سئل بعض السلف: لم شرع الصيام؟ قال: “ليذوق الغني طعم الجوع فلا ينسى الجائع”.
عندما يحس المسلم بطعم الجوع والعطش، يتذكر أن هناك من العباد من لا يفارقهم ذلك الإحساس طيلة العام، فيرقّ القلب وتهذب النفس وتنكسر أنانيتها لتعلو إنسانيتها، وتلك حقيقة لا محالة، فمن فاته هذا الشعور والإحساس فليراجع قصده.
الصيام جُنّة وتأديب وأدب ظاهره مشقة وباطنه رحمة، كما وصفه الأديب أحمد شوقي، حين أدرك هذه الحقيقة، قال في “أسواق الذهب” عن الصيام: هو “حرمان مشروع وتأديب بالجوع وخشوع وخضوع، ظاهره المشقة، وباطنه الرحمة، يستثير الشفقة ويحض على الصدقة، يكسر الكبر، ويعلم الصبر، حتى إذا جاع من تعود الشبع، وحرم المترف ألوان المتع، عرف الحرمان كيف يقع، وألم الجوع إذا لذع”.
فمن لم يحقق الصيام فيه هذه المعاني، فقد يعرّض صيامه لضياع الأجر والثواب، كما قال صلى الله عليه وسلم: “رُبَ صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر والتعب” (رواه أحمد في مسنده)، وقيل لابن عمر رضي الله عنهما في موسم من المواسم: الحاج كثير، فقال ابن عمر: “الركب كثير، والحاج قليل”، وللأسف فإننا نجد الكثير في رمضان يمسكون عن الطعام والشراب ولكن الصائمين قليل.
وكم هي الأمة الإسلامية محتاجة اليوم أن تتمثل هذه المعاني للصيام في شهر رمضان، وكم هو مؤسف أن نرى في واقعنا اليوم، عِوض أن يكون هذا الشهر أقل الشهور إنفاقا على الطعام فيه، نرى أننا أصبحنا أمام حالة معكوسة يسيطر الجسد فيها على الروح، بدلا من سيطرة الروح على الجسد، ونحن بهذا السلوك لا نبتعد فقط عن مقصد الصيام ومغزاه بل نقع في آفة الإسراف وتجاوز الحد المقبول للإنفاق على الطعام والشراب، وغياب التكافل والإحساس بالغير وعدم الاكتراث لما يحسه الفقير من غبن عندما يرى الموائد المصورة والسِّلل المحملة وما تتباهى به النساء على المواقع بعرضهن ما لذ وطاب من المأكولات المتنوعة وتخزينها بكميات مهولة وكأننا نعيش لنأكل، نجوع ونعطش لنكافئ الجسد بملء البطون، إنه لأمر يندى له الجبين، خاصة وإخواننا يعيشون ظروفا مأساوية عصيبة قاهرة، فمنهم من يتسحر على قطرات ماء ليفطر عليها، ومنهم من لم يجد سوى الحشائش ليسد رمقه، ومنهم من مات جوعا، ومنهم من قتل فوق كيس طحين.. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
يقول الشيخ محمد الغزالي -رحمه الله- منتقدا غياب هذا المعنى في صيام المسلمين: “الصيام: إنه يرد النفس إلى القليل الكافي، ويصدها عن الكثير المؤذي! ذاك يوم نصوم حقا، ولا يكون الامتناع المؤقت وسيلة إلى التهام مقادير أكبر، كما يفعل سواد الناس! لعل أهم ثمرات الصوم إيتاء القدرة على الحياة مع الحرمان في صورة ما، كنت أرمق النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأل أهل بيته في الصباح، أثمَّ ما يفطر به؟ فيقال: لا! فينوي الصيام، ويستقبل يومه كأن شيئا لم يحدث، ويذهب فيلقى الوفود ببشاشة، ويبت في القضايا، وليس في صفاء نفسه غيمة واحدة، وينتظر بثقة تامة رزق ربه دونما ريبة، ولسان حاله: فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا [الشرح: 5-6]. إنها لعظمة نفسية جديرة بالإكبار أن يواجه المرء البأساء والضراء مكتمل الرشد، باسم الثغر. والأفراد والجماعات تقدر على ذلك لو شاءت، وأعتقد أن من أسباب غَلب العرب في الفتوح الأولى قلة الشهوات التي يخضعون لها، أو قلة العادات التي تعجز عن العمل إن لم تتوافر، يضع الواحد منهم تمرات في جيبه، وينطلق إلى الميدان، أما جنود فارس والروم، فإن العربات المشحونة بالأطعمة كانت وراءهم، وإلا توقفوا.
فصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: “البطنة تُذهِبُ الْفِطنَة”، و“لا تميتوا القلوب بكثرة الطعام والشراب، فإن القلوب تموت كالزرع إذا كثر عليه الماء”، و”ما ملأ آدمي وعاء شراً من بطنه”، و“إياكم والبطنة، فإنها مفسدة للبدن، ومورثة للسقم، ومكسلة عن العبادة”.
إنها أحاديث نبوية لم ينطق بها النبي عليه الصلاة والسلام عن الهوى. فكفانا الله وإياكم شر الإفراط في طعام لا نحتاج منه إلا ثلثه، وكفانا الله شر الرياء والسمعة وحب الظهور.