اللهم صل وسلم على سيدنا محمد النبي وآله وصحبه، الذي جعل الله عز وجل محبته من محبته، وطاعته من طاعته، وبيعته من بيعته، رسول الله ومصطفاه من خلقه، قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ قُلْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ سورة آل عمران، الآيتان: 31-32.
أولا. تخليص الصحبة شرط المحبة
“الصحبة يا رسول الله” بهذه الكلمات الجامعة لمعاني التفاني في الحب النبوي، فرح سيدنا أبو بكر رضي الله عنه -غاية الفرح- بصحبة خير خلق الله المصطفى الأمين صلى الله عليه وسلم. أخرج الإمام البخاري رحمه الله عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فقال له: “لا تعجل لعل الله يجعل لك صاحباً”، فلما أذن الله عز وجل لنبيه بالهجرة قدم على أبي بكر يخبره بالأمر فقال له أبو بكر: “الصحبة يا رسول الله”. فقال له: “الصحبة”، تقول سيدتنا عائشة رضي الله عنها: “فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ” 1.
يحل عيد المولد النبوي الشريف ويتجدد الوفاء وتعبق الأرواح بنسيم الحب والقرب النبوي، لوعة قلبية حبية للمصحوب الأعظم صلى الله عليه وسلم، من اشتاق إلى إخوانه، ففي الحديث الذي أخرجه الإمام أحمد في مسنده، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى المقبرة فسلم على أهلها، قال: سلام عليكم دار قوم مؤمنين وإنا إن شاء الله بكم لاحقون. وددت أنا قد رأينا إخواننا قالوا أو لسنا إخوانك يا رسول الله؟ قال بل أنتم أصحابي وإخواني الذين لم يأتوا بعد” 2.
فهل يكون احتفالنا بمولده صلى الله عليه وسلم إقامة محافل وترانيم موسمية تنقضي بانقضاء أيام الذكرى، لتذبل بعدها زهرة الحب الإلهي النبوي في قلوبنا؟ ! أم نجعلها مناسبة لتجديد العهد وتخليص الصحبة الصدّيقيَّة مع أهل الله، وراثة قلبية وسنة باقية في التابع والمتبوع، تحابا في الله ودلالة على الله، وحضورا وشهادة بالقسط بين الناس.
يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله “من تحت الرماد نقْتبس الجذوة الحُبيَّة، لا مناصَ من أخذ جَوهر ديننا عن الأكابر أهل المعرفة والنور، وإن محاولة تخطي عصور الرُّكام قفزاً بلا زاد قلبيٍّ يؤصل نسبتنا للنبوة والصحبة لَمغامرة في فضاء الإسلام الفكري الثقافي إلى غير وِجهةٍ” 3.
ولئن حال بين الأمة وبين المعين النبوي الفياض انقطاعات وتفريعات الفتنة، فبحوزتها والحمد لله على مر الأزمان تبشير نبوي باستمرار السلسلة النورانية، فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “يأتي على الناس زمان يغزو فيه فِئَامٌ من الناس فيقولون: هل فيكم من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون: نعم. فيُفتح لهم. ثم يأتي على الناس زمان، فيغزو فِئام من الناس فيقال: هل فيكم من صحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم. فيُفتح لهم. ثم يأتي على الناس زمان فيغزو فئام من الناس فيقال: هل فيكم من صحب من صحب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فيقولون نعم. فيُفتح لهم” 4.
ثـانيـا. الصحبة دعوة شاهدة بالقسط
قال الله عز وجل: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا 5.
لقد كان سلوك الصحابة رضوان الله عليهم معية سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سلوكا جهاديا جماعيا منظما يسير في الأمة بعزائم الهمم لا بمعسول الأماني، صدقا وذكرا، مدافعة وممانعة، منهم القائم والشهيد، فاستحقوا وسام الجيل القرآني الفريد، وكذلك ورثة المنهاج النبوي ينبغي أن يكونوا دعاة فعلة على بصيرة ورحمة، بفقه اجتهادي تجديدي، شاهدين بالقسط توسطا في أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم لإعادة بناء ما انتقض من عرى الإسلام.
يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله “المطلوب الآن وبعد الآن استجماع ما تفرق بعد زمان الصحابة، واكتساب الشخصية الجهادية الصحابيَّة، واستصحاب ما ترثه أجيالنا من علماء الدين الأولين والآخرين استئناسا به لا عبئا ثقيلا، اجتهادا نستضيء به نحن لنقول كلمتَنا من إزاء القرآن ومن مشارف الصحبة” 6.
ثالـثـا. قيم مثلى من العدل النبوي
ونحن تظلنا أنوار المولد النبوي الشريف، وجب أن نتذكر المبادئ التي أكد عليها المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن لا إكراه في الدين 7، وأن حق الحياة على هذه الأرض مكفول للجميع والأرض وضعها للأنام 8، عالم العيش الآمن دون إقصاء أو ظلم، عالم المحبة والحرية والعدالة، كما نص على ذلك دستور المدينة المنورة الذي حفظ الحقوق لكل مواطنيها على اختلاف دياناتهم ومعتقداتهم.
عن سيدنا أنس رضي الله عنه قال: “لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة أضاء منها كل شيء. فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء، وما نفَضْنا أيدينا من التراب، وإنا لفي دفنه، حتى أنْكَرْنَا قلوبنا” 9.
ما أحوجنا اليوم إلى أنوار الحب والعدل النبوي التي وسعت الإنسانية رحمة في العالمين وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين 10، نغالب بها تحديات الحاضر والمستقبل، لننقد الإنسانية المعذبة لتحيى النموذج النبوي الحي الخالد.