صارت “كثرة القيل والقال” في غير ما يفيد الناس وينفعهم في دنياهم وآخرتهم من سمات العصر وآفاته، وغدا المراء والجدل والتراشق بجارح الكلام وسيئه، وعدم الالتزام بآداب الحديث ومقتضياته سلوكا عاما، حتى صار الأمر آفة ظاهرة لافتة للانتباه. وقد ساعد على تأجيج هذه الحرب الكلامية انتشار وسائط الاتصال الإلكترونية، المرئية، المكتوبة والمسموعة… التي حادت في أغلبها عن رسالتها، فصار الكثير منها أدوات إعلامية مفسدة للأهل والمال والولد، ووسيلة في أيدي بعض المغرضين من ذوي القلوب المريضة، لتخريب ما بقي من دين الأمة وأخلاقها. ويساهم للأسف في إذكاء نار هذه الحرب وتأجيجها حتى فئة محسوبة على أهل الدعوة والعلم عن غير قصد، وهي تحسب أنها تحسن صنعا، فيكثر بينها التنابز والتدابر والاختلاف واللمز والهمز، حتى لأنك تجد الخصماء فرحين بصنيعهم، لا تورع ولا ورع، لا ناه ولا منته، كل حزب بما لديهم فرحون، فيتجاوز أحدهم بدعوى رفع الظلم، وآخر يجادل بدافع التحليل الموضوعي الأكاديمي، وآخر يحاجج بممارسة حرية التعبير، وآخر بذريعة حق النقد، إلى ما لانهاية من الاعتبارات الظاهرة والمقدرة، حتى إنه ليسهل على المرء المتابع لهذا الجدل الدائر إحصاء مئات الردود على المقال الواحد، لكن يصعب عليه إحصاء كم يهدر من الوقت والجهد والمال، ناهيك عن هدر الرأسمال المعنوي (الأخلاقي) الذي لا يعوض، وقد يكون ذلك كله ابتغاء انتشاء ظرفي، أو انتصار للرأي وتعصب للنفس.
وأمام هذا الواقع الموبوء لا ينفع المؤمن سوى أن يجعل صمته سمتا يعصمه من الخوض مع الخائضين، لكن ما معنى أن يكون الصمت سمتا؟ أي كيف يصير سمتا،أي ميزة وتميزا وقيمة أخلاقية معبرة، حين يلبس بلبوس الحكمة والرحمة، الأناة والصبر، القوة من غير ضعف، والعزة من غير ذل، فكيف نحقق هذا المعنى؟
1ـ بالصلاة والذكر وقراءة القرآن اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم، واتباع سنته، وتأمل رحمك الله تعالى موقفه صلى الله عليه وسلم حين توفي أبناؤه قال العاص بن وائل مستهزءا “إن محمدا أبتر” (أي لا يعيش له ولد ذكر.. لا عقب له.. لو هلك انقطع ذكره..) فحز ذلك في نفس الحبيب صلى الله عليه وسلم وضاق صدره، لأنه بشر لكنه صلى الله عليه وسلم حين صبر وتحمل ولم يرد على خصمه نزلت سورة الكوثر إنا أعطيناك الكوثر.. مواساة وتسلية وتخفيفا عن رسول صلى الله عليه وسلم فكان ذلك عطاء الآخرة. أما عطاء الدنيا فقد أشار بعض المفسرين إلى أنه يتجلى بتخليد اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم بكثرة الأتباع من أمته. ويستفاد هذا من معنى الصيغة الصرفية لكلمة “كوثر” التي جاءت على وزن “فوعل” أي كثرة الكثرة، بل تحدث بعض العلماء على أن الله تعالى خلد اسمه صلى الله عليه وسلم ورفعه عند كل أذان على مدار الأربع والعشرين ساعة في أغلب بقاع الدنيا، بينما العاص بن وائل أسقط الله تعالى اسمه، لما ذكره سبحانه بصيغة الغائب (شانئك هو الأبتر) حتى لا يبقى له ذكر ولا أثر، ويكون مقطوعا حقا وحقيقة دنيا وآخرة.
2ـ بتجديد النية في الصمت. وليكن قصدك منه ابتغاء وجه الله تعالى حتى لا يكون صمتك صمت الجبناء، أو صمت الساهي اللاهي، أو صمت من يخشى أن تموت سمعته وتضيع مكانته في المجتمع أو صمت الساكت عن الحق (الشيطان الأخرس).
3ـ بتفويت الفرصة على من يتخذ الناس مطية لتحقيق مصالح وأهداف مشينة، عبر مشاحناته الكلامية ويريد التسلق على أظهر الشرفاء ويتخذهم معراجا للظهور بعد الضمور، كمثل الذي قال: (أعطوني قلما لأصحح القرآن)، فهذا يقابل بالإعراض كما قال تعالى: خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين.
4ـ بمعرفة أن الصمت في موطنه للمؤمن دعوة أكثر فعالية من ألف خطبة (لسان حالك دعوتك الصامتة).
5ـ بعلمك علم اليقين أن الله الواحد الأحد ينافح ويدافع عنك حين تصمت، كما يفعل مع أوليائه وأنبيائه وأصفيائه، فالله تعالى يحسن الرد على خصمك بما لا تعلمه ولا تدركه ولا تقوى عليه.
6ـ بأخذ العبرة من كتاب الله تعالى وسنة المصطفى صلى عليه وسلم، فمخالطة الناس ومدافعتهم تستجلب الأذى الحسي والمعنوي حتى وإن أحسنت إليهم؛ ألم تعلم أن رب العزة جل جلاله خلق الناس ورزقهم ثم تكلموا فيه وقالوا: “يد الله مغلولة” وقالوا: “اتخذ الله ولدا” فإليك ما قاله العارف بالله عبد القادر الجيلاني رحمه الله تعالى: يا غلام إن أردت سَعة الصدر وطيب القلب فلا تسمع ما يقول الخلق، ولا تلتفت إلى حديثهم. أما تعلم أنهم ما يرضون عن خالقهم، فكيف يرضون عنك؟ أما تعلم أن كثيرا منهم لا يعقلون، ولا يبصرون، ولا يؤمنون، بل يكذبون ولا يصدقون).
7ـ بالتدرب والتعود وهذا يحتاج منك إلى صبر ومداومة وطول زمن حتى يصبح عادة راسخة وحكمة بالغة. إذ الخير كله أصله تعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ومن يتصبر يصبره الله وما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر” متفق عليه.
واعلم أخي أن هذا الصمت، الذي هو سمت مميز لأخلاق الداعية إلى الله تعالى، تميز مفاصل لنقائص الجاهلية، لن يحصل إلا بصحبة من خبر الطريق وصبر على مخالطة الناس وعلى آذاهم، بشرط قابلية الراغب الصاحب للتنزه عن أدناس بيوت اللغو الفارغة والتوجه إلى بيوت ذكر الله تعالى العامرة أي بعمارة المساجد ومداومة المرابطة فيها..
قال مكتو بألسنة الناس مبتلى بخصوماتهم:
قالوا: سكت وقد خوصمت قلت لهم:
إن الجواب لباب الشر مفتــاحُ الصمت عن جاهل أو أحمق شرفٌ
وفيه لصون العِرض إصـلاحُ أما ترى الأسد تخشى وهي صامتةٌ
والكلب يخسى لعمري وهو نبـاحُ
رحم الله تعالى الإمام الشافعي.