الصديقية مقام وسلوك

Cover Image for الصديقية مقام وسلوك
نشر بتاريخ

مقدمة

ذكر ابن القيم رحمه الله في مفتاح دار السعادة مراتب السعداء والكُمّل من الناس فقال: فأما مراتب الكمال فأربع: النبوة والصديقية والشهادة والولاية. وقد ذكرها الله سبحانه في قوله: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69].

سبب نزول الآية الكريمة، أنها نزلت في سيدنا ثَوْبان مَوْلى رسولِ اللهِ ﷺ، كان شديدَ الحُبِّ له، قليلَ الصبرِ عنه، فأتاه ذاتَ يومٍ وقد تَغَيَّرَ لونُه، يُعْرَفُ الحُزْنُ في وجهِه، فقال له رسولُ اللهِ ﷺ: ما غَيَّرَ لَوْنَكَ؟ فقال: يا رسولَ اللهِ، ما بي مَرَضٌ ولا وَجَعٌ؛ غيرَ أني إذا لم أَرَكَ اسْتَوْحَشْتُ وَحْشَةً شديدةً حتى ألقاك، ثم إني إذا ذَكَرْتُ الآخِرَةَ أخافُ أَلّا أراكَ لأنكَ تُرْفَعُ إلى عِلِّيِّينَ مع النَّبِيِّينَ؛ وإني إن دَخَلْتُ الجنةَ كنتُ في منزلةٍ أَدْنى من منزِلتِكَ، وإن لم أَدْخُلْها لم أَرَكَ أبدًا، فنزل قولُه تعالى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا [النساء: 69].

ومعنى الآية الكريمة، (ومن يطع الله) في أداء الفرائض، (والرسول) في السنن (فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين) أي لا تفوتهم رؤية الأنبياء ومجالستهم لأنهم يرفعون إلى درجة الأنبياء، (والصدّيقين) هم أفاضل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، والصديق المبالغ في الصدق، (والشّهداء) قيل: هم الذين استشهدوا في يوم أحد، وقيل: الذين استشهدوا في سبيل الله، وقال عكرمة: النبيون هاهنا: محمد صلى الله عليه وسلم والصديقون أبو بكر والشهداء عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم، (والصّالحين) سائر الصحابة رضي الله عنهم، (وحسن أولئك رفيقا) يعني: رفقاء الجنة، والعرب تضع الواحد موضع الجمع، كقوله تعالى: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا [غافر: 67] أي: أطفالا.

الغرض من إيراد هذه الآية هو الحديث عن مقام الصديقية، وبالنظر إلى الآية نجد أن هذا المقام يأتي مباشرة بعد مقام النبوة. والصديقية هي أعلى مرتبة يمكن أن يصل إليها المؤمن ويرتقي إليها ويطلبها دون مرتبة النبوة.

تعريف الصِّديق

قال القرطبي رحمه الله: “الصِّدِّيقُ: فِعِّيلٌ، الْمُبالِغُ فِي الصِّدْقِ أو في التَّصْدِيقِ، وَالصِّدِّيقُ هو الذي يُحَقِّقُ بِفِعْلِهِ مَا يَقُولُ بِلِسانِهِ، وقِيلَ: هُم فُضَلاءُ أتْباع الأنبياء الذين يسبقونهم إلى التصديق؛ كأبي بكر الصديق رضي الله عنه”، وقال السعدي رحمه الله: “الصِّدِّيقون: هم الذين كملوا مراتبَ الإيمان، والعمل الصالح، والعلم النافع، واليقين الصادق”.

وقال ابن القيم رحمه الله: “فالصِّدِّيقُ هو الذي صَدَقَ في قوله وفِعْلِه، وصَدَّقَ الحقَّ بقولِه وعَمَلِه، فقد انجذَبَتْ قواهُ كُلُّها للانقياد لله ولرسوله”، ودرجاتُ الصِّدِّيقينَ تتفاوَتُ؛ لأنَّ الإيمان ليس له حَدٌّ ينتهي إليه؛ بل إنه يَزيدُ بالطاعة، وينقُص بالمعصية، وهذا مُعتقَدُ أهل السنة والجماعة، فمن ظنَّ أن هناك درجاتٍ إيمانيةً يقِفُ عندها المؤمن صِدِّيقًا كان أو صالحًا، فقد أخطأ؛ قال تعالى: لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ [المدثر: 37].

قال ابن القيم رحمه الله كذلك: “فإن لم يكن في تقدُّم، فهو في تأخُّرٍ ولا بُدَّ، فالعَبْدُ سائرٌ لا واقِفٌ، فإمَّا إلى فوق وإمَّا إلى أسفل، إمَّا إلى أمام وإمَّا إلى وراء، وليس في الشريعة أو الطبيعة وقوفٌ البتة”.

نماذج من الصّديقين

بمقتضى الآية المذكورة أعلاه فإن النبيّ يمكن أن يكون صديقا، بينما غير النبي من الصديقين لا يمكن أن يكون نبيا. وقد وردَتْ في القرآن الكريم بهذا المعنى؛ فمن الأنبياء المذكورين في القرآن بأنهم كانوا صدّيقين، هم:

– سيدنا يوسف عليه السلام، قال تعالى: يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ [يوسف: 46]. والصديق: هو الإنسان الذي صار الصدق دأبه وشيمته في كل أحواله، ووصفه بذلك لأنه جرب منه الصدق التام أيام أن كان معه في السجن.

– وسيدنا إدريس عليه السلام، قال الله تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا [مريم: 56]. جمع الله له بين الصديقية، الجامعة للتصديق التام والعلم الكامل واليقين الثابت والعمل الصالح، وبين اصطفائه لوحيه واختياره لرسالته.

– وسيدنا إبراهيم عليه السلام: قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا [مريم: 41]. جمع الله له بين الصديقية والنبوة. فالصديق: كثير الصدق، فهو الصادق في أقواله وأفعاله وأحواله، المصدق بكل ما أمر بالتصديق به. وذلك يستلزم العلم العظيم الواصل إلى القلب، المؤثر فيه، الموجب لليقين، والعمل الصالح الكامل.

أما من ذُكر من الصديقين ولم يكونوا أنبياء فسيدتنا مريم عليها السلام، قال الله تعالى: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المائدة: 75]. [وَأُمّهُ] مريم [صِدِّيقَةٌ]، أي: هذا أيضا غايتها، أن كانت من الصديقين الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد الأنبياء. والصديقية، هي العلم النافع المثمر لليقين، والعمل الصالح. وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية، بل أعلى أحوالها الصديقية، وكفى بذلك فضلا وشرفا.

وكذلك سائر النساء لم يكن منهن نبية، لأن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين، في الرجال كما قال تعالى: وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُّوحِي إِلَيْهِمْ.

ويُفهم من هذا أيضا أن مقام الصديقية ليس حصرا وحكرا على الرجال فقط، بل هو مقام مفتوح للرجال والنساء على حدّ سواء للتنافس والتسابق نحو طلبه وتحقيقه.

ومن الصحابة رضي الله عنهم أشار القرآن إلى سيدَنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه. يقول الله تعالى: وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ [الزمر: 33]. قال السدي: “والذي جاء بالصدق” جبريل عليه السلام جاء بالقرآن، “وصدق به” محمد صلى الله عليه وسلم تلقاه بالقبول. وقال الكلبي وأبو العالية: “والذي جاء بالصدق” رسول الله صلى الله عليه وسلم “وصدّق به” أبو بكر رضي الله عنه.

جاء في الحديث عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها أنه “لمّا أُسْريَ بالنَّبيِّ ﷺ إلى المَسجِدِ الأقْصى أصبَحَ يَتحدَّثُ النّاسُ بذلك، فارتَدَّ ناسٌ ممَّن كانوا آمَنوا به وصَدَّقوه، وسعَوْا بذلك إلى أبي بَكرٍ رَضيَ اللهُ عنه، فقالوا: هل لكَ إلى صاحِبِكَ يَزعُمُ أنَّه أُسْريَ به اللَّيلةَ إلى بَيتِ المَقدِسِ، قالَ: أو قالَ ذلك؟ قالوا: نعمْ، قالَ: لَئنْ كانَ قالَ ذلك لقد صدَقَ، قالوا: وتُصدِّقُه أنَّه ذهَبَ اللَّيلةَ إلى بَيتِ المَقدِسِ وجاءَ قبلَ أنْ يُصبِحَ؟ قالَ: نعمْ، إنِّي لأُصدِّقُه فيما هو أبعَدُ من ذلك، أُصدِّقُه بخَبرِ السَّماءِ في غَدْوةٍ أو رَوْحةٍ؛ فلذلك سُمِّيَ أبو بَكرٍ الصِّدِّيقَ”.

كيف أكون صدّيقا

هذا هو السؤال المهم الذي يحتاج إلى التفكير فيه للإجابة عليه، وهو: كيف أكون صديقا؟ أو كيف أكون من الصديقين ومع الصديقين؟

بعد التفكير في الإجابة وفقنا إلى أمور ثلاثة، نسمّيها شروطا أو أركانا أو مقتضيات أو غير ذلك، وهي:

أولا: أن أكون صادقا في إيماني: يقول الله تعالى: وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ [الحديد: 19] يقول الطبري: “والذين أقرُّوا بوحدانية الله وإرساله رُسُلِه، فصَدَّقُوا الرسل، وآمنوا بما جاؤوهم به من عند ربِّهم أولئك هم الصِّدِّيقون”.

ثانيا: أن أكون صادقا في عبادتي: عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأديت الزكاة، وصمت رمضان وقمته، فممّن أنا؟ قال: “من الصديقين والشهداء” 1.

ثالثا: أن أكون صادقا في معاملاتي: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: “التاجِرُ الأمينُ الصَّدُوق مع النبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداء يوم القيامة” 2. وما ينطبق على التاجر ينطبق كذلك على باقي الموظفين والمهنيين والعمال، أن تتوفر فيهم وفي أعمالهم الأمانة والصدق.

بهذه الأمور الثلاثة تكون المعادلة التي تحقق لنا مقام الصديقية قد جمعت بين العقيدة والشريعة والمعاملات، أو بين الإيمان والعبادة والأخلاق.

خاتمة

الصديقية ليست قفزا على مراحل وليست تحليقا على مراتب الكمال، بل هي سلوك ومسافات تقطع، واجتهاد ومجاهدة، وصبر ومصابرة، وارتقاء واقتحام، من صادق إلى صدوق إلى صدّيق. والصِّدِّيق أبلغ من الصَّدُوق، والصَّدُوق أبلَغُ من الصَّادِق. فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حتّى يَكونَ صِدِّيقًا. وإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النّارِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَكْذِبُ حتّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللَّهِ كَذّابًا” 3.

فالحديث في حالة الصدق وتحري الصدق في حياتنا؛ في أقوالنا وأفعالنا وأحوالنا، يرتقي بنا إلى مقام الصديقية، أما في حالة الكذب والعياذ بالله فيتدلى بنا إلى درك النفاق عافانا الله منه.


[1] رواه البزار وابن خزيمة وابن حبان في صحيحيهما وصححه الألباني.
[2] رواه الترمذي والدارمي والحاكم.
[3] رواه البخاري ومسلم.