الصوم مدرسة في التربية والتقرب إلى الله تعالى، به يصل المؤمن والمؤمنة إلى رضا الله تعالى، فيبتعد عن سخطه وغضبه، كما أن شهر الصيام موعد الانتصارات الكبرى في تاريخ الأمة الإسلامية التي تحققت بفضل منهج الإصلاح والتغيير الذي ربى عليه النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة الأخيار، فكانوا خير خلف لخير سلف.
1. الصوم تغيير للنفس
قال تعالى في سورة الرعد إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ 1 فالله عز وجل يبن لنا أن الطريق إلى التغيير والانتصار يبدأ من الانتصار على النفس الأمارة بالسوء في زمن كثرت فيه الملذات وانتعشت فيه الشهوات، فالصيام خير معين للفرد لتجاوز هفوات وعثرات النفس التي قال فيها الحق عز وجل: إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي 2 أو التي قال عنها الفقيه والعارف بالله سفيان الثوري (ما عالجت أمرا أشد علي من نفسى)، وقال عنها أيضا الحسن البصري: (ما الدابة الجموح بأحوج إلى اللجام من نفسك).
سنة ربانية تؤكد أن تغيير الأمة نحو الأحسن مرتبط بتغيير الأنفس تغييرا جذريا من الشك إلى الإيمان الجازم، ومن الشرك والأوهام والخرافات إلى توحيد الله الخالص في ربوبيته، وألوهيته، ومن هزيمة الأنفس إلى عزيمتها وقوتها وإرادتها الصلبة المعتمدة على الله تعالى والمستعدة للتضحية بالغالي والنفيس من أجل حياة الأمة وعزتها، ومن تعظيم غير الله إلى تعظيم الله وحده.
هو ذا الصيام الذي يرجع العبد إلى طبيعته الخيرية التي خلقه الله تعالى عليها فيقوي فيه جانب الروح والعقل والجسد.
أ. الصيام وعلاج قسوة القلوب
فالصيام الذي عظم الله من شأنه ورفع من درجة أهله وهيأ له أجواء مساعدة على ذلك من تصفيد للشياطين، ونزول للملائكة، وتنزل للرحمات، ومضاعفة للأجر، ووجود للمسلم بين إخوانه، يدفع صاحبه إلى الحرص على فعل الخيرات، من قراءة للقرآن وحرص على أداء الصلوات سواء الفريضة أو النافلة، والإكثار من الأذكار والدعاء والقنوت… وهي أعمال وطاعات لا محالة تساهم في علاج قسوة القلب، وخمول النفس واستكانتها ، لتمنح للصائم المقبل على الله تعالى خشية منه في السر والعلن وطمأنينة وسكينة كما بين ذلك العزيز القدير في قوله تعالى: الذين امنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب 3 .
ب. الصيام وعلاج جمود العقل
من المعروف أن كثرة الطعام والشراب تستوجب الارتخاء والنوم الذي يحرم الإنسان من حب العلم والتعلم، والفكر والتدبر، والمبادرة والإبداع. فالعقل هو مناط التكليف كما أن القلب مناط التكريم.
والعلم النافع منحة ربانية لمن سعى إلى تحصيله بهمة العارف وصدق المجاهد، علم يزيد في طاعة الله ويقرب إليه، “العلم ما قربنا إلى الله وبصرنا بمصيرنا إلى الله، وما دلنا على واجباتنا من قبل الله، وما رسخ خطانا اتباعا واحتراما لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم العلم والفقه في أصول الدين وفروع العبادات، ثم العلوم الآلية الضرورية في الحياة مما أنتجته العقول” 4 .
إن مدرسة الصيام هي أعظم فسحة للعقل أن ينطلق مع فراغ البطن وخفة الجسد إلى عالم الإبداع والتجديد والتعلم.
ج. الصيام وعلاج أمراض الجسد
كثرة الطعام والشراب كل وقت وحين كثيرا ما تصيب الجسم بالأمراض التي تؤدي إلى الغفلة عن الله تعالى، ومنها الجلطة وضغط الدم والسكري والسرطان وقرحة المعدة والأمعاء والتهاب المرارة والمفاصل والبروستاتا والأملاح والحساسية… ويبقى الصيام فرصة مهمة لعلاج مجموعة من الأمراض وفرصة أخرى للتعود على صيام الأيام الفاضلات (شعبان، الست من شوال، الإثنين والخميس، الأيام البيض…)، وهكذا تصنع مدرسة الصيام المسلم والمسلمة صاحبي القلب التقي، والخلق النقي، والعقل الذكي، والجسد الفتي الذي يتحمل أعباء مدافعة الباطل وإسقاط الفساد والمفسدين.
2. الصوم دافع لتغيير أحوال الأمة
شهر رمضان المبارك شهر الانتصارات الإسلامية بلا منازع، بدءا بغزوة بدر الكبرى، ومرورا بفتح مكة المكرمة وانتصار طارق بن زياد في الأندلس، ومعركة عين جالوت ضد المغول… انتصارات أراد من خلالها الله عز وجل تبيين أفضلية هذه الشهر الذي يتجرد فيه المرء من كل شهواته ونزواته، على باقي الشهور الأخرى. ومن مميزات هذا الشهر الكريم:
أولاً: رمضان هو شهر الصبر
فالنصر دائما مع الصبر، والإعداد الجيد، والتخطيط الهادف، من هنا فإن شهر الصبر له علاقة بالنصر، ولذلك ربط الله – تعالى – بينه وبين نصر الله ونزول ملائكته فقال تعالى: إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين. وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم 5 ، حيث إن الصوم صبر على شهوتي البطن والفرج، فالصائم يمتنع عن الأكل والشرب والمعاشرة الجنسية طوال نهار شهر كامل، مع الامتناع عن المحرمات من الكذب والغيبة والسب وأكل أموال الناس بالباطل وغير ذلك من جميع المحرمات، بل الصبر حسبما يريده الإسلام يفرض على الصائم ألا يرد على من سبه، أو شتمه أو قاتله: “وإن امرؤ قاتله أو سابه أو شتمه فليقل إني صائم، إني صائم، إني صائم”.
فالصبر هو سلاح الصائم والمجاهد وينطبق عليهما قول الله تبارك وتعالى: إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب 6 .
ثانيا: الصوم تربية للنفس على الجهاد
يعتبر الصيام من أقوى الوسائل لتربية النفس البشرية على الجهاد، ففى الصيام جهاد للنفس بمخالفة المألوف والخروج عن المعتاد وترك الشهوات بشكل كلي، كما أنه يربى المسلم على الصبر وقوة الاحتمال والتضحية، وهذه كلها من سمات المجاهد في سبيل الله الذي لا يرتضي سبيل المفسدين والمستبدين.
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما هم بغزوة من الغزوات تحرى أن تكون في شهر رمضان توطينا لنفسه الشريفة، وللجنود على احتمال ما سوف يلاقيهم في سبيلها من جهاد ومشقة، وتقربا إلى الله عز وجل وإرشادً للمسلمين إلى سبيل الاسـتعداد لاحتمال الشـدائد في الجهاد، وهنا يجتمع لدى المجاهد الصائم مجاهـدة النفس ومجاهدة الأعداء فإذا انتصر تحقق له انتصاران: هما الانتصار على هوى النفس والانتصار على أعداء الله تعالى، وإذا استشهد لقي الله سبحانه وتعالى وهو صائم ، وتحقق فيه قول الله تبارك وتعالى: إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة 7 .
نسأل الله العلي القدير الذي يجيب المضطر إذا دعاه، أن يجعل شهر الصيام شهر انتصار وتمكين للأمة الإسلامية، وأن يعجل بالفرج والنصر لإخوتنا في سوريا الذين يقتلون ويذبحون وتنتهك أعراضهم أمام العالم من طرف النظام البعثي الوحشي. كما نتوجه إلى كل الأحرار من أبناء الأمة الإسلامية أن يجعلوا شهر الصيام، فرصة للدعاء على الظالمين في سوريا وفي كل مكان، قال تعالى: أُذن للذين يقاتلون بأنهم ظُلِموا وإن الله على نصرهم لقدير 8 .