هذا عيدك أيتها الأمة العظيمة، هذا عيدك أيتها الأمة التي لا تموت وإن أثخنتها الجراح. هذا فرحك الذي كتبه الله لك راحة بعد مشقة وفرجا بعد شدة، هدية منه سبحانه إلى عباده المومنين.
العيد شمس الله تشرق على الدنى، فتبدد ظلمتها – وإن اشتدت -، وتتسلل إلى جسد الأمة البارد فتغمره بالدفء، يسري نورها فيه كما تسري الدماء النقية في العروق.
ولأجل ذلك حق للأمة المسلمة أن تفرح بقدومه، وإن أنهكتها المصائب وتكالبت عليها الأقوام، وحق للمسلم أن يفرح بربه وبصيامه وقيامه. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا؛ إِذَا أَفْطَرَ فَرِحَ، وَإِذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بِصَوْمِهِ” [رواه البخاري ومسلم].
أما فرحه يوم يفطر: بأن يسر الله تعالى له صيام هذه الأيام المباركة من شهر ذي الحجة، فإذا جاء يوم النحر رفل في نعماء الله تعالى أكلا وشربا وذكرا لله، انقضى الصيام وبقي الثواب والغفران والأجر العظيم، وأما فرحه عند لقاء ربه: بأن وجد ما وعده ربه من عطاء للصائمين المخبتين وبما تقرب إليه بشعيرة الأضحية.
وما هذا الفرح والحبور إلا أحد وجوه الفرح الكبير، يوم أن ينصر الله هذه الأمة المرحومة ويعلي كلمة الحق والتوحيد، يقول عز من قائل: وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ، وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [سورة الروم، الآيات 4-6].
وفي هذا السياق يجلي الكاتب مصطفى الرافعي معان جليلة وعظيمة في ماهية العيد وأبعاده التربوية والاجتماعية والسياسية، حيث يقول: “ليس العيد إلا إشعار هذه الأمة بأن فيها قوة تغيير الأيام، لا إشعارها بأن الأيام تتغير؛ وليس العيد للأمة إلا يومًا تعرض فيه جمال نظامها الاجتماعي، فيكون يوم الشعور الواحد في نفوس الجميع، والكلمة الواحدة في ألسنة الجميع؛ يوم الشعور بالقدرة على تغيير الأيام، لا القدرة على تغيير الثياب، كأنما العيد هو استراحة الأسلحة يومًا في شعبها الحربي. وليس العيد إلا تعليم الأمة كيف تتسع روح الجوار وتمتد، حتى يرجع البلد العظيم وكأنه لأهله دار واحدة يتحقق فيها الإخاء بمعناه العملي، وتظهر فضيلة الإخلاص مستعلنة للجميع، ويُهدي الناس بعضهم إلى بعض هدايا القلوب المخلصة المحبة؛ وكأنما العيد هو إطلاق روح الأسرة الواحدة في الأمة كلها. وليس العيد إلا إظهار الذاتية الجميلة للشعب مهزوزة من نشاط الحياة، وألا ذاتية للأمم الضعيفة ولا نشاط للأمم المستعبدة. فالعيد صوت القوة يهتف بالأمة: اخرجي يوم أفراحك، اخرجي يومًا كأيام النصر” [مصطفى الرافعي، وحي القلم، ج1، المعنى السياسي في العيد. ص: 27].
وعلى المسلم أيضا أن يستشعر هذا الفرح ويستحضره في كل مناسبة ربانية، لأن ذلك من صميم اليقين والإيمان بالله عز وجل. ويجعل كل ذلك موصولا بالفرح بالله. والفرح بذلك شعيرة يجب أن تؤدى كما باقي الشعائر، وإظهاره وبثه في صفوف الخلق من تعظيم هذه الشعيرة. يقول عز وجل: ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَٰٓئِرَ ٱللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى ٱلْقُلُوبِ [الحج، 32]. فالعيد إذن مناسبة جليلة لتصديق ما أمر به ربنا سبحانه وتوطينه في النفوس اليائسة الحزينة المثقلة بالهموم والآلام، فلا نستسلم ليأس وإن ضاقت الأحوال، ولا نقطع رجاء وإن سدت الأبواب، فباب الله لا يغلق، ودوام الحال من المحال. فلا نقول كما قال الشاعر:
هـذا هـو العيـدُ، أيـنَ الأهـلُ والفـرحُ ** ضاقـتْ بهِ النَّفْسُ، أم أوْدَتْ به القُرَحُ؟!
وإنما نقول:
بزغت يا عيد بعد الهم مبتهجا ** وقد كنا من قبل في هم وتكدير
بشرت بالنصر القريب لأمة ** أحالها البغي ردما بعد تعمير
والعيد، بعد أن تترسخ معانيه في النفوس، فرصة أيضا لتجتمع القلوب وتتصل الأرواح وتتواصل بالمحبة والرحمة والإخاء، فيغدو المسلم يوم العيد إلى صلاة العيد يغنم الجوائز الربانية.
ويحرص المسلم على الصدقة وصلة الرحم والابتسام والقول الطيب والعمل الصالح الذي يدخل السرور إلى قلوب الناس، ويترك المنغصات من اللوم والعتاب والتشاحن وغيره.. ويكثر من التهليل والتكبير، لقوله تعالى: وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [البقرة من الآية: 185]. جاء في الأثر: روى ابنُ أبي شَيبةَ بسندٍ صحيحٍ عن الزهري قال: “كان النَّاسُ يُكَبِّرُونَ يَوْمَ العِيدِ حِينَ يَخْرُجُونَ مِنْ مَنَازِلِهِمْ، حَتَّى يَأْتُوا المُصَلَّى، وحتى يخرج الإمام، فإذا خرج الإمام سكتوا، فإذا كبر كبروا” .
ويكثر من الذكر والدعاء، فقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاؤه في العيدين، عن عبد الله بن مسعود قال: كان دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في العيدين: “اللهم إنا نسألك عيشة تقية وميتة سوية ومردا غير مخز ولا فاضح، اللهم لا تهلكنا فجأة ولا تأخذنا بغتة ولا تعجلنا عن حق ولا وصية، اللهم إنا نسألك العفاف والغنى والتقى والهدى وحسن عاقبة الآخرة والدنيا، ونعوذ بك من الشك والشقاق والرياء والسمعة في دينك، يا مقلب القلوب لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب”.
وتحرص المرأة المسلمة أيضا على أن لا يفوتها هذا الخير العميم من حضور صلاة العيد وغيرها من محافل الخير ودعوة المومنين، كما ورد عن سيدتنا أم عطية نسيبة بنت كعب رضي الله تعالى عنها قالت: “كُنَّا نَمْنَعُ عَوَاتِقَنَا أَنْ يَخْرُجْنَ فِي الْعِيدَيْنِ فَقَدِمَتْ امْرَأَةٌ فَنَزَلَتْ قَصْرَ بَنِي خَلَفٍ فَحَدَّثَتْ عَنْ أُخْتِهَا وَكَانَ زَوْجُ أُخْتِهَا غَزَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثِنْتَيْ عَشَرَةَ غَزْوَةً وَكَانَتْ أُخْتِي مَعَهُ فِي سِتٍّ قَالَتْ كُنَّا نُدَاوِي الْكَلْمَى وَنَقُومُ عَلَى الْمَرْضَى فَسَأَلَتْ أُخْتِي النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعَلَى إِحْدَانَا بَأْسٌ إِذَا لَمْ يَكُنْ لَهَا جِلْبَابٌ أَنْ لا تَخْرُجَ قَالَ لِتُلْبِسْهَا صَاحِبَتُهَا مِنْ جِلْبَابِهَا وَلْتَشْهَد الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُسْلِمِينَ فَلَمَّا قَدِمَتْ أُمُّ عَطِيَّةَ سَأَلْتُهَا أَسَمِعْتِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ بِأَبِي نَعَمْ وَكَانَتْ لا تَذْكُرُهُ إِلا قَالَتْ بِأَبِي سَمِعْتُهُ يَقُولُ يَخْرُجُ الْعَوَاتِقُ وَذَوَاتُ الْخُدُورِ أَوْ الْعَوَاتِقُ ذَوَاتُ الْخُدُورِ وَالْحُيَّضُ وَلْيَشْهَدْنَ الْخَيْرَ وَدَعْوَةَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَعْتَزِلُ الْحُيَّضُ الْمُصَلَّى” [ أخرجه البخاري (1652)، ومسلم (890) مختصراً].
وختاما يبقى العيد يوما من أيام الله العظيمة في حياة الأمة الإسلامية، تجلو به صدأ القلوب، وتتقرب فيه إلى الرحيم الودود، وتمسح فيه عبرات اليتامى والثكالى والمكلومين، وترجو أن يكون بداية الخير والفتح والنصر المبين.