أخبرنا الله عز وجل عن قصة شباب فتية فروا من الحاكم الظالم إلى الكهف المظلم، ليس معهم من متاع سوى الإيمان والصدق واليقين فيه سبحانه وتعالى، في قوله تعالى: نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ ۚ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وزِدْنَاهُمْ هُدًى[سورة الكهف الآية 13] فتية رفضوا الظلم والطغيان والشرك، وفروا بإيمانهم وعقيدتهم، فرار قوة وشجاعة، وفرار تحرر وانعتاق.
فلفظ “الفتية” له دلالاته اللغوية والقرآنية، إذ يدل لغة على الشَّباب، يُقالُ: فَتُوَ، يَفْتُو، فَتاءً، وقَدْ فَتِيَ يَفْتَى، فَتًى فَهو فَتِيُّ السِّنِّ بَيِّنُ الفَتاءِ، أيْ: أَصْبَحَ شابّاً، والفَتَى: الشَّابُّ، والأُنْثَى: فَتاةٌ. هي فترة تأتي بين ضعفين ضعف الصغر وضعف الشيخوخة والعجز؛ أي بين المراهقة والرجولة، وتتسم بالقوة والشجاعة. غير أن مفهوم الفتوة في القرآن الكريم هو أشمل وأعم من مفهوم الشباب الذي يقتصر على البعد الزماني، بل هي أعمق لارتباطها بمكارم الأخلاق، فهي إذن خلق ومن زاد خلقه زاد دينه.
لقد ارتبط لفظ الفتية أو الفُتوّة أيضا في معناها القرآني بالهجرة إلى الله وإحقاق الحق؛ كما أخبرنا بذلك الله عز وجل عن سيدنا إبراهيم الشاب الفتى المتطلع إلى الحق، الذي جمع أمره كله في البحث عن حقيقة الوجود، المتفكر في ملكوت الله عز وجل. وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ، فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَىٰ كَوْكَبًا ۖ قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ، فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَٰذَا رَبِّي ۖ فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ[الآيات: 75/76/77 سورة الانعام ]
كما اقترن أيضا مفهوم الفتوة بالشجاعة؛ وهي ركن ووازع لاقتحام عقبة التغيير. سواء كان تغييرا ذاتيا نفسيا، أم تغيرا مجتمعيا. فلم يكن لسيدنا إبراهيم أن ينهض لكسر الأصنام إلا لشجاعته الإيمانية، قال الله عزوجل: وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ، فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ، قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ، قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ [الآيات: 57 /58/59/60 الأنبياء] لقد عمد إلى كسر الأصنام، وكسر معها صنم العقول والأفهام والمعتقدات، إيمانا منه وإقداما وشجاعة لبناء لبنة التوحيد أولى لبنات الإسلام.
كما جاء لفظ الفتوة أيضا بمعنى الخدمة؛ قال الله عزوجل: فلما جاوزا قال لفتاه آتنا غذاءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبا[الآية: 70 سورة الكهف] وبها نال فتى سيدنا موسى مقامه. فالفتوة هي خدمة لدين الله ودعوته، وتزكية للنفس، وكسر لهواها وذلة على المؤمنين، و بذل وهمة وتهمم واهتمام واقتحام. ومما لا ريب فيه أن النموذج المحمدي خير من تجسدت فيه معاني الفتوة، ومنه عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم تشربها الصحابة الكرام.
فالفتوة إذن تربية وخلق، سرت بين أوصال الأمة، من قلب إلى قلب، تشرب وتمثل وامتثال، من خلال المجالسة والصحبة والمخاللة، فمنه عليه الصلاة والسلام تدفقت معاني الفتوة، وغمرت قلوب صحبه الكرام فتجسدت سلوكا وتربية أسست النموذج الراشد، وفاضت على من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. فهي كالنهر الجاري الى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
ولم يكن الإمام المرشد رحمة الله عليه إلا واحدا ممن تشربوا الفتوة معنى، وتمثلوها سلوكا وعبروا عنها تأليفا ونظما، وشربوها روحا وعلموها علما، وأسسوها عملا منظما. فقد كان فتى في شجاعته، وفي رجولته الإيمانية، وفي دعوته، صدع بقول كلمة الحق، وخدم دعوة الله عز وجل على بينة وعلم. فكان له من الهمة والتهمم ما جدد به للأمة أمر دينها، فأجرى الله على يديه الخير العميم، وتربى في كنفه من الشباب والشيب، العدد الكثير. فكانت فتوته فتوة شجاعة وبناء. لقد عاش فتى ومات فتى رحمه الله.
فالفتوة ليست نسبية متعلقة بفترة معينة، ولا بمرحلة دون أخرى، فهي عمر وحياة، لا تصحب إلا أصحاب الهمم العالية.