ربط الحق سبحانه تحصيل العلم بتقواه عز وجل، فمتى راقب العبد مولاه في السر والعلن، وتقرب إليه بالفرض والنفل، وأطال الوقوف على باب الجواد الكريم، أنعم عليه العليم الحكيم بعلم من لدنه. قال تعالى: واتقوا الله ويعلمكم الله. والله بكل شيء عليم 1.
وإذا سلك طريقا غير هذا لطلب العلم، وحرص على تحصيل الدرجات لغير وجهه سبحانه، لم يكن علمه ينفع إلا غرضا من الدنيا قليلا. اسمع إلى قول الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام: “سلُوا اللهَ علمًا نافعًا، وتَعَوَّذُوا باللهِ منْ علمٍ لا ينفعُ” 2. أي نفع هذا الذي يحثنا المعلم الأكبر أن يتجلى في علمنا؟
وقد قال الإمام المجدد رحمة الله عليه: [علم الحق شرع به نكون مؤمنين حين نحقق مقاصده] 3. فطلب العلم لا يكون لذاته ولا لغرض دنيوي زائل، إنما هو وسيلة لمعرفة الحق، لوجه الحق، وتحقيق الحق، ونصرة الحق.
“الأمور بمقاصدها” 4 كما يقول أهل الشرع. ولذلك ترمي كل الشعائر التعبدية والنسك التي يتقرب بها إلى الحق سبحانه، إلى مقاصد وغايات أكبر من قضاء دين أو أداء فريضة..
فالعلم ضياء طريق السالكين، ومنارة درب العارفين، وبينة منهاج الدعاة الصادقين، وسلاح معرفة وإرادة ماضية للمجاهدين..
و”علم الحق” هو إحدى الثغرات التي ينبغي لجند الله سدها والحيلولة دون الإتيان منها بغية جمع شتات الأمة الإسلامية وتوحيد جهودها لتصبح جسما قويا ومتماسكا 5.
أي علم ننشده في عصرنا المادي هذا؟ وأي عالم تحتاجه الأمة الغثاء؟
إن الأمم المتحضرة عالمة متقدمة، لكن هل تصلح أن تكون نبراسا للمعرفة الحقة؟ لا شك أن الأمة محتاجة إلى علم يسعد الإنسان في المعاش والمعاد.
تحتاج إلى علم وفقه منهاجي 6، يجعل من القرآن الكريم المنطلق والمآل. هو صيحة وخطاب للعقول والضمائر، بإمكانه أن يقيم دولة الإسلام الباعثة الموحدة لدار الإسلام -شريطة أن يلتقي بوعي مترقب مستعد- على حد قول الإمام المجدد عبد السلام ياسين، رحمه الله 7.
وقد أرسل الله الرسل معلمين البشر علم الحق، مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على ربهم حجة. وكان الصحابة رضي الله عنهم فاتحين معلمين للناس على هدي النبي الأعظم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. وعلى دربهم سار ثلة من العلماء والفقهاء والمجددين والدعاة، كل حسب سياقه الزماني والمكاني، وكل حسب ثقافته وعلمه ومشاربه.
وكل نبي كان منطلق تعليمه لقومه الوحي الرباني، ومنبع معرفته للحق ولعلم الحق ما ينزل عليه من وحي ربه..
فكان طبيعيا أن يكون العلم الذي ننشده في دولة الإسلام ودولة القرآن علما قرآنيا..
كيف ندعي العلم النافع، ونحن نجانب هدي وحي الله سبحانه الذي خلق الإنسان ويعلم ما يسعده في دنياه وآخرته؟
انظر إلى العلم اللاهث وراء المادة والريادة، بل الهيمنة الإمبريالية الاستعمارية، وما خلفه من دمار في الشخصية الإنسانية وفي الحياة والطبيعة.. وفساد للقيم.. وانعدام للأخلاق..
فالعلم لابد له من سياج رصين يحميه من نزغات الهوى، بل لابد له من غاية واضحة ترضي الإله سبحانه وتسعد البشرية جمعاء.
وللعلم النافع فوائد كثيرة نختصر منها ما يلي:
– تحصيل رضا الله تعالى، واتباع النبي -صلى الله عليه وسلم- بالإقبال على طلب العلم، والوصول إلى ما فيه من أسرار، ثمَّ الحرص على تعليمها للناس؛ لتحقيق فضيلة العلم.
– رفعة مقام العالم عند الله تعالى في الدرجات العلى؛ لجميل ما يصنع، وجعل الهيبة له في النفوس، فعندما قَدِم ملك التتار لغزو دمشق، خرج إليه ابن تيمية رحمه الله، فقال له: (إنك تزعم أنك مسلمٌ ومعك قاضٍ وإمام ومؤذِّن، وها أنت تغزونا وأبوك وجدك كانا كافرين وما فعلا فِعلك، بل عاهدَا فَوفَّيَا، وأنت عاهدتَ فغدرتَ)، فما كان من الملك إلا أن عاد عن الغزو وطلب من ابن تيمية الدعاء، وقد كان يظن الناس أنَّ هذا الملك سيقتل ابن تيمية.
– تحصيل العلم سبب لدخول الجنة، فقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ طريق العلم هو من الطرق الموصلة إلى الجنة، كما أنَّه يعين العبد على تحقيق الخشية من الله تعالى.
– وهو ميراث الأنبياء، فقد روى الطبراني عن أبي هريرة أنَّه دخل السوق فنادى بالناس قائلاً: (يا أهل السوق، ما أعجزكم!)، فسألوه وما ذاك؟ فأجاب: (ذاك ميراث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقسم وأنتم ها هنا، ألا تذهبون فتأخذون نصيبكم منه) وأرشدهم إلى المسجد، فلما وصلوا المسجد قالوا له: دخلنا المسجد ولم نجد فيه شيئاً يُقسَّم، فقال لهم: (وما رأيتم في المسجد أحدًا؟ قالوا: بلى، رأينا قومًا يصلُّون، وقومًا يتذاكرون القرآن، وقومًا يتذاكرون الحلال والحرام، فقال لهم أبو هريرة: وَيْحَكُمْ! فذاك ميراث محمد صلى الله عليه وسلم).
– شهود الملائكة مجالس العلم، فتظلهم بأجنحتها، وتنزل عليهم السكينة والطمأنينة، ويذكرهم الله -تعالى- في الملأ الأعلى.
– والعلم من أسباب نضارة الوجه، ويتحصل هذا من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- بنضارة الوجه لمن سمع العلم وبلَّغه للناس كما سمعه، فحاجة الناس للعلم تفوق حاجتهم للطعام والشراب.
– ظفر طالب العلم بدعاء أهل السماوات والأرض له بالخير، فقد أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنَّ جميع الكائنات تدعو لطالب العلم، حتى النملة التي تُعد من أضعف الكائنات أُلهمت الدعاء لهم بالخير.
– والعلماء لا تنتهي حياتهم بالموت، فهم أحياء بما تركوه من الإرث الذي ينفع الناس، فلا يزال الناس يذكرون أئمة كثر خلدوا علما انتفعت به الأمة وما زالت، ويدعون لهم بالرحمة والمغفرة.
– جعل العالم يقف في وجه الشبهات ودحضها بالحجة والمنطق السليم.
– بالعلم يتم القضاء على الرذيلة، والوصول بالمجتمع إلى الفضيلة عن طريق القراءة في سِيَر صالحي الأمة الذين فهموا تعاليم القرآن الكريم والسنة النبوية.
وغير هذا من المكاسب الجليلة للعلم النافع التي تعلي شأو العلماء وتخلد ذكراهم في الأمم.
إنه العلم النافع، إنه العلم المنهاجي أو الفقه المنهاجي الذي يجعل القرآن الكريم وسنة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم المنطلق والمآل، الوسيلة والهدف..
وهذا أمر يصعب على الغافلين عن هدي القرآن استيعابه والتسليم به.
إنما الأمل في ذلك على شخصية المؤمن التي “انجمع لها وفيها أشواق القلب ومحابه مع قدرات العقل واليد في محجة واحدة، على صراط الله المستقيم، دليلها المكتوب القرآن، وحجتها سنة النبي الهادي” 8 صلى الله عليه وسلم.
عجل الله لهذه الأمة انبعاث علماء يصدحون بالحق وينصرون أهله ويجددون لها أمر دينها ويكونون سببا في تبوئها أرقى مكانة بين الأمم كما كانت في سالف العصر، إنه سميع مجيب.