إن التحلي بالصدق يؤدي إلى السير بخطى سريعة نحو مراتب الإيمان، إذ هو القوة الدافعة والمحركة، وهو الصفة اللازمة لكل مقامات السلوك إلى الله تعالى. فأول مراحل السير هو صدق العبد في إنابته إلى ربه بالتوبة النصوح، التي هي أساس الأعمال الصالحة، وأول درجات الكمال.
قال العلامة القرطبي رحمه الله: (حق على من فهم عن الله تعالى أن يلازم الصدق في الأقوال، والإخلاص في الأعمال، والصفاء في الأحوال. فمن كان كذلك لحق بالأبرار ووصل إلى رضاء الغفار) 1.
فما هو الصدق؟
الصدق ضد الكذب. والصدق يثمر طمأنينة القلب وراحة الفكر، بينما الكذب يسبب القلق والشك والاضطراب وعدم الاستقرار. ولقد ندد الله تعالى بالمنافقين فقال عز وجل: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ 2. فمن صفات المنافق إذا حدث كذب.
وقد روي عن الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه قال: حفظت – وأنا صبي – من رسول الله صلى الله عليه وسلم: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة والكذب ريبة” 3.
وقال الأستاذ القشيري رحمه الله: (الصدق عماد الأمر وبه تمامه، وفيه نظامه، وهو ثاني درجة النبوة) مصداقا لقول الله تعالى: وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا 4“ 5.
إذ لا يعلو مقام الصديقية إلا مقام النبوة، فمقام الصديقية مقام الولاية الكبرى والخلافة العظمى، وهذا المقام تترادف فيه الفتوحات، وتعظم التجليات، وتتم المشاهدات والكشوفات، لكمال النفس وحسن صفائها.
قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله: (والصدق هو المنزلة العظمى، ويستخلص الله عز وجل الصادقين من مهاوي الخطأ وسواحق الضلال، يشفع لهم صدقهم) 6. مصداقا لقول الله تعالى: قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ 7.
في هذه الآية الكريمة يخبر سبحانه وتعالى أن العبد يجني ثمار صدقه، ويكون صدقه سبب نفعه ونجاته يوم القيامة.
وقال أيضًا رحمه الله: (الكينونة مع الصادقين التي حرض عليها القرآن الكريم، هي مدخل الصدق إلى سكة السلوك، هي الطابع على جواز السفر بمداد التقوى. قال الله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ 8.
فالله تعالى صادق في وعده، صادق في أمره ونهيه، والمبلغون عنه من رسل وأمناء صادقون. قل صدق الله 9. والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون 10) 11.
وليس الصادقون بمرتبة واحدة، بل هناك الصادق، وأعلى منه الصديق. قال أبوالقاسم القشيري رحمه الله: (أقل الصدق استواء السر والعلانية، والصادق من صدق في أقواله، والصديق من صدق في جميع أقواله وأفعاله وأحواله) 12.
والصديقية لها مراتب متفاوتة، بعضها أعلى من بعض، وقد نال أبو بكر الصديق رضي الله عنه ذروة سنام الصديقية، وشهد الله تعالى بذلك، فقال سبحانه: والذي جاء بالصدق وصدق به 13.
وقد ذكر حجة الإسلام الإمام الغزالي رحمه الله تعالى معاني الصدق قائلا: (للصدق معان ستة: صدق في القول، وصدق في النية والإرادة، وصدق في العزم، وصدق في الوفاء بالعزم، وصدق في العمل، وصدق في تحقيق مقامات الدين كلها. فمن اتصف بالصدق في جميع ذلك فهو صديق) 14.
وختاما، فالصدق يوصل إلى البر الذي يشمل كل الفضائل والكمالات التي تؤهل العبد لدخول الجنة، كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل دوام الاتصاف بالصدق مفتاحا لنيل مرتبة الصديقية، فقال عليه الصلاة والسلام: “إن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقا” 15.
[2] سورة محمد، الآية ٢٢.
[3] أخرجه الترمذي في كتاب صفة القيامة، وقال: حديث حسن صحيح.
[4] سورة النساء، الآية ٦٩.
[5] عبد السلام ياسين، الإحسان، الجزء الأول، الصفحة ٣٥٠.
[6] عبد السلام ياسين، الإحسان، الجزء الأول، الصفحة ٤٢٤.
[7] سورة المائدة، الآية ١١٩.
[8] سورة التوبة، الآية ١١٩.
[9] سورة آل عمران، الآية ٩٥.
[10] سورة الزمر الآية ٣٣.
[11] عبد السلام ياسين، الإحسان، الجزء الأول، الصفحة ٤٢٣.
[12] الرسالة القشيرية، الصفحة ٩٧.
[13] سورة المائدة، الآية ١١٣.
[14] إحياء علوم الدين، الجزء الرابع، ص ٣٣٤.
[15] أخرجه البخاري في كتاب الأدب ومسلم في كتاب البر عن ابن مسعود رضي الله عنه.