لعل أهم ما يشد الناظر في الميراث العلمي للإمام عبد السلام ياسين رحمه الله ذلكم النظر المقاصدي الناظم لتفاصيل هذا الميراث والحاكم لمختلف قضاياه، سواء تعلق الأمر بالنظر التأصيلي أو النظر التنزيلي.
فقد بنى نظريته في المنهاج النبوي على كليات مقاصدية استمدها من القرآن الكريم واتخذها قواعد مكينة لمشروعه التجديدي وهي العدل والإحسان والشورى، بحيث نظمها في نسق مترابط ومتكامل، شكل نظرية وظيفية للتحليل العميق والبناء الوثيق، حيث أدرك رحمه الله أنها كليات تنتظم تفاصيل الشريعة من جهة وإجابات كلية عن عمق الأزمة في واقع الأمة من جهة أخرى، اتخذها رحمه الله معايير قرآنية كلية ثابتة لمراجعة وتقويم تراث الأمة وواقعها.
والاحتكام للقرآن بهذا النظر سر من أسرار نظره التجديدي، ذلك أن مبدأ الاحتكام للقرآن عند الإمام متفرع عن الإيمان به، والكفر مانع من ذلك كله. يقول: (إنما يحتكم إلى القرآن، ويرقي فهمه إلى التلقي عن القرآن، ويحفظ حرمة القرآن، من كان القرآن ربيع قلبه، والنظر فيه قرة عينه، والامتثال له راحة روحه، لا يضيره مع هذا أن يستفيد من علوم الأئمة) 1.
ولذلك فإن الاحتكام للقرآن في نظر الأستاذ ياسين رحمه الله مشروط بالتحرر من عائقي الكفر وسلطان التقليد ليتمكن الناظر في التراث الفقهي من التمييز بمعيار القرآن بين أصيله ودخيله، وبين المفيد المناسب وبين غيره فنفيد من تراث سلفنا ما ينفع واقعنا وقضايانا مما يشهد له القرآن، يقول الأستاذ رحمه الله: (في تجارب سلفنا الصالح من العلماء وفي محاولاتهم واجتهاداتهم ما هو حريّ بإثراء تجربتنا، وتقويم محاولاتنا، وتوجيه اجتهادنا إن نحن وضعناها جميعا أمام القرآن والقرآن يحكم، نفحصها على ضوئه، في نشوئها وتسلسلها، وتعاقب أشكالها ومناهجها، وتأثرها بحركة الحياة العامة وتأثيرها فيها، وإقدامها وإحجامها، ونتائج صوابها وخطإها) 2.
وفي سياق البحث عن علل السؤال العلمي والثقافي في حاضر الأمة، وعن أصالة الجواب قام الأستاذ ياسين بمراجعة التراث العلمي الإسلامي مراجعة تجديدية فاحصة قاصدة، التزم فيها منهجا وسطا بين الغالين المقدسين لهذا التراث وبين المنتحلين المسفهين له، فكان للرجل وقفات عميقة مع مختلف معارف التراث في غاية العدل وتمام الإحسان، حيث رجع هذا التراث في سياقه التاريخي الذي أنتج فيه إنصافا له وتمييزا بين ما فيه من مقاصد ثابتة مستمرة ووسائل نسبية متغيرة، فلم يكن رحمه الله ممن ينظر للمسائل العلمية بعيدا عن واقع الأمة ومستقبلها، بل ظل وفيا لمنهجه القائم على تقويم واقع الأمة وتاريخها بمقاصد الوحي كتابا وسنة.
فقد أدرك الرجل أن حاجة الأمة الآن ليست في التفاصيل المعرفية في مختلف الفنون التي يزخر بها تراثنا العلمي، إنما الحاجة إلى ما سماه رحمه الله الفقه الجامع فقه الكليات والمقاصد الذي يمكننا من منهج النظر والتقويم والإبصار الشمولي للشريعة ولتاريخ الأمة وواقعها ومستقبلها، وهذا ملمح تجديدي مقاصدي عميق منه رحمه الله.
فمن بين القضايا المقاصدية التي أعمل فيها نظره التجديدي المتميز، دعوته إلى الأخذ بأصل التعليل المصلحي للشريعة وتجاوز الخلافات الكلامية والأصولية القديمة في الموضوع، لأنه أساس التجديد وعمدة الاجتهاد، وحتى لا ينفلت القول بالمصلحة من مقتضى الشريعة ربط الأستاذ رحمه الله بين الدنيا والآخرة في مسمى المصلحة. فمصالح الدنيا محكومة بأفق الآخرة من حيث الاعتبار الشرعي، وهو من باب تحكيم المقصد في الوسيلة، فهو رحمه الله استطاع بنظرة تجديدية متميزة أن يوسع دائرة التعبد حتى شملت دائرة التعليل وانتظمتها دون معارضة.
وأما ترتيب المقاصد الشرعية فقد قارن بين ما قرره أهل المقاصد القدامى من ترتيب وبين مطلوب واقع الأمة وأولوياته، فقرر رحمه الله أن المقصد الأسمى المقرر قرآنا الملح واقعا أن يكون الدين كله لله، كما أن أم بقية المقاصد وحدة شتات الأمة، وهما مقصدان شرطيان لبقية المقاصد تفطن لهما الأستاذ رحمه الله.
ومن ملامح التجديد المقاصدي عند الأستاذ ياسين كذلك ما ذهب إليه في موضوع الصيغة الحفظية للمقاصد التي تقررت على يد الإمام الغزالي رحمه الله ثم درج عليها من بعده من أهل العلم، حيث اطرد الأستاذ رحمه الله منهجه في النظر حين قارن بين الواقع التاريخي الموجب عند الأصوليين لصيغة الحفظ وبين واقع الأمة الحالي الذي غاب فيه ما كان يحرص هؤلاء على حفظه من مقاصد، فلزم بهذا المقتضى أن نعبر بالصيغة المطلبية عن المقاصد الضائعة.
وفي موضوع الاجتهاد وشروطه كانت له نظرة تجديدية متميزة انطلاقا من نعته بعلم الاجتهاد، ثم ربطه بالجهاد على وجه التكامل والتساند في وظائفهما المطلوبة، وهي أن يجمع الاجتهاد شتات العلم في كليات، ويجمع الجهاد شتات الأمة في سلك نظام الخلافة الجامع 3، ويبين الأستاذ عمليا هذا الترابط بين الجهاد والاجتهاد حين اعتبر بناء جماعة المسلمين لبنة لبنة حتى التوحيد الكامل عبر أقطار التجزئة وبناء حكم شوري وعدل وإحسان مناط الجهاد الأساس لتحقيق المقاصد الشرعية ويأتي الاجتهاد حيا مواكبا لحركة حية ممهدا في المجال الفقهي لتقدم الركب الإيماني الذي رباه الإحسان، وحركه الغضب لله 4.
وقد ذهب الدكتور القرضاوي من المعاصرين مذهب الأستاذ في بيان علاقة الترابط والتكامل بين الاجتهاد والجهاد كما كان الأمر زمن النبوة والخلافة الراشدة، حيث قال: (وعند التأمل نجد أن كلا المفهومين يكمل الآخر ويخدمه، فالاجتهاد إنما هو لون من الجهاد العلمي، والجهاد إنما هو نوع من الاجتهاد العملي) 5.
أما ما قرره الأصوليون من شروط للاجتهاد وفاقا وخلافا، فقد أعاد فيها الإمام المجدد النظر وفق مطلوب واقع الأمة ومستقبلها، حيث أجمل القول بأن الاجتهاد ينبغي أن يصدر من همم عالية ونفوس مجاهدة يحكمها أفق واسع، وهو النظر (من أعلى إلى الأمور، من جانب القرآن، والسلطان واقف بين يديه للخدمة، وأن ينظروا بعيدا إلى أفق وحدة الأمة وإقامة العدل والشورى، وحمل رسالة رب العالمين للعالمين) 6، لذلك اشترط رحمه الله أن يكون أهل الاجتهاد أهل تربية ودعوة وجهاد وتعاون جماعي.
إن حرص الأستاذ رحمه الله على تجديد النظر في الاجتهاد الأصولي والنظر المقاصدي لم ينسه التنبيه والتحذير من عوائقه ونواقضه، أجملها في اثنين، عائق التقليد وعائق التسيب، فالتقليد ينافي الاجتهاد ويثبط المجتهدين فعلا، يقول الأستاذ: (بالتقليد من تحت لفكر من قبلنا وآرائهم لا يمكن أن نبني إلا بناء تقليديا يجمد على النمط الموروث) 7، كما أن الجمود على ظواهر النصوص دون مقاصدها يعيق صاحبه عن النظر إلى معالي الأمور مما اقتضته نصوص الشريعة ومقاصدها، لذلك أطلق الأستاذ دعوته: (ولا نتحَجَّرَ على حرفية النصِّ صُمّاً بُكما لا نعقل مراد الله وهو المصلحة العليا لأمة رسوله صلى الله عليه وسلم، أمةِ الاستجابة وهم المسلمون الذين ورثوا الإسلام أو اختاروه بالفعل، وأمَّةِ الدعوةِ وهم الإنسانيةُ كلُّها التي تنتظر مخرجا من ضَيْقها، ومُخَلِّصاً من قبضة الشيطان وجنوده) 8.
عائق التسيب والجرأة على الشريعة من قبل من سماهم الأستاذ “إسلامولوجيين” 9، وهم من لا يؤمنون بربانية هذه الشريعة أصلا، ويرونها مجرد نصوص تاريخية يمكن لكل من تسلح بمنهجيات قراءة النصوص أن يتناولها بالتفسير والتأويل كباقي المجتهدين وإن كان فاقدا لشروط الاجتهاد، يقول الأستاذ: (ويجيء مقتحم لم يطّلع على ما أثّلَه سلفنا الصالح، ولم يبلغه عنه خبر، أو بلغه فتكبّر واحتقر، فيزعم أن تلك العقول القديمة وما أفرزته تُراث مجيد يُحتَفَل به ويوضع على الرف) 10، لذلك تجد هؤلاء الإسلامولوجيين حسب عبارة الأستاذ يقودون دعوة عريضة إلى تجاوز علم أصول الفقه الضابط للاجتهاد ليتأتى لهم ما يريدون من السباحة الحرة في نصوص الشريعة 11.
فهما عائقان خطيران أفرزهما الواقع المعاصر دعا الأستاذ ياسين إلى وجوب دحضهما وتجاوزهما إلى أفق الاجتهاد الشرعي المطلوب، لما يمثلانه من طرفي النقيض: نقيض التسيب والإفراط عند التيار العلماني ونقيض القصور والتفريط عند أهل التقليد.
هذه بعض ملامح النظر المقاصدي المتميز عند الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله رحمة واسعة.
والحمد لله رب العالمين.
[2] ياسين عبد السلام، المصدر السابق ص 33.
[3] ينظر ياسين عبد السلام، نظرات في الفقه والتاريخ ص 17.
[4] ينظر المصدر السابق ص 74.
[5] القرضاوي يوسف، الاجتهاد في الشريعة الإسلامية ص 2.
[6] ياسين عبد السلام، المصدر السابق ص 83.
[7] ياسين عبد السلام، نظرات في الفقه والتاريخ ص 82.
[8] ياسين عبد السلام، إمامة الأمة ص 232.
[9] ينظر ياسين عبد السلام، حوار مع الفضلاء الديمقراطين ص 46، والشورى والديمقراطية ص 73.
[10] ياسين عبد السلام، الشورى والديمقراطية ص 74.
[11] ينظر ياسين عبد السلام، نظرات في الفقه والتاريخ ص 82، وحوار مع الفضلاء الديمقراطيين ص 45.