتخريب للأخوة المؤلفة والطاعة الجامعة، وكل مؤمن لا يملك نفسه ولا يضبطها لا يستحق عضوية الجماعة مهما كان مجموعه من الخصال العشر وشعب الإيمان جيدا) (المنهاج، 134).
وقال رحمه الله تعالى: (فإذاً جماعتنا الصحبة في الجماعة أو صحبة في جماعة أي نعظم إخواننا ونحب إخواننا ونريد لهم الخير، وتكون قلوبنا صافية وإلا فإذا كانت القلوب كدرة فإنها لا تبلغ ولا توصل).
خاتمة
أختم هذه الكلمة بالسؤال نفسه عنوان المداخلة، وماذا بعد؟
الجماعة أمانة في الأعناق، كيف نكون تلك الحلقة الرابطة بين جيل التأسيس وجيل المستقبل بامتداده في الزمان؟ كيف نبلغ معاني الإحسان الكامل والعدل الشامل في ظل الصحبة والجماعة والصحبة في الجماعة؟
صحبة الإمام عبد السلام ياسين لم تنقطع ولن تنقطع إن شاء الله تعالى بما أودعه في قلوب أبناء وبنات الجماعة من نور ومعرفة، وبما تركه رحمه الله تعالى فيهم بتوفيقه من علم ينتفع به، وأعلاه العلم بالله وبالطريق إليه والدلالة عليه. أمران متلازمان: هم جمع القلوب على الله لتكون لها حاجة إلى الله شوقا ومعرفة، وهم جمع الجماعة في الله وعلى الجهاد في سبيل الله، وهو تلازم كما عمل رحمه الله عقودا على تحقيقه في جماعة العدل و الإحسان وتركه إرثا مباركا فيها، عمل كذلك على مستوى جهاد الفكر والتنظير و الدعوة والتبشير ليستقر في حياة الأمة وفي سير وسلوك طليعة الأمة الجماعات العاملة للإسلام (السلوك، ص126). فالجماعة بفضل الصحبة جامعة للذكر المتبتل والحركية الجهادية والروحانية الربانية.