تحل من جديد ذكرى اليوم العالمي للعمال، والعمل النقابي، قطريا وعالميا، يعيش تراجعات وتحولات وأزمات، لأسباب وعوامل مختلفة. وهذا العيد كما هو مناسبة للاحتفال وإبراز مواقف ومطالب الشغيلة، هو مناسبة أيضا للتقييم والتقويم واستشراف المستقبل.
هذا المقال يتغيى الحديث عن العمل النقابي ومستقبله في ظل متغيرات الواقع السياسي والاقتصادي وتأثير ذلك على المشهد النقابي، وكذا التحولات التي عرفها العمل النقابي من لحظة ولادته مع الرأسمالية الصناعية إلى مرحلة التحولات العولمية، وما يعيشه الفاعل النقابي من تراجعات وأزمات.
هذه التحولات والأزمات تفرض على العمل الإسلامي التجديدي طرح بدائل للوضع الاجتماعي ومسار للمستقبل، غير المسار الرأسمالي الإمبريالي المتوحش، الذي يسعى للانقلاب على كل الحقوق التي توفرت عبر سنين من الكفاح والتسويات النقابية والسياسية، في العالم الأول، وجزئيا في العالم الثالث.
لقد عرف التاريخ البشري، وفي أماكن كثيرة، أشكالا وأنواعا مختلفة من النقابة والنقابية. والنقيب لغة، ممثل الجماعة وعريف القوم وضمينهم والناطق بلسانهم.
كما عرفت المجتمعات البشرية هيئات وتكتلات تضامنية، تتحد وتجتمع على أساس خصوصية حرفية أو مهنية أو اقتصادية، أو ثقافية…، وتقوم بأدوار اجتماعية وحقوقية مختلفة. لكن العمل النقابي بشكله الحديث، ارتبط ظهوره بالتحول الصناعي والعمل المأجور الذي عرفته أوروبا في القرنين 18 و19 وما بعدهما، وانتقل مع الاستعمار بشكله وفلسفاته إلى الدول المستعمرة، وعاش مراحل وتطورات مختلفة أتناولها في ما يلي.
العمل النقابي ما قبل العولمة
برز العمل النقابي للوجود بسبب التحولات التي أحدثتها الرأسمالية، وما أفرزته من طبقة عمالية كبيرة واسعة الانتشار، تعرضت لأبشع استغلال واستعباد ودوس الكرامة وهضم الحقوق. هذا الواقع الظالم، دفع العمال إلى الوعي بضرورة التكتل والتضامن وخلق روابط واتحادات للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم، وجعل العمل المأجور أكثر إنسانية. وظهرت مع هذا التحول فلسفات ونظريات اجتماعية وسياسية اهتمت بتحليـل وتفسير هذا التحول، أسبابه وآلياته، وحددت مهمة ودور الطبقة العاملة، من أشهرها الماركسية.
وصل العمل النقابي بشكله الحديث إلى بقية دول العالم بسبب الاستعمار وما أحدثه من تحولات اقتصادية واجتماعية و ثقافية، وتحولات في القيم والعلاقات. قام الاستعمار بمهمتي: الهدم والبناء، هدم البنى الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلاقات والقيم السابقة على وجوده، وإحلال أخرى مكانها.
وصل نداء يا عمال العالم اتحدوا…) مع النقابات الاستعمارية، وتكونت حول الشعار أحزاب سياسية وتكتلات نقابية. اتحدوا وبنوا هيكل ديكتاتورية البروليتاريا، التي أهلكت وأبادت، في الاتحاد السوفيتي البائد وحده، عشرات الملايين من الأنفس، كما أسسوا ديكتاتوريات مختلفة في أرجاء الأرض. كان النداء الشيوعي أملا فُتِـح زمانا في وجه العامل المستغل لينصفه الرأسمالي الآكل عرق جبينه، المنتزع فائض قيمة عمله، لكن ذهب الأمل وردم في ركام الخراب.
أما في المغرب فقد صارعت الأحزاب والنقابات، التي تكونت حول الشعار، النظام المخزني زمانا، ثم توافقت معه علىحساب الشعب المستضعف، توافقت على مغانم سياسية واقتصادية، وأصبحت أحد أهم دعائم النظام الجبري المخزني، وأحد أدوات الضبط الاجتماعي.
صاحب التحول الرأسمالي في أوروبا، و في العالم بعد ذلك، بسبب الاستعمار فوضى اجتماعية واضطرابات، وتفكك مؤسسات كانت قائمة. كما صاحبه أيضا فقر رهيب، ولا مساواة اجتماعية، وأزمة سياسية وأخلاقية. وتكونت برولتاريا عمالية، وأصبحت لها إيديولوجيا وفعل ومطامح…
بعد الاستقلال السياسي في الدول المسلمة مالت ملامح المجتمع المسلم إلى الشبه أكثر فأكثر بالجاهلية، وامتازت النخب المغربة عن الشعب، وارتمت في أحضان الاستعمارالجديد، وتفردت بالثروة والسلطة والنفوذ، وفقرت السواد الأعظم من الأمة، وانبنى العمل النقابي والسياسي في بلادنا على فكر وإيديولوجيا مستوردة.
وبعد الحرب العالمية الثانية وجدت الولايات المتحدة الأمريكية نفسها أمام الحقائق الجيو سياسية للحرب الباردة، ووجود قوة شيوعية منافسة، وطريق للتنمية غير رأسمالية، هو الطريق الشيوعي للتنمية.
وخوفا من تحول دول العالم الثالث إلى الشيوعية قدمت الرأسمالية حلا، لا شيوعيا، واضحا للفقر وحقوق العمال، وأكدت على القيم المدنية والأخلاقية، وعلى الحمائية وتدخل الدولة في الاقتصاد، وترتيب علاقات الأجر، والإعانات الحكومية المالية، وهكذا تكونت دولة الرعاية الاجتماعية، وبخاصة في دول العالم الأول. واضطرت الرأسمالية لمنح المواطن في بلاد الديمقراطية حقوقا اجتماعية، تخفف من وطأة الشعار الشيوعي المنافس: شعار الإنصاف في توزيع الثروة، وشعار الشغل للجميع، والمسكن للجميع، والخبز للجميع، والصحة للجميع، والتعليم للجميع، والفن والثقافة للجميع ….
وهكذا نشأت أحزاب الاشتراكية الديمقراطية، وحكمت في بلاد اسكندنافيا الغنية المصنعة التي لم تخرب الحربان العالميتان اقتصادها، وحققت حكومات هذا الاتجاه الليبرالي إنتاجا، الاشتراكي توزيعا، نصيبا مهما من الرخاء الاجتماعي، والضمان الاجتماعي، وحقوق الإنسان في الرفاهية والترفيه والصحة والتعليم والسكن وسائر العطايا، وانتصرت الديمقراطية الليبرالية في هذا الميدان، وكسبت رهان التحدي، وتفوقت على غريمتها الشيوعية السوفيتية.
هذا التقدم الاجتماعي كان ضرورة ليبرالية، ونتيجة لصراع سياسي بين اشتراكية سوفيتية وديمقراطية ليبرالية أدمجت في دساتيرها وقوانينها مطلب العدل، وحققت من العدل الاجتماعي حظا وافرا، في مثل السويد، وحظا يقاربه في بلاد أخرى، وهو انتصار اقتصادي سياسي.
النقابة والتحول العـولمي
مشروع العولمة صيغة مؤسساتية جديدة لترسيخ الرأسمالية، فالعولمة نظام لإعادة هيكلة الدول والاقتصاديات.
إن السعي نحو تراكم رأس المال هو الحافز الرئيسي في قضية النقلة التاريخية الجغرافية للعالم الغربي في العهود الأخيرة. ولا يمكن تصور علاقات عولمية من دون وجوه محلية (حكومات، نخب … وعلاقات تبعية). فحكومات النخب التابعة تقرر مصير المجتمع، وتمضي قدما في ترسيخ مشروع الهيمنة العولمية، من دون أي استشارة شعبية. فالحكومة هي الوكالة الأساسية التي توافق على سحب دعم أسعار السلع الأساسية، وخوصصة قطاعات الخدمات الأساسية، وتنفيذ ما تمليه قرارات وشروط الأسياد العولميين.
إن حماية العمل التي تحققت، في العالم الأول على الأقل، وجزئيا في العالم الثالث، على مستوى عقود من الكفاح النقابي والسياسي والتسويات، وتوفير الأساس الاجتماعي من أجل دولة غنية، دولة الرعاية الاجتماعية، تتآكل بشكل مضطرد وسريع، بسبب السوق العالمي الجديد، تماما مثلما تتآكل منظمة العمل نفسها باضطراد. ويخضع العمل المأجور، كما نعرف إلى تحول عميق موسوم بالشروط التي يزداد عدم استقرارها، وفقدان الوظائف (الطرد والتسريح والبطالة)، هو ببساطة تجويف و تفريغ لأساس اقتصاد الدولة، وتآكل دور المؤسسات الاجتماعية، وعلى رأسها النقابات التي توازن ظروف التوظيف والشروط المترافقة مع تلك الوظائف.
فالتجارة الحرة، والسياسات المتعلقة بمستويات الأجور والخدمات الاجتماعية، والنزول نحو الحد الأدنى – smic – وهو ما يعرف بالتسوية نحو الحضيض. هذه السياسة عرفت بالليبرالية الجديدة.
كان لهذه الفلسفة، التي بدأ العمل بها مع برنامج إعادة الهيكلة، نتائج كارثية، فالذين خسروا في العولمة، اتحادات العمال، والمتقاعدون وأنصار البيئة والعاطلون…، فالعمال يدفعون الحصة الأكبر من كلفة التطورات. التحول العولمي هو تحول ما بعد الحداثة، ما بعد الحداثة وسيلة ممتازة لتراكم رأس المال، وإشاعة الظلم الاستغلال، والتقديس الأعمى للربح على حساب الاهتمام بالواقع الاجتماعي، والحياة اليومية للملايين من البشر، وعلى حساب الأخلاق و العدل الاجتماعي و إنصاف العمال. لقد هزمت العولمة الرأسمالية العمال عالميا وأضعفت النقابات.
هذه المقدمة، في التحول التاريخي للعمل النقابي والسياسي الاقتصادي… ولأوضاع المسلمين، ضرورية لفهم واقعنا المعاصر، بما فيه واقع العمل النقابي والوضع الاجتماعي، واقتراح بديل مستقبلي، أكثر عدلا وإنصافا وإنسانية.
هناك تحول كبير، والمسلمون على رأس منعطف تاريخي هام. منعطف يشهد نهاية عصر وهوي عقلية وهزيمة جيل مغرب حداثي. وبروز جيل آخر معتز بالله وسوله. هذه سنة الله، ولن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا. إنها بداية عهد و نهاية عهد. ولا بد للإسلام المتجدد، إسلام الشورى والعدل والإحسان، أن يقول كلمته في كل صغيرة وكبيرة في حياة الناس وقضاياهم، لقوله تعالى ما فرطنا في الكتاب من شيء). وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
* كاتب وباحث في التاريخ والفكر الإسلامي.