العلماء بين القومة والإصلاح

Cover Image for العلماء بين القومة والإصلاح
نشر بتاريخ

العلماء بين القومة والإصلاح 1

أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم من وراء حجب الغيب، بما أطلعه عليه الرب الكريم سبحانه وتعالى، من أحوال أمته إلى يوم القيامة، ونقل الصحابة الكرام رضي الله عنهم بعض تلك الأخبار.

من ذلك ما أخرجه أبو نعيم في حليته من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا إن رحا الإسلام دائرة فدوروا مع الكتاب حيث دار. ألا إن الكتاب والسلطان سيفترقان، فلا تفارقوا الكتاب”.

نستطيع أن نهتدي بهذا التمثيل النبوي لنقول إن السلطان كان متصلا بالقرآن، ويدور على قاعدته، تماما كما تدور الحلقة العليا من الرحى على القاعدة الثابتة. وأن دورة هذه الرحى ستنحرف عن مسارها الصحيح عندما يدور السلطان أو الحكم على غير قاعدة القرآن، وتنفصل الدولة عن الدعوة.

وهذا ما حدث فعلا، بعد ثلاثين سنة من وفاته صلى الله عليه وسلم، إذ نقضت عروة الحكم وتحول من خلافة راشدة إلى ملك عاض، وخاصم السلطان القرآن، وأبعد رجال الدعوة إلى الهامش “ليدوروا حول إرادة الحاكم بالسيف والوراثة والعصبية” 2.

فماذا كان موقف رجال الدعوة من علمائنا الأجلاء من هذا “الانفصام النكد” بين السلطان والقرآن؟ وهل كان الموقف واحدا عند الجميع؟

إن الناظر في التاريخ الطويل للمسلمين يجد أن علاقة العلماء بالحكام بعد الخلافة الراشدة قد تراوحت ما بين القيام ضد الحاكم الجائر، ومحاولة تغيير الأوضاع السلبية حتى ترجع إلى نصابها الإسلامي، وتدور مرة أخرى حول القرآن كسابق عهدها، وبين مقاطعة الظلم ومحاولة الإصلاح.

“فمن رجال القومة من أدرك أصل الداءِ، وهو فساد الحكم، فبادر لعلاجه. ومن رجال الإصلاح من تَنَازَعَهُ عاملا الخوف على شوكة الإسلام أن تنكسر، وواجبِ النهي عن المنكر وأطْر السلطان على الحق، فاكتفى بالوعظ، والمقاطعة، والتوجه إلى الأمة لتعليمها، وتربيتها، وتغذيتها بروح المقاومة” 3.

ولا بد أن نشير هنا إلى أنه لا يدخل مع الفريقين، ولا يقرب منهما في نية ولا مقصد، لا الثوار الخارجون على الحاكم بالباطل من طالبي الزعامات والحظوظ الدنيوية، ولا “فقهاء السوء” من علماء البلاط المتزلفين إلى الحكام طلبا للجاه والحظوة عندهم. وإنما نحن أمام اجتهادين مختلفين للرجال من علماء الأمة، رأى بعضهم ضرورة القومة على الجور، بينما اكتفى بعضهم الآخر بإصلاح الوضع القائم.

– فما المقصود بالقومة كخيار لعدد من علماء الأمة في مواجهتهم للسلطان المستبد؟

– وماهي أهم أسباب اكتفاء فئة أخرى من جمهور العلماء بالإصلاح كخيار آخر؟

أولا: مفهوم القومة

تجد هذه الكلمة أصلها في كتاب الله تعالى حيث وردت مادتها في آيات كثيرة، ومنها قوله تعالى:

وإنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لِبدا [الجن:19].

وقوله عز وجل: يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط[المائدة:9].

وقوله سبحانه: قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا[سبأ:46]. وير ذلك من الآيات.

وقد أطلق المسلمون في تاريخهم كلمة “القائمين” على المنابذين “للحكم الجائر من أهــل الــعـــدل والحق” 4، وفي ذلك تشريف لهذا العمل الجليل وربط له بالمعاني العظيمة لهذه الكلمة في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو القائل عليه الصلاة والسلام: “سيد الشهداء يوم القيامة حمزة بن عبد المطلب، ورجل قام إلى إمام جائر فنهاه وأمره فقتله». أخرجه الطبراني في الأوسط عن ابن عباس رضي الله عنه. بخلاف ما إن كان الخارجون عن السلطان بغير حق من أهل الباطل فقد أطلقوا عليهم اسم “الثوار”.

وقد شهد تاريخ المسلمين بعد سقوط الخلافة الراشدة عدة قومات خاصة من قبل أهل البيت رضوان الله عليهم، وفي مقدمتهم قومة الإمام الحسين السبط عليه السلام.

 قاد أغلب هذه القومات رجال من كبار آل البيت، فكانوا بذلك رأس “الطليعة المجاهدة” التي حاولت قيادة الأمة نحو التغيير.

وكذلك تحتاج كل قومة على الباطل، أول ما تحتاج، بعد إذن الله عز وجل وتوفيقه، إلى رجال قرآنيين نبويين “من الأمة وإليها ومعها. لا ليفعلوا بها، بل ليوقظوها، ويربوها حتى تصبح فاعلة” 5، ويزول عنها غبار الخمول، وترفض الذلة ويتجدد إيمانها فيذهب عنها ما أصابها من الوهن والغثائية.

ولا يخفى على أحد أن أي مشروع تغييري لا يمكنه أن يأتي بشيء، مهما بلغت حنكة قادته ووضوح تصورهم ومنهاج عملهم، في غياب قاعدة قوية ومتماسكة تدافع عنه وتحميه وتجسده في الواقع.

ولا شك أن من أعظم ما فت في عضد عدد من القومات، ومنها قومة الإمام الحسين عليه السلام، كان هو تخاذل الأتباع المتحمسين، مما يؤكد على أهمية وحيوية التربية في أي حركة تغييرية، فالقومة قبل كل شيء ومعه وبعده قومة على النفس و“تغيير دوافع الإنسان وشخصيته وأفكاره، تغيير نفسه وعقله وسلوكه، تغيير يسبق ويصاحب التغيير السياسي الاجتماعي” 6.

ولذلك نجد أن بعض آل البيت عليهم السلام، قد فضلوا الرجوع إلى الأمة لتربيتها على معاني الرجولة الإيمانية قبل أي شيء، كما سنرى ذلك في الفقرات القادمة إن شاء الله تعالى.

لا تعني الاستفادة من التجارب التغييرية في تاريخ المسلمين، استنساخها بنفس الطرق والأساليب، فلكل وقت ظروفه وحيثياته، بل ولكل تجربة مميزاتها، إنما نستفيد مبدأ مقاومة الجور ونجتهد في الطريقة والأسلوب.

وتكون القومة عملية تغييرية أقرب إلى روح الإسلام، كلما ابتعدت عن العنف الثوري المتحرر من كل القيود، واستمسكت بهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي يوصي بحقن الدماء والعفو عن الناس، وهو ما ظهر جليا في سيرته صلى الله عليه وسلم، خاصة في عفوه عن طلقاء قريش رغم ما كان منهم قبل فتح مكة.

لكن تبقى ظروف الزمان والمكان، معتبرة في تحديد أسلوب القومة وصيغة تنفيذها، ولذلك لا بد لكل قومة من إطار يضبطها ويبين الحدود الفاصلة بين القوة والعنف، حتى لا تتحول إلى فوضى لا يقبلها الإسلام.

ثانيا: الإصلاح وبعض دوافعه عند العلماء القائلين به

إن أول ملاحظة يمكن أن نسجلها في هذه النقطة، هي أن مجرد نظرة أولية في كلام علمائنا رضي الله عنهم، الذين تحدثوا عن الإصلاح، نجد أنهم كانوا يتحدثون عنه في مواجهة واقع ظالم لا ينكرون ذلك ولا ينفونه عنه.

ومن ذلك مثلا ما أورده القاضي أبو يعلى في كتابه “المعتمد من أصول الدين” حيث يقول: “وإن ْلم يكفر (أي الحاكم) لكن فسَقَ في أعماله كأخْذِ الأموال، وضَرْبِ الأبشار، وتناوُلِ النفوس المُحرَّمة (أي قتل الأبرياء)، وتضييع الحقوق، وتعطيل الحدود، وشُرْبِ الخمور، ونحوِ ذلك، فهل يوجب خَلْعَهُ أم لا؟ ذكر شيخنا أبو عبد الله في كتابه عن أصحابنا أنه لا يُخْلَعُ بذلك ولا يجب الخروج عليه. بل يجب وعظُه، وتخويفُه، وتركُ طاعته في شيء مما يدعو إليه من معاصي الله تعالى، خلافا للمعتزلة والأشعرية في قولهم يُخْلَع بذلك” 7.

لكن ما هو السبب الذي دفع العلماء من أمثال القاضي أبي يعلى رحمه الله وغيره، إلى إيثار الصبر على الظلم ولو وصل إلى هذا الحد الفاحش الذي يشير إليه النص؟

للإجابة عن هذا السؤال سنتطرق وبشكل مختصر لبعض هذه الدوافع ومنها:

1-فهم النصوص الشرعية حول طاعة الأمير وتقدير حدود هذه الطاعة:

سمعنا في كلام القاضي أبي يعلى آنفا أنه لا يجب الخروج على الحاكم فيما دون الكفر. ومن الأحاديث الشريفة التي يستدل بها في هذا الأمر، ما أخرجه الإمام البخاري وغيره، قال: عن جنادة بن أبي أمية قال: دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض، قلنا: أصلحك الله، حدَّث بحديث ينفعك الله به، سمعته من النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “دعانا النبي صلى الله عليه وسلم فبايعناه، فقال فيما أخذ علينا: أن بايعنا على السمع والطاعة، في منشطنا ومكرهنا، وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا، وألا ننازع الأمر أهله، إلا أن تروا كفرا بواحاً، عندكم من الله فيه برهان”.

وقد اختلف الأئمة في تفسير هذا الحديث الشريف بين من حصره في سقوط إمامة المرتد فقط، وبين من زاد على ذلك فأخذ بما ورد في روايات أخرى للحديث تذكر “المعصية البواح” و”الإثم البواح”.

 يقول الحافظ ابن حجر رحمه الله في كلامه عن هذا الحديث:

“قال النووي: المراد بالكفر هنا المعصية، ومعنى الحديث لا تنازعوا ولاة الأمور في ولايتهم ولا تعترضوا عليهم إلا أن تروا منهم منكرا محققا تعلمونه من قواعد الإسلام (…) وقال غيره: المراد بالإثم هنا المعصية والكفر، فلا يعترض على السلطان إلا إذا وقع في الكفر الظاهر، والذي يظهر حمل رواية الكفر على ما إذا كانت المنازعة في الولاية فلا ينازعه بما يقدح في الولاية إلا إذا ارتكب الكفر، وحمل رواية المعصية على ما إذا كانت المنازعة فيما عدا الولاية، فإذا لم يقدح في الولاية نازعه في المعصية بأن ينكر عليه برفق ويتوصل إلى تثبيت الحق له بغير عنف، ومحل ذلك إذا كان قادرا والله أعلم. ونقل ابن التين عن الداودي قال: الذي عليه العلماء في أمراء الجور أنه إن قدر على خلعه بغير فتنة ولا ظلم وجب، وإلا فالواجب الصبر” 8.

ورد كذلك “حديثان للإمام مسلم يشرطان الطاعة بشرطين: أن يقود الحاكم الأمة بكتاب الله تعالى، وأن يقيم الصلاة في الناس”. وهما قوله صلى الله عليه وسلم:

1- عن يحيى بن الحصين عن أم الحصين أنها حدثته قالت حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة الوداع (…) وكان فيما يقول صلى الله عليه وسلم: “إن أمر عليكم عبد مجدع أسود يقودكم بكتاب الله فاسمعوا وأطيعوا”.

2- وعن عوف بن مالك قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم. وشرار أئمتكم الذين تبغضونهم ويبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم.” قال: “قلنا يا رسول الله، أفلا ننابذهم عند ذلك؟” قال: “لا، ما أقاموا فيكم الصلاة! لا، ما أقاموا فيكم الصلاة. ألا من ولي عليه وال فرآه يأتي شيئا من معصية الله فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا ينزعن يدا من طاعة”.

أخبر صلى الله عليه وسلم بشرطي الطاعة، وبقيت “للمؤمنين مسؤولية التقدير لتمييز الحاكم الذي يقود بالقرآن أو لا يقود، ولتقدير إقامة الصلاة ما معناها وما مدلولها العملي” 9.

يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى بعد ذكر هذين الحديثين وغيرهما حول “طاعة الأمير”: “لا نشك لحظة أن الحسين بن علي رضي الله عنهما حين غضب غضبته وقام قومته إنما فعل لاعتقاده أن يزيد فسق عن أمر الله وقاد بغير القرآن وأضاع الصلاة، إن كان غيره قدر غير ذلك ورجح الطاعة فلا يعدو أن يكون مجتهدا” 10.

2 – الحفاظ على شوكة الأمة ووحدتها:

كانت الخلافة الراشدة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هي الضامنة لاستمرارية الأمة ووحدتها، والحافظة لبيضة الإسلام أن تنثلم، وشوكته أن تنكسر، فلما تغير الوضع وأعلن الولاة الجدد، المتزيون زورا وبهتانا بزي “الخلافة” والمتكلون باسمها أن لا علاج للأمة إلا بالسيف ولا رأي لها إلا تحت ظله وفي حدود ما يسمح به حامله 11، حاول الأئمة الكرام “الحِفاظَ على ما يمكن الحفاظُ عليه من أسباب الوحدة، بل من أسباب وجود الأمة واستمرارها” 12.

فقد “كان عند سلفنا رحمهم الله شيء يذكر على رقعة العالم، له حرمته وهيبته: كان لهم استقلال ودولة، فكانوا يحرصون على هذا الشيء، لا يعيبونه في ظاهر سلوكهم وإن كان في قرارة النفس ما فيها” 13.

كانت وحدة الشوكة والسلطان في دار الإسلام، مجالا واسعا حافظ فيه علماؤنا رحمهم الله على ما تبقى من عرى الإسلام، بعد أن نقضت عروة الحكم كما أخبر بذلك النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الإمام أحمد بسنده الحسن عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لينقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها. وأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة”.

حتى أننا لنجدهم مثلا، وهم يتحدثون عن مقاصد الشريعة، دائما يعبرون عنها بصيغة حفظ كذا وحفظ كذا…

إن الخوف على هذه الوحدة التي كانت حقيقية في القرون الأولى، رمزية بعد ذلك، هو الذي جعل طائفة من العلماء الأفذاذ يقرون بشرعية الغالب بالسيف ويوجبون ضرورة طاعته برا كان أو فاجرا، حتى أنهم قد أقروا ما أطلقوا عليه “إمارة الاستيلاء”، وهي حسب ما عرفها به الإمام الماوردي في أحكامه، أنها التي تنعقد عن اضطرار للأمير المنقلب على “الخليفة” المركزي، المستولي بالقوة على البلاد التي كان قد ولاه عليها 14.

لاحظ أن هناك انقلابا غير شرعي، لكنه لما غلب نال الشرعية اضطرارا، إنها فتوى اضطرار علتها طلب الاستقرار.

وهو مطلب ثمين لا شك في ذلك، لكن ثمنه كان باهظا، ثمنه كان الصبر على الاستبداد والظلم وظلماته…

وهناك معطى آخر لا بد من استحضاره في هذه النقطة وهو انعكاس الثورات المتلاحقة للفتانين من طالبي الزعامات على آراء العلماء، خاصة المتأخرين منهم الذين آثروا إغلاق باب الفتنة وعدم فتح أي منفذ قد تخرج منه انتفاضات لا يمكن التنبؤ بنتائجها.

لذلك نلاحظ أن أغلب الأئمة الأوائل قريبي العهد بالخلافة الراشدة، كانوا في أغلبهم من المؤيدين للقائمين ضد الجور بخلاف المتأخرين الذين استفحل الظلم في عهدهم حتى انغلقت على الأمة آفاق الأمل، كما كثرت في عهدهم الصراعات بين طلاب الإمارة، وفقد من الساحة القائمون بالحق، فلم يبق إلا الثوار، بالمعنى الإسلامي للثورة، وهم الخارجون عن الحاكم بالباطل.

أما الأوائل فقد كانت لا تزال تلمع في سمائهم نجوم القائمين بالحق وعلى رأسهم الأئمة الأطهار من آل البيت عليهم السلام 15.

لما قام “الإمام محمد النفس الزكية” وهو من ذرية الحسين بن علي عليهما السلام، على أبي جعفر المنصور خرج معه الإمام أبو حنيفة وآزره بماله وكان يفتي بالخروج مع أخيه إبراهيم بن عبد الله، وبسبب موالاته لأهل البيت حبس رضي الله عنه حتى مات في حبسه.

وكذلك كان حال الإمام مالك رضي الله عنه، الذي أفتى عند قومة “النفس الزكية” ببطلان بيعة العباسيين، وأعلن أنَّ بيعة المكره لا تجوز. فجلده والي المدينة جعفر بن سليمان وهُدَّتْ يده حتى انخلعت كتفه” 16.

3 – الخوف من خذلان الناس للقائمين:

كانت حادثة كربلاء كارثة وخرما عظيما في تاريخ المسلمين، فبعد خروج الإمام الحسين عليه السلام وقومته على الأمويين، ورفضه لبيعة يزيد بن معاوية، تحمس أهل الكوفة لنصرته لكنهم خذلوه لما رأوا جيوش يزيد وشدة بأسها، فكانت المأساة…

تكرر الأمر مع قائم آخر من أهل البيت وهو “الإمام زيد بن علي زين العابدين” الذي قام ضد هشام بن عبد الملك سنة 121هـ، حيث خذلته العشائر “فقتل ودفنَه أصحابه سرا. ثم نَبَش عنه هشام بن عبد الملك فصلب جثته عريانا” 17.

وقبل استشهاده عليه السلام “كتب الإمام زيد إلى تلميذه أبي حنيفة يطلب إليه أن يفد عليه ليقاتل إلى جنبه. فأجاب أبو حنيفة: “لو علمت أن الناس لا يخذلونه، ويقومون معه قيام صدق، لكنت أتبعُه، وأجاهد معه من خالفه، لأنه إمام حق. ولكني أخاف أن يخذلوه كما خذلوا أباه (يعني جده الحسين عليه السلام)، لكني أعينه بمالي فيتقوَّى به على من خالفه” 18.

ومع توالي خذلان الناس للأئمة القائمين من أهل البيت، انحاز عدد منهم إلى تربية أفراد الأمة، التربية التي تأهلهم لتحمل مسؤولية البيعة والجهاد وإدراك معنى القومة…

ومن هؤلاء الإمام جعفر الصادق والإمام علي زين العابدين بن الإمام الحسين السبط عليهم السلام.

يقول الإمام زين العابدين موبخا أهل الكوفة لتخاذلهم عن نصرة أبيه: “… أيها الناس! ناشَدتكم الله هل تعلمون أنكم كتبتم إلى أبي وخدعتموه، وأعطيتموه من أنفسكم العهود والميثاق والبيعة وقاتلتموه! فتبّاً لكم لِمَا قدَّمْتُم لأنفسكم، وسَوْأَةً لرأيكم!” 19.

وعلى نهج الأئمة الأطهار صار عدد من العلماء والأئمة المربين، خاصة من أهل السلوك والتصوف، فانحازوا إلى صفوف الأمة “يرومون إصلاح الناس على هامش الحياة العامة لَمَّا يئسوا من وجود أنصار على الحق قادرين على إنجاح القومة” 20.

وخلاصة القول:

أن علاقة العلماء بالسلطان قد عرفت تحولا خطيرا مع تحول نظام الحكم ونقض عروته بعد الخلافة الراشدة. وأن هذه العلاقة قد حكمتها في الغالب ــ إذا ما استثنينا فقهاء السوء ــ النصوص الشرعية متفاعلة مع الظروف الواقعية “وعندما يدلَهِمُّ الواقعُ (…) فإن النصوص تُنبئ عن الهواجس الوقتية أكثرَ مما تخضع لمعيار الحق الثابت” 21.

لقد قاد السلف رضي الله عنهم بتوجيهاتهم واجتهاداتهم سفينة الأمة في خضم اضطرابات الفتنة تحت الحكم العاض، أما الآن وقد دخلت السفينة إلى مياه الحكم الجبري، وهي أشد اضطرابا، فإن الصواب أن نستفيد من موروث السابقين لكن لا نقف عنده حجابا عن كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، لا نقف عند أقوالهم، وإنما نستفيد من منهجهم الذي دفعهم إلى الاجتهاد كما اجتهد الذين من قبلهم.

خاصة وأن الحال اليوم غير الحال بالأمس، وما كان يتطلب المحافظة عليه أصبح اليوم مطلبا نسعى إليه، فقد انكسرت شوكة الإسلام وتشتتت وحدة الأمة ونقضت بعد عروة الحكم عرى أخرى من الإسلام، وقد كانت فيما مضى متمسكا تشبث به السلف رحمهم الله.

إن المطلوب اليوم هو “إخضاع الواقع الثقيل لعمليات التغيير اللازمة حتى تَدور حياة المجتمع حول القرآن” 22 كما كانت أول عهدها بالنبوة والخلافة الراشدة، وذلك لا يتأتى بفقه يسعى للتأقلم مع الفتنة، وإنما لا بد من فقه يؤسس للخروج منها نحو موعود الله تعالى وموعود رسوله صلى الله عليه وسلم، بعودة الخلافة على منهاج النبوة.

 


[1] هذا المقال في أصله قراءة في كتاب: “رجال القومة والإصلاح” للإمام عبد السلام ياسين من منشورات الصفاء، ط:1/2001
[2] ذ.عبد السلام ياسين، كتاب “سنة الله” ط:1/2005.ص. 21.
[3] ذ.عبد السلام ياسين، “رجال القومة والإصلاح”ط:1/ 2001.ص.41_42.
[4] ذ.عبد السلام ياسين، “المنهاج النبوي” ط:2/1989.ص.369.
[5] “رجال القومة والإصلاح”، م.س، ص.32.
[6] م.ن، ص.7.
[7] أورده ذ.عبد السلام ياسين، في كتابه: “رجال القومة والإصلاح”، م.س، ص.14_15.
[8] فتح الباري لابن حجر العسقلاني، الناشر: دار الفكر، ج:13، ص: 8.
[9] ﻧ.عبد السلام ياسين، “نظرات في الفقه والتاريخ” ط:2/1989.ص.39.
[10] م.س،ص.40.
[11] كان الناس قد ألفوا مثلا أن يسمعوا في عهد الخلافة الأول من الخليفة قوله: “إن أصبت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني “، لكن لما آلت الأمور إلى بني أمية “خطب عبد الملك بالمدينة سنة 75 على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “إني لن أُداويَ أمراض هذه الأمة بغير السيف والله لا يأمرني أحد بعدَ مَقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه!”.
[12] “رجال القومة والإصلاح”، م.س، ص.19.
[13] “نظرات في الفقه والتاريخ”، م.س، ص.55.
[14] انظر كتاب” العدل: الإسلاميون والحكم “للأستاذ عبد السلام ياسين. ط:1/2000. ص.84
[15] نلاحظ مثلا أن فترة حكم يزيد بن معاوية كانت كلها قومات بداية بالإمام الحسين عليه السلام، فانتفاضة القراء والعلماء بعده بالمدينة، ثم القائم بمكة عبد الله بن الزبير. ثلاث محطات في قرابة ثلاث سنوات من حكم يزيد.
[16] “رجال القومة والإصلاح”، م.س، ص.76.
[17] م.ن، ص.75.
[18] م.ن، ص.74_75.
[19] م.ن، ص.71.
[20] م.ن، ص.93.
[21] م.س، ص.17.
[22] كتاب” سنة الله” م.س، ص.21.