إنّ المتابع لتعليقات بعض أبناء الحركة الإسلامية من طلاب العلم على ما يجري من أحداث جسام في فلسطين ومحيطها، وكيفية مقاربتهم للخلاف السني الشيعي واستحضارهم له في سياق جيوسياسي بالغ التعقيد، يتبيّن له أننا ما زلنا بحاجة إلى التأكيد على الأسس التي تقوم عليها الحركة الإسلامية، والتي من بينها مسألة إعادة بناء الذات العلمية المسلمة وفق منهج فقهي شامل يتجاوز الفقه التجزيئي، الذي يقتصر على قضايا الأفراد، بينما يغفل التحديات الكبرى التي تواجه الأمة، مثل ترشيد الحكم، ووحدة الصف، وبناء القوة العسكرية والاقتصادية، من أجل إعادة تأسيس كيان الأمة المتين، في سياق صراع دولي طاحن.
لا شك أن العلماء هم قلب الأمة النابض وعقلها المفكر، فهم حراس الدّين وحملة مشاعل الهداية، وبهم تنهض الأمة وتتوجه نحو الرشاد والاستقامة. فهم ورثة الأنبياء، والمرجع عند النوازل، إذ تستنير الأمة بعلمهم، ويهتدي الناس برأيهم في المعضلات التي تعترضهم. فالأمة بلا علماء كالسفينة بلا رُبّان، تتقاذفها الأمواج وتتلاعب بها التيارات دون بوصلة تهديها سواء السبيل. ومن هنا، فإن الحفاظ على مكانة العلماء، والرجوع إليهم عند الملمات، وتعزيز دورهم في توجيه الفكر والمجتمع، من أهم عوامل نهضة الأمة واستقرارها.
لكن السؤال الذي يفرض نفسه: من هم العلماء الذين ينبغي للأمة أن ترجع إليهم في شؤونها كافة، ولا سيما عند الشدائد؟ وهل يكفي أن يبرع المرء في حفظ المتون الفقهية وإتقان الأحكام الجزئية لينال تلك المرتبة الرفيعة، ويكون مؤهلًا لإرشاد الأمة نحو بر الأمان، أم إن الأمر يتطلب ما هو أبعد، من فقه عميق للواقع، وبصيرة بمقاصد الشريعة المتعددة، وقدرة على الموازنة بين المصالح والمفاسد وفق رؤية شاملة؟
لقد عانت الأمة، منذ أمد بعيد، من انكسار عميق في بنيتها السياسية، أخرجها عن مسار الحكم الرشيد، وخلّف فصامًا نكدًا بين القرآن والسلطان. وكان لهذا الفصام أثر بالغ في تشكيل الهوية الفقهية الإسلامية، حيث جرى تهميش العلماء وعزلهم عن الشأن العام، وحُصر دورهم في حدود ما يسمح به الحاكم. وهكذا، انحسر الفقه في دائرة القضايا الفردية، بعيدًا عن الاشتباك الجاد مع الإشكالات التي تواجه الأمة. ومع مرور الزمن، نشأ جيل من الفقهاء لا يدركون من الفقه إلا أحكامه الجزئية، بينما غاب عنهم الفقه الجامع، الذي يُعنى بالمصالح الكلية، ويستوعب الأبعاد السياسية والاجتماعية والحضارية.
ومع بزوغ الصحوة الإسلامية، علت الأصوات المنادية بإعادة بناء ذاتٍ فقهية جامعة، تدمج بين الفقه الفردي والفقه الجماعي في رؤية متكاملة، وتربط بين مقاصد الشريعة وواقع الأمة. وقد وجدت هذه الدعوات صدى لدى أبناء الأمة المخلصين، فانخرطوا في مسالك التحصيل الفقهي التي ما زالت مناهجها السائدة قائمة على الفقه التقليدي التجزيئي.
وكان التحدي أمامهم أن يستفيدوا أولًا من التراث الفقهي الزاخر، الذي صاغته عقول جبارة عبر القرون، ثم أن ينتقلوا إلى بناء فقه جامع يتفاعل مع الواقع المتغير، ويعالج قضايا الأمة بروح الاجتهاد والتجديد. وقد وفقهم الله إلى ذلك إلى حدٍّ كبير، وأصبح يسري في الأمة، بفضل جهودهم، خطاب فقهي شامل، يستجيب لحاجات الأفراد والجماعات، ويربط بين الأصول والمقاصد، والثوابت والمتغيرات، والنصوص والواقع، مما مكّن الفكر الفقهي من استعادة جزء من حيويته وقدرته على توجيه الأمة.
إلا أن بعض هؤلاء النّافرين توهّموا أن مجرد إضافة عنوان “الفقه الجامع” إلى ما حصّلوه من علوم شرعية جزئية كافٍ لجعل الفقه شاملًا، دون امتلاك لأدواته المنهجية أو تعمّق في قضاياه. وهكذا، ظهر من يرفع لواء الفقه الشامل، لكنه يفكر بمنطق الفقه التجزيئي، مما أدى إلى اضطراب في الرؤية، وضياع البوصلة، حيث بقي حبيسًا لقوالب الفقه التقليدي، غير قادر على استيعاب الأبعاد الكلية التي تحكم واقع الأمة ورهاناتها الاستراتيجية.
والحال أنه إذا غاب عن طالب العلم فقه واقع الأمة، فقد يظن أنه يصلح، لكنه في الحقيقة يُفسد أكثر مما يُصلح، كما بيّن الإمام ابن تيمية، رحمه الله، في قوله: “من لم يعرف الواقع في الخلق والواجب في الدين، لم يعرف أحكام الله في عباده، وإذا لم يعرف ذلك… كان ما يفسد أكثر مما يصلح”.
وهذا ما نشهده اليوم مِنْ بعض مَنْ يتصدرون للحديث في شؤون الأمة دون إدراك شامل لمتغيرات الواقع وتعقيداته. فكيف لطالب علم لا يعي طبيعة الصراع الدولي الراهن، ولا يستوعب ما يتهدد الأمة من تحديات داخلية وخارجية، ولا يمتلك أدوات الفهم والتحليل لأوضاع الأمة، أن يُصدر فتاوى تحقق لها المصلحة وتدرأ عنها المفسدة؟ وكيف له أن يزن بين المصالح والمفاسد، وأن يرتب الأحكام وفق مقتضيات الزمان والمكان، دون أن يوقع الأمة في الحرج أو يجرها إلى مآزق غير محسوبة العواقب، وهو لا يفقه زمانه السياسي، ولا مكانه في الصراع الدولي؟
أوردها سعدٌ وسعدٌ مشتملُ .. ما هكذا تُوردُ يا سعدُ الإبل
ليس القصد التقليل من شأن من اجتهد وبذل وسعه، فالعالِم مأجور إن أصاب أو أخطأ، ولكل جواد كبوة. لكن الغاية التذكير بالمنطلقات، حتى نظل أوفياء لما ندبنا إليه أئمة الصحوة العظام، ونؤدي رسالتنا على أكمل وجه. هو دعوةٌ أخويةٌ ملحّةٌ لكل غيور على دينه وأمته من طلاب العلم من أبناء الحركة الإسلامية إلى مزيدٍ من الاجتهاد، والتدبّر، والتدقيق، خدمة للمشروع العلمي الجامع، كلٌّ من ثغره وتخصصه. وإلى أن يكتمل نضج شروط النظر في شأن من شؤون الأمة لدى كل طالب علم، فإن الجواب: “لا أدري” يبقى الملاذ الآمن من الفتوى بغير علم. ومن قال: “لا أدري”، وهو لا يدري حقًا، فقد أفتى، وحفظ الأمة من ضرر الجهل والأذى.
يقول الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله: “نحتاج إلى اجتهاد مشفوع بجهاد يُبصر الأمور في شمولها، ويستنبط الأحكام من أصولها. منْ لنا بفقه يستفيد من ذخائر أئمتنا دون أن يقف معها، وينحبس في أفهامها، ويقلد طرائقها في التفريع وتفريع التفريع إلى أن يغيب عن المنظر المشهد الكلي والأهداف الكلية، والغاية النهائية؟ منْ لنا بفقه واجتهاد وجهاد، يتتلمذ مباشرة لاجتهاد الصحابة رضي الله عنهم، وخاصة اجتهاد الخلفاء الراشدين أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي رضي الله عنهم؟” (تنوير المؤمنات، ج2، ص271).