يأتي حفظ النسل أو النسب في المرتبة الرابعة من حيث حفظ المقاصد الشرعية بعد حفظ الدين والنفس والعقل، وذلك باستقراء مجموعة من الأدلة النقلية والعقلية يستدل بها على قطعية هذا المقصد وعلى أهميته للإنسان، فالحفاظ على النسل بقاء للنوع البشري واستمرار له، لذا نجد العلماء قد أعملوا الجهد في تصفح الوسائل التي تعود عليه بالحفظ وذلك من جانب يحقق وجوده، وآخر يمنع قطعه ومنعه.
أما ما يحقق وجوده فنجد الشارع الحكيم ندب إلى النكاح الحلال طلبا للولد، ورغب في الزواج الشرعي رغبة في الخليفة، وجعل العلاقة بين الرجل والمرأة في ظل الأسرة علاقة سامية، وميثاقا غليظا لا كغيره من المواثيق التي تعقد بين بني الإنسان، وجعل العلاقة بينهما في ظل المجتمع محكومة بقواعد الشرع؛ حيث أمرهما بالعفاف وغض البصر والاحترام، وخصها بالحجاب صونا لكرامتها، وحتى تعرف بسمتها وزيالها فلا تؤذى. أما ما يمنع قطعه وهدمه فنجد الشارع قد حرم الزنا، بل وحذر من الوسائل المقربة منه، المؤدية إليه، فحرم التبرج وإطلاق العنان للنظر واتخاذ الأخدان.
حفظ النسل من جانب الوجود
لقد عظم الله من شأن الأنساب وجعل لها قدرا، وأحاط العلاقة بين الرجل والمرأة بسياج الميثاق الغليظ مخللا بالمودة والرحمة، إنه عقد النكاح الذي يخول الاستمتاع الحلال بقصد استمرار النوع ومنعه من الزوال. يقول الإمام الغزالي رحمه الله: “إن النكاح معين على الدين، ومهين للشياطين، وحصن دون عدو الله حصين، وسبب للتكثير الذي به مباهاة سيد المرسلين لسائر النبيئين (…) فمن بدائع ألطاف الله أن خلق من الماء بشرا، فجعله نسبا وصهرا، وسلط على الخلق شهوة اضطرهم بها إلى الحراثة جبرا، واستبقى بها نسلهم إقهارا وقسرا” [1] وقد ذكر رحمه الله فوائد للنكاح، فجعل أول فائدة تكمن في الولد قال: “الولد وهو الأصل، وله وضع النكاح، والمقصود إبقاء النسل، وأن لا يخلو العالم من جنس الإنس” [2] ، قال تعالى: والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة [سورة النحل، آية 82].
بالزواج تحفظ الأعراض وتصان من العبث والابتذال، وتتميز الأنساب وتحمى من الاختلال، ويسعد المرء بزينة الحياة الدنيا، فكل إنسان يحب أن ينسب إلى أبيه وجده، كما يحب أن يكون له أولاد ينسبون إليه ويقومون بعده ويحفظون اسمه ويكونون استمرارا له، والمسلم يسعى أن يرزقه الله الذرية الطيبة، والسعي للذرية أمر فطري حتى عند الأنبياء عليهم السلام، فهذا سيدنا إبراهيم يقول: رب هب لي من الصالحين، فبشرناه بغلام حليم [سورة إبراهيم، الآيتان 39 ـ 40]، وسيدنا زكرياء يدعو ربه قائلا: رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب [سورة مريم، آية 6]، وبالإضافة إلى أن طلب الولد أمر فطري فإن المؤمن يتخذه قربة لله ويسعى به للفوز بمحبة رسول الله عليه أزكى الصلاة والسلام وبرفقته في الجنة حيث يتباهى بكثرة عدد أمته، صرح عليه السلام بذلك فقال: “تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم” [3] فالكثرة إذن مرغوب فيها شرعا، لكن يبقى السؤال عن ماهية هذه الكثرة؛ هل هي كثرة عددية كمية، أو كثرة نوعية كيفية، نجد الجواب في حديث آخر يقول فيه صلى الله عليه وسلم: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: بل أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوَهْن، قال قائل: يا رسول الله وما الوهن قال: حب الدنيا، وكراهية الموت” [4] فإيراد الحديث الأول يستلزم استحضار الثاني لكي نفهم معنى الكثرة المعنية المطلوبة، فحين يدعو الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التكاثر فهو يعني به التكاثر النوعي النافع للأمة، ويحذر من التكاثر الغثائي الضعيف والهش، فإذا كان كثرة غير نافعة، سطحية لا هدف لها ولا مصب ولا مجرى مثل ما يحمل السيل من أشياء لا قيمة لها ولا وزن ولا أثر، فهي لا تصلح للمباهاة، فالأمة المسلمة في حاجة ماسة إلى كثرة نوعية مرباة تربية حسنة ومتكاملة، وما من أم تستحق اسمها، وتنال من الله عز وجل نوالها إن كان العمل فاسدا، إن أنجبت غثاء كغثاء السيل، إن أساءت تنشئة بنيها وأهملته وأسلمته إلى غيرها من وسط منحل وإعلام مفسد وشارع سائب ورفقة مضلة، خدمة المرأة ليس تفريخ أعداد بشرية. إن كان الولد الصالح الواحد ذخرا باقيا للآخرة وعملا يرضاه الله، فكيف بإصلاح أمة وإحيائها وصناعة مستقبلها، فالولد ذخر للأمة في الدنيا ولوالديه في الدنيا والآخرة، بشروط تتوفر في العمل الإنجابي تجعل الكثرة مما يبهج نبينا في معرض مكاثرة الأمم، وهناك معايير تؤهله ليكون كذلك، فالناس كإبل المائة لا تكاد تجد فيهم راحلة كما قال عليه الصلاة والسلام.
على الأم إذن وهي تنجب أن تضع في اعتبارها حال الأمة ومستقبل الأمة ومصير الأمة، فتمدها بجيل تفخر به في الدنيا والآخرة، ولا تثقل كاهلها بغثاء همل ينتظر من يحمله ويقوده ويوجهه، لا يعرف عن تاريخه إلا ما أريد له أن يعرف، ولا يعرف هويته فبالأحرى أن يعرف كيف يحافظ عليها أو يدافع عنها. يلزمها أن تهيئ رجالا يعرفون دينهم ويعتزون به ويعملون من أجله بكل الوسائل المتاحة؛ كل من موقعه، كل حسب تخصصه، كل حسب أقصى ما في الوسع المادي والمعنوي لتصدق في الأمة الإسلامية بشارة رسول الله في حديث المباهاة، هكذا تكون المرأة قد حفظت نسلها ونسل أمتها من جانب الوجود.
وكما تحفظ المرأة نسلها ونسل أمتها من جانب الوجود، تحفظه من جانب العدم. فكيف يتحقق ذلك؟ وما السبل الموصلة إليه؟
حفظ النسل من جانب العدم
أما حفظها له من جانب العدم فنجد الشرع قد أحاط العلاقة بين الرجل والمرأة بسياج العفة والاحترام، وجعل اللقاء بينهما محاطا بالعفة والصون عماده الخشية من الله تعالى، وأدبه غض البصر، وكماله صفاء القلوب، والشاغل عن الإسفاف فيه الجهاد الدائم للنفس والعدو، حيث لم تفرض عزلة بين الجنسين وإنما فرضت طهارة القلب وصفاء النفوس واستشعار رقابة الله والبعد عن سبل الإغواء وإثارة الفتنة. لم يحم الإسلام العلاقات الإنسانية من مظاهر التحلل والفساد عن طريق تكثير الحجب، وجعل البيوت سجونا للنساء، والحكم عليهن بما حكم الله على اللواتي يأتين الفواحش، إنما وضع أحكاما احتياطية وقائية تحول دون الوقوع في المحظور الذي قد يؤدي إلى ضياع النسل؛ حيث نهى المرأة عن إظهار المفاتن، وخصها باجتناب مثيرات الفتنة، وأمرها بالتزام الستر والحجاب، ولبس ثياب الإيمان، يقول مصطفى صادق الرفاعي: “إن للثياب أخلاقا تتغير بتغيرها، فالتي تفرغ الثوب على أعضائها إفراغ الهندسة، وتلبس وجهها ألوان التصوير لا تفعل ذلك إلا وهي قد تغير فهمها للفضائل، فتغيرت بذلك فضائلها، وتحولت من آيات دينية إلى آيات شعرية، وروح المسجد غير روح الحانة، وهذه غير روح المراقص… وأين أخلاق الثياب العصرية في امرأة اليوم من تلك التي كانت لها من الحجاب! تبدلت بمشاعر الطاعة، والصبر، والاستقرار، والعناية بالنسل، والتفرغ لإسعاد أهلها وذويها مشاعر أخرى: أولها كراهية الدار والطاعة والنسل، وحسبك من شر هذا أوله و أخفه!” [5] ، وحيث إن للثياب أخلاقا فإن التزام اللباس الشرعي تعبير عن الأخلاق الإسلامية، ومعنى لاعتزاز المرأة بدينها، ورمز للسمات المميزة للمؤمنة. وتجدر الإشارة إلى أن جوهر اللباس الإسلامي ليس فقط ستر البدن وإنما هو لباس التقوى المغلف بالعفاف، فهو جزء من الجوهر الكلي لشخصية المرأة، فاللباس الإسلامي المحتشم رمز في نفس اللابسة لما يعتلج في ضميرها ويختصم” [6]، وهو عنوان الخضوع و الاستسلام لأمر الله حين قال: يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن، ذلك أدنى أن يعرفن فلا يؤذين [سورة الأحزاب، آية 59]، يعرفن بعفافهن ووقارهن والتزامهن بأمر الله وحكمه، وهذا يستلزم التزام آداب اللباس الإسلامي ومراعاة مقتضياته، واحترام شروطه وواجباته، إذ ذكر عبد الحليم أبو شقة خمسة شروط:
ـ ستر جميع البدن عدا الوجه والكفين والقدمين.
ـ التزام الاعتدال في زينة الثياب فلا يكون فتنة في نفسه.
ـ أن يكون اللباس والزينة مما تعارف عليه مجتمع المسلمين.
ـ أن يكون اللباس مخالفا (في مجموعه) للباس الرجال.
ـ أن يكون اللباس مخالفا (في مجموعه) لما تتميز به الكافرات [7].
ويستمر ويقول: “نحب أن نبين أنه يلحق بالشرط الأول في لباس المرأة وهو (ستر جميع البدن عدا الوجه والكفين والقدمين)، مواصفات خاصة بالثياب التي تستر المرأة بها بدنها، فلكي يكون الستر صحيحا ينبغي أن تكون الثياب صفيقة أي لا تشف عما تحتها، وفضفاضة أي لا تبرز مفاتن المرأة ولا تصفها، ولا يتم الستر الحقيقي إلا بهذا. فستر زينة المرأة الوارد في الآية: ولا يبدين زينتهن ليس أمرا شكليا، أي إنه لا يعني مجرد وضع شيء ما فوق الزينة، بل يعني ستر الزينة سترا كاملا لحكمة واضحة، هي صيانتها من الابتذال ومنعا للفتنة، ومعاونة للرجال على الغض من أبصارهم. فلابد أن تتحقق هذه الأمور لكي تكون المرأة قد استجابت بصدق لأمر الله حين قال سبحانه: ولا يبدين زينتهن … ويجمل بنا في هذا المقام أن نذكر بوعيد الله تعالى لصنف من الناس الكاسيات العاريات، حيث يكون لباسهن فتنة في ذاته، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى عليه وسلم: “صنفان من أهل النار لم أرهما: قوم معهم سياط كأذناب البقر يضربون بها الناس، ونساء كاسيات عاريات مميلات مائلات، رؤوسهن كأسنمة البخت المائلة لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها، وإن ريحها ليوجد من مسيرة كذا وكذا” [8] على المرأة المؤمنة إذن أن تحرص على أن يكون زيها أكثر قبولا وأقل فتنة، وواجب المرأة المحسنة أن تحسن اختيار لباسها بحيث يعبر عن زيالها وتؤدتها فيرضي الله عز وجل ويرضي الناس ويرغبهم في دين الله، إذ اللباس الإسلامي دعوة للإسلام في حد ذاته، بالإضافة إلى أنه حفظ لروحانية المرأة، وإعلاء لسعرها في الاجتماع، وصون لها عن التبذل الممقوت (…) وارتفاع بها أن تكون سلعة بائرة” [9]، كما أن اللباس المحتشم يسهم في صيانة المجتمع من خطيئة الزنا حيث “نهانا الله سبحانه عن تلويث ديننا بالقبيحة العظمى الزنا، قال عز وجل: ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا [سورة الإسراء، آية 32]، ومدح سبحانه مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها فقدف فيها سبحانه من روحه كما نفخ في آدم عليه وعليها السلام. المحصنات عفة قبل الزواج لهن من الطهارة نصيب مريمي، والمحصنات بعد الزواج العفيفات عن غير أزواجهن هن معين الطهارة في مجتمع اليوم، وصبيب السلامة والخلق وشرف النسب للأجيال اللاحقة، فمن شأن المرأة أن تحصن نفسها وتحميها، وتحصن الرجل وتحميه، ومن ثم تحصن المجتمع، فهي محصَّنة ومحصِّنة. كما من شأنها أن تتجمل بالعفة وتحافظ على عرضها وشرفها وأن تبتعد عن كل ما يقرب من الزنا لما فيه من الأخطار والأضرار على الفرد والأسرة والأمة والإنسانية، ولهذا حرمه الله تحريما قاطعا وبين أن من صفات المؤمنين الابتعاد عنه وعن كل وسيلة تؤدي إليه، قال تعالى: لا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولايزنون [سورة الفرقان، آية 8]، وقال صلى الله عليه وسلم: “يا شباب قريش، احفظوا فروجكم، لا تزنوا، ألا إن من حفظ فرجه فله الجنة” [10]، فمن مفاسد الزنا، انتشار الأمراض التناسلية القاتلة، واختلاط الأنساب بحيث يشك الرجل في نسبة الأولاد له فيزرع ذلك في قلبه البغض لهم والنفور منهم، وتضاعف عدد اللقطاء في المجتمع لأن مجموعة من اللقطاء لا يكون أمة.. إلى غير ذلك من المفاسد.
لهذا نجد الشارع قد عظم من أمر هذه الجريمة وشدد العقوبة على مرتكبيها بدون رأفة ولا رحمة حسيا عن طريق الجلد، ومعنويا عن طريق إشهاد الناس عليها وجعلها علنا، قال تعالى: الزانية والزاني فاجلدوا كل واحد منهما مائة جلدة، ولا تاخذكم بهما رأفة في دين الله إن كنتم تومنون بالله واليوم الآخر وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين [سورة النور، آية 2]. وعكس ذلك من ترك الزنا خوفا من هتك حرمات الله عوضه الله خيرا في الدنيا والآخرة. يقول الغزالي: “من ترك الزنا اندفع عنه إثمه بأي سبب كان تركه، وإنما الفضل والثواب الجزيل في تركه خوفا من الله تعالى مع القدرة عليه وارتفاع الموانع، لاسيما مع صدق الشهوة، وهذه درجة الصديقين” [11].
ومن الأسباب المعينة على التخلق بالعفة والبعد عن الفتنة، البعد عن الاختلاط الإباحي دون أي وازع ديني يحكمه ولا أخلاق تقيده، وأخزى دركات الاختلاط حين يخلو رجل بامرأة في وضع مريب غير مرضي، ولو كانا في عداد المخطوبين، لأنه ما خلا رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما، وإن اقتضى الأمر لقاء رجال ونساء في العمل أو التعليم أو مدارسة أمور دينية اجتماعية سياسية… فيجب أن يكون محفوفا بجو من الأدب والاحترام واستحضار معية الله وعلمه بخائنة الأعين وما تخفي الصدور، قال تعالى: قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون، وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها [سورة النور، آيتان 30 ـ 31]. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: “النظرة سهم من سهام إبليس، من تركها من مخافتي أبدلته إيمانا يجد حلاوته في قلبه” [12]، وقال صلى الله عليه وسلم: “كل عين باكية يوم القيامة إلا عين غضت عن محارم الله، وعين سهرت في سبيل الله، وعين خرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله” [13].
هكذا ظهر لنا أن من أولويات حافظية المرأة المسلمة حفظ أنساب الأمة عن طريق توفير جيل فريد يعرف من خلقه ولماذا خلق، ويعمل لتحقيق غاية وجوده التعبدية الإحسانية والاستخلافية العمرانية.
والحمد لله رب العالمين.
[1] إحياء علوم الدين للإمام الغزالي، ج 2، ص 31.
[2] نفسه، ج 4، ص 3.
[3] رواه أبو داود والنسائي.
[4] رواه أبو داود والبيهقي.
[5] وحي القلم لمصطفى صادق الرافعي، المجلد 1، ص 178.
[6] تحرير المرأة في عصر الرسالة، ج 4، ص 30 بتصرف.
[7] المصدر نفسه، ص 76 ـ 78 بتصرف.
[8] رواه مسلم.
[9] وحي القلم لصادق الرافعي.
[10] أخرجه الحاكم في المستدرك.
[11] إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي، ج 4، ص 110.
[12] رواه الطبراني.
[13] رواه الأصبهاني.