ذكر المواطن التي يتأكد ويستحب فيها الصلاة على النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم -4-
- عند الذبيحة: وقد اختلف في هذه المسألة فاستحبها ابن شاقلا والشافعي. قال الشافعي: والتسمية على الذبيحة بسم الله، فإن زاد بعد ذلك شيئا من ذكر الله تعالى فالزيادة خير، ولا إكراه مع تسميته على الذبيحة أن يقول: صلى الله على رسول الله، بل أحبه له، وأحب أن يكثر الصلاة عليه على كل الحالات، لأن ذكر الله بالصلاة عليه إيمان بالله وعبادة له يؤجر عليها إن شاء الله تعالى من قالها.
وقال ابن القيم: أما حديث معاذ بن جبل.. (موطنان لا حظ لي فيهما عند العطاس والذبح) أنه لم يثبت لثلاث علل وذكرها.
- لمن لم يكن له مال فتجزئ الصلاة عليه عن الصدقة للمعسر: عن أبي سعيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما رجل لم يكن عنده صدقة فليقل في دعائه: اللهم صل على محمد عبدك ورسولك وصل على المومنين والمومنات والمسلمين والمسلمات، فإنها زكاة) وقد تقدم ذكر هذا الحديث.
- عند النوم: قال أبو الشيخ في كتابه: قال أبو قرصافة سمعت رسول اله صلى الله عليه وسلم يقول: (من آوى إلى فراشه ثم قرأ تبارك الذي بيده الملك ثم قال: اللهم رب الحل والحرام ورب الركن والمقام، ورب المشعر الحرام، بحق كل آية أنزلتها في شهر رمضان، بلغ روح محمد صلى الله عليه وسلم مني تحية وسلاماً. أربع مرات، وكل الله تعالى الملكين حتى يأتيا محمدا صلى الله عليه وسلم فيقولان له يا محمد إن فلان ابن فلان يقرأ عليك السلام ورحمة الله، فيقول: وعلى فلان مني السلام ورحمة الله وبركاته) قال السخاوي: رواه أبو الشيخ ومن طريقه الديلمي في مسند الفردوس وكذا الضياء في المختارة وقال: لا أعرف هذا الحديث إلا بهذه الطرق. وهو غريب جدا، وفي رواته من فيه بعض المقال.
– عند القيام من النوم وبعد الفراغ من التهجد: قال النسائي في سننه الكبير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (يضحك الله عز وجل إلى رجلين، رجل لقي العدو هو على فرس من أمثل خيل أصحابه فانهزمواْ وثبت، فإن قتل استشهد، وإن بقي فذلك الذي يضحك الله إليه، ورجل قام في جوف الليل، لا يعلم به أحد فتوضأ وأسبغ الوضوء، ثم حمد الله ومجده وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم واستفتح القرآن، فذلك الذي يضحك إليه، يقول: أنظرواْ إلى عبدي قائماً لا يراه أحد غيري) أخرجه عبد الرزاق بسند صحيح.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: [من قام من الليل فتوضأ فأحسن الوضوء ثم كبر عشراً وسبح عشراً وتبرأ من الحول والقوة على ذلك ثم صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فأحسن الصلاة لم يسأل الله تعالى شيئاً إلا أعطاه الله إياه من الدنيا والآخرة] أخرجه عبد الملك بن حبيب.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من قرأ القرآن، وحمد الرب، وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم، واستغفر ربه، فقد طلب الخير مكانه) رواه البيهقي في الشعب وفيه أبار بن عياش وهو ضعيف.
- عند شم الورد الأحمر: لرواية ذكرها بن عظوم المغربي في تنبيه الأنام: (من شم الورد الأحمر ولم يصل علي فقد جفاني).
- في شعبان شهر رسول الله صلى الله عليه وسلم: قال الحافظ السخاوي في القـول البديع: فعقد له ابن أبي الصيف الفقيه اليمني في جزء له في فضل شعبان باباً قال فيه: روي عن جعغر الصادق رضي الله عنه أنه قال: [من صلى على النبي صلى الله عليه وسلم في شعبان كل يوم سبعمائة مرة يوكل الله تعالى ملائكة ليوصلوها إليه وتفرح روح محمد صلى الله عليه وسلم بذلك ثم يأمر الله أن يستغفرواْ له إلى يوم القيامة].
ثم قال: وروي عن طاوس اليماني أنه قال سألت الحسن بن علي رضي الله عنهما عن ليلة الصك يعني ليلة النصف من شعبان وعن العمل فيها فقال: [أنا أجعلها أثلاثاً فثلث أصلي فيه على جدي النبي صلى الله عليه وسلم ائتماراً لأمر الله عز وجل حيث يقول: يا أيها الذين آمنواْ صلواْ عليه وسلمواْ تسليماً، وثلث أستغفر الله تعالى فيه مثنى مثنى لقوله تعالى: وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون، وثلث أركع فيه وأسجد لقوله تعالى: واسجد واقترب. فقلت وما ثواب من فعل ذلك؟ قال سمعت أبي يقول: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (من أحيى ليلة الصك كتب من المقربين) يعني الذين في قوله تعالى: فأما إن كان من المقربين. قال السخاوي: ولم أقف له على أصل أعتمده والله أعلم.
- في الرسائل وبعد البسملة وعند كتابة الفتيا: أما الصلاة عليه في الرسائل وبعد البسملة من سنة الخلفاء الراشدين أمر بها سيد المرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم. ذكره الحافظ أبو الربيع وغيره عن ردة بني سليم أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب إلى طريفة ابن حاجز عامله عليهم: بسم الله الرحمان الرحيم من أبي بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى طرفة بن حاجز سلام عليك فإني أحمد إليك الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلي على محمد صلى الله عليه وسلم، أما بعد إلى آخر الكتاب. وقد مضى عليه عمل الأمة في أقطار الأرض من أول ولاية بني هاشم ولم ينكر ذلك ومنهم من يختم به الكتاب.
وقال النووي رحمه الله في الروضة من زوائده يستحب عند إرادة الإفتاء أن يستعيذ بالله من الشيطان ويسمي الله تعالى ويحمده ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويقول لا حول ولا قوة إلا بالله ويقول: رب اشرح لي صدري ويسر لي أمري واحلل عقدة من لساني يفقهواْ قولي … واستحبواْ الصلاة عليه عند كتابة الوصية وعند عقد البيع.
- عند وقوع الطاعون: نقل ابن أبي حجلة عن ابن خطيب يبرود أن رجلا من الصالحين أخبره أن كثرة الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم تدفع الطاعون وقال أعني ابن حجلة أنه تلقى ذلك بالقبول وأنه جعل في كل حين يقوم يقول: [اللهم صل على محمد وعلى آل محمد صلاة تعصمنا بها من الأهوال والآفات وتطهرنا بها من جميع السيئات] ثم استدل على أصل المسألة بأمور خمسة أحدها: قوله في الحديث: (إذا تكفى همك)، وثانيها: قوله في قصة الجمل المسروق: (نجوت من عذاب الدنيا والآخرة)، وثالثها: [أن الصلاة من الله رحمة وأما الطاعون فهو وإن كان في حق المومنين شهادة ورحمة فقد كان في الأصل رجز وعذاب والرحمة والعذاب ضدان فلا يجتمعان]، رابعها: قوله في الحديث: (إن أنجاكم من أحوالها ومواطنها يوم القيامة أكثركم علي صلاة في الدنيا) فإذا كانت تدفع أهوال يوم القيامة، فدفعها للطاعون الذي هو من أهوال الدنيا من باب أولى، خامسها قوله: (إن المدينة لا يدخلها الطاعون ولا الدجال) إنما كان سببه بركته صلى الله عليه وسلم، فكانت الصلاة عليه أيضاً سبباً لرفعه.
- الصلاة عليه في كل موضع وفي الأحوال كلها:
روح المجالس ذكره وحديثه ** وهـدى لكل متـلذذ حيران
وإذا أخل بذكره في مجلـس ** فأولئك الأموات في الحيـان
حكى الشيخ أبو حفص عمر بن الحسن السمرقندي فيما روى عن بعض أستاذيه عن أبيه قال سمعت رجلا في الحرم وهو كثير الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم حيث كان من الحرم والبيت وعرفة ومنى فقلت أيها الرجل إن لكل مقام مقالا فما بالك لا تشتغل بالدعاء ولا بالتطوع ولا بالصلاة سوى أنك تصلي على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: [خرجت من خراسان حاجاً إلى البيت وكان والدي معي، فلما بلغنا الكوفة اعتل والدي وقويت عليه العلة فمات، فلما مات غطيت وجهه بإزار ثم غبت عنه، وجئت إليه فكشفت وجهه لأراه فإذا صورته كصورة الحمار، فحين رأيت ذلك عظم عندي وتشوشت بسببه وحزنت حزناً شديداً وقلت في نفسي: كيف أظهر للناس بهذا الحال الذي صار والدي فيه وقعدت عنده مهموماً فأخذتني سنة من النوم فنمت فبينما أنا نائم إذ رأيت في منامي كأن رجلا دخل علينا وجاء إلى عند والدي وكشف عن وجهه فنظر إليه ثم غطاه ثم قال لي: ما هذا الغم العظيم الذي أنت فيه؟ فقلت: وكيف لا أغتم وقد صار والدي بهذه المحنة، فقال: أبشر إن الله قد أزال عن والدك هذه المحنة، قال: ثم كشفت عن وجهه فإذا هو كالقمر الطالع، فقلت للرجل: بالله عليك من أنت فقد كان قدومك مباركاً؟ فقال: أنا المصطفى، فلما قال ذلك فرحت فرحاً عظيماً وأخذت بطرف ردائه فلففته على يدي وقلت بحق الله يا سيدي يا رسول الله إلا أخبرتني بالقصة، فقال: إن والدك آكل الربا وإن من حكم الله عز وجل أن من أكل الربا يحول الله صورته عند الموت كصورة حمار إما في الدنيا وإما في الآخرة، ولكن كان من عادة والدك أن يصلي علي كل ليلة قبل أن يضطجع على فراشه مائة مرة، فلما عرضت له هذه المحنة من أكل الربا جاء الملك الذي يعرض علي أعمال أمتي فأخبرني بحالة والدك، فسألت الله فشفعني فيه. قال: فاستيقظت فكشفت عن وجه والدي فإذا هو كالقمر ليلة بدره، فحمدت الله وشكرته، وجهزته ودفنته وجلست عند قبره ساعة، فبينما أنا بين النائم واليقظان، إذا أنا بهاتف يقول لي: أتعرف بهذه العناية التي حفت والدك ما كان سببها؟ قلت: لا، قال: كان سببها الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم. فآليت على نفسي أنني لا أترك الصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم على أي حال وفي أي مكان كنت].
ونحوه عند ابن بشكوال عن عبد الواحد بن زيد قال: خرجت حاجاً فصحبني رجل، فكان لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له في ذلك، فقال أخبرك عن ذلك: خرجت منذ سنيات إلى مكة ومعي أبي، فلما انصرفنا قِلْنا في بعض المنازل، فبينما أنا نائم إذ أتاني آت فقال لي: قم أمات الله أباك وسود وجهه! قال: فقمت مذعوراً فكشفت الثوب عن وجه أبي فإذا هو ميت أسود الوجه، فدخلني من ذلك رعب، فبينما أنا على ذلك من الغم إذ غلبتني عيناي فنمت فإذا أنا على رأس أبي بأربعة سودان معهم أعمدة من حديد عند رأسه وعند رجليه وعن يمينه وعن شماله، إذ أقبل رجل يمشي حسن الوجه بين ثوبين أخضرين فقال لهم: تنحواْ، فرفع الثوب عن وجهه، فمسح وجهه بيديه ثم أتاني فقال لي: قم فقد بيض الله وجه أبيك، فقلت من أنت بأبي وأمي؟ قال: أنا محمد صلى الله عليه وسلم، فكشفت الثوب عن وجه أبي فإذا هو أبيض الوجه، فأصلحت من شأنه ودفنته.
ومما يقرب من هذه الحكاية ما حكاه سفيان الثوري قال: [رأيت رجلا من أهل الحج يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له: هذا موضع الثناء على الله عز وجل فقال: ألا أخبرك أنني كنت في بلدي ولي أخ قد حضرته الوفاة فنظرته فإذا وجهه قد اسود وتخيلت أن البيت قد أظلم فأحزنني ما رأيت من حال أخي فبينما أنا كذلك إذ دخل علي رجل البيت وجاء إلى أخي، ووجهُ الرجل كأنه السراج المضيء فكشف عن وجه أخي ومسه بيده فزال ذلك السواد وصار وجهه كالقمر فلما رأيت ذلك فرحت، قلت له: من أنت جزاك الله خيراً عما صنعت؟ فقال: أنا ملك موكل بمن يصلي على النبي صلى الله عليه وسلم أفعل به هكذا وقد كان أخوك يكثر من الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان قد حصلت له محنة فعوقب بسواد الوجه ثم أدركه الله عز وجل ببركة صلواته على النبي صلى الله عليه وسلم فأزال عنه ذلك السواد وكساه هذا].
وروى أبو نعيم وابن بشكوال عن سفيان الثوري أيضاً قال: [بينما أن حاج إذ دخل على شاب لا يرفع قدماً ولا يضع أخرى إلا وهو يقول: اللهم صل على محمد وعلى آل محمد. فقلت له: أبعلمٍ تقول هذا؟ قال: نعم، ثم قال: من أنت؟ قلت: سفيان الثوري، قال: العراقي، قلت: نعم، قال: هل عرفت الله؟ قلت: نعم، قال: كيف عرفته؟ قلت: بأنه يولج الليل في النهار ويولج النهار في الليل ويصور الولد في الرحم، قال: يا سفيان ما عرفت الله حق معرفته، قلت: وكيف تعرفه؟ قال: بفسخ العزم والهم ونقض العزيمة، هممت ففسخ همتي وعزمت فنقض عزمي فعرفت أن لي رباً يدبرني، قال قلت: فما صلواتك على النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: كنت حاجاً ومعي والدتي فسألتني أن أدخلها البيت ففعلت فوقعت وتورم بطنها واسود وجهها، قال: فجلست عندها وأنا حزين فرفعت يدي نحو السماء فقلت: يا رب هكذا تفعل بمن دخل بيتك؟! فإذا بغمامة قد ارتفعت من قبل تهامة وإذا رجل عليه ثياب بيض فدخل البيت وأَمَر يده على وجهها فابيض وأمر يده على بطنها فابيض فسكن المرض، ثم مضى ليخرج فتعلقت بثوبه فقلت من أنت الذي فرجت عني؟ قال: أنا نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، قلت: يا رسول الله فأوصني، قال: لا ترفع قدماً ولا تضع أخرى إلا وأنت تصلي على محمد وعلى آل محمد صلى الله عليه وسلم].
قال الإمام الحافظ السخاوي الشافعي في القول البديع: [وأما الصلاة في الأحوال كلها ومن تشفع بجاهه صلى الله عليه وسلم، وتوسل بالصلاة عليه، بلغ مراده وأنجح قصده. وقد أفردواْ ذلك بالتصنيف ومن ذلك حديث عثمان بن حنيف وغيره، وهذه من المعجزات الباقية على ممر الدهور والأعوام وتعاقب العصور والأيام، ولو قيل إن إجابات المتوسلين بجاهه عقب توسلهم يتضمن معجزات كثيرة بعدد توسلاتهم لكان أحسن، فلا يطمع حينئذ في عد معجزاته حاصر، فإنه لو بلغ ما بلغ منها حاسر قاصر، وقد انتدب لها بعض العلماء الأعلام فبلغ ألفاً، وايم والله أنه لو أمعن النظر زاد منها آلافاً تلفى، صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً، وحسبك قصة المهاجرة التي مات ولدها ثم أحياه الله عز وجل لما توسلت بجنابه الكريم]. ويدخل ههنا حديث أبي بن كعب وغيره من الأحاديث السالفة الذكر حيث قال فيها: (إذا تكفى همك ويغفر ذنبك). وقد تقدم الحديث عن هذا بما فيه الكفاية، ولله الحمد.
انتهى الموضوع والحمد لله وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه وإخوانه وحزبه.