“الصلاة راحة ولذة لا يعلمها إلا مقيمها بصدق وخشوع”.. عبارة لطالما تكررت في أذني لكنني لم أعرها اهتماما، فقد كنت مشغولا، مشغولا جدا.. أو بالأحرى غافلا، فمن سيلعب لي ألعاب الفيديو، و”كيم” التي لا تنتهي مبارياتها وإشهاراتها، وتصفيات الدوريات التي تنظم بشكل محترف ومُغر، فلم أكن أضغط زر “التوقف” حتى أسمع المؤذن يعلن نهاية الليل وبداية النهار فأطفئه مضطرا، مسكرا بالعياء والسهر، متوعدا بالمزيد والمزيد من اللعب بعد أن أستريح، فأسقط مغشا علي، لا أعرف أين أنا وماذا أفعل، حتى أني ذات يوم تهاويت على طولي في ردهة البيت قبل أن أصل إلى فراشي وغطت في سبات عميق، وحين أفيق من سكرتي أشعر بصداع ثقيل في رأسي وأصوات تتضارب في أذني ودوخة كبيرة، أما عيناي فأجدهما ملتهبتان كالبركان وشعيراتهما شديدة الاحمرار تكاد تنفجر كحممه، فلا مأكلي ولا مشربي ولا ملبسي ولا نومي ولا حياتي كلها.
ووالدي المسكينان يعرفان أن سن المراهقة سن حرجة فلا يفتران عن وعظي، لكني كنت مغيبا؛ أرى الحزن باد على محياهما، والغم والهم يأكل تقاسيم وجهيهما، لكنهما صبرا وصابرا وتسلحا بالتوكل على الله وهما يران ابنهما يضيع وينفلت من بين أيديهما. لقد كانا لي خيرا حاضنٍ في غفلتي، كان الصبر والصدقة والدعاء ديدنهما في هذه المرحلة، حتى أني سمعت والدتي ذات ليلة تناجي الله وتقول بهمس: اللهم إليك أشكو بثي وهمي وضعفي وقلة حيلتي وغفلة ابني، اللهم رد لي ابني ردا جميلا، اللهم إني أسميته إسماعيل تيمنا بنبيك إسماعيل ليكون بارا بوالديه وليكون مقيم الصلاة ومؤتي الزكاة مثله، نزل علي هذا الدعاء كالماء البارد وترك في قلبي غصة، فحدثتني نفسي بالتوبة، ولكن سرعان ما تذكرت أن هناك مباراة لم أنهها وإن خسرتها فسيفوز الخصم ب10000 نقطة، فضاعت توبتي وسوفت… كما لو أني أملك مفاتيح الموت وأتحكم بنهاية حياتي.
حتى وضع الله في طريقي أحمد؛ ذلك الصديق الصدوق الذي يشع نورا، كلما تقابلنا أجد وجهه يتلألأ بشرا بابتسامة دائمة لا تزعزعها الجبال، فيسبقني بالمصافحة والعناق ويجلسني قربه، لا يتأفف من رائحتي ولا يضجر من سماع همي، فكنت أحس بالراحة معه وأشكو له همومي.
قلت له يوما: “والله يا أحمد! بدأ الأمر فضولا وحب استطلاع وأصبح مع الوقت إدمانا، فهذه الألعاب الإلكترونية سرقت وقتي كله، ولم تعد تكفيني 24 ساعة في اليوم، بل وصلت الليل بالنهار؛ فأجدني أجلس يومان أو أكثر معها حتى يغمى علي من شدة النعاس والتعب، وإن مرت ساعة لم ألعب فيها أفقد أعصابي وأضيق ذرعا بنفسي وبالعالم حولي، فلا أرتاح حتى أضغط زر التشغيل، ولقد حاولت مرارا وتكرارا أن أقطع مع هذه العادة، ولكنها تغلبني فلا أزداد إلا لهفا وراءها، وأنا أرى صحتي ودراستي، بل حياتي مستقبلي يضيع”.
قال لي يومها: “لا عليك يا إسماعيل، هون عليك، واجعل كل هذه الهموم هما واحدا، واجمع همك على الله”.
فأجبته: “كيف؟”.
قال: “ابدأ بالأساس المتين وعماد الدين، ابدأ بالصلاة، لا تغير شيئا آخر في حياتك، فقط صل! واجعل منبهات في أوقات الآذان تكون لك حافزا لإقامة الصلاة في المسجد، وسآتي لاصطحابك خصيصا في صلاة الصبح”.
ابتسمت وأحسست به حلا سهلا أمام مشكلتي وكل هذه الفوضى في حياتي. فقلت: “هل تكفي الصلاة وحدها لتغيير حياتي؟”.
قال أحمد مبتسما: “لن تغير حياتك فقط، بل ستقلبها 180 درجة. ستحييها وتزيدها جمالا وحلاوة، فقط كن صادقا وتوكل على الله وثق بي”.
هذا بالضبط ما فعلت؛ تحريت الصدق وتوكلت على ربي عز وجل ووثقت بأحمد، فرأيت عجبا؛ حببت إلي الصلاة حبا شديدا، فلا أكاد أفرغ منها حتى أفتقدها، ولا أمل من التردد على المسجد، فدخلت قلبي ولم ترضَ أن يزاحمها فيه شيء، فهانت علي الألعاب وأصبحت أمر عليها مرور الكرام رويدا رويدا حتى تركتها، وبارك الله في وقتي فحفظت القرآن لأجد ما أصلي به، وأصبحت أجلس مع والداي فأملّي عيناي بالنظر إليهما؛ نتحدث عن دراستي، وأشاورهما في مستقبلي، ونمزح ونضحك، وكلما رأيت ثغرهما باسما وسنهما ضاحكا أحسست بطعم الفرج بعد الضيق، وبالفرح ممزوجا بالبكاء.
فعلا للصلاة راحة ولذة لا يعلمها إلا مقيمها بصدق وخشوع، وهي مفتاح لكل خير.