يحق لنا نحن المغاربة أن نفتخر بأحد كبراء علماء هذه الأمة الذي رزقه الله القبول عند الناس وأعلى ذكره وعلمه بين العالمين بسبب وصفه لشمائل النبي محمد عليه أفضل الصلاة والتسليم، إنه القاضي عياض صاحب كتاب الشفا في شرف المصطفى، حيث يعتبر هذا الكتاب أجمل كتبه وأكثرها ذكرا وانتشارا، فهذا الكتاب رزقه الله من الحظوة والشهرة والسرِّ والبركة ما لم يرزقه أي مؤلف مغربي آخر.
والعجيب أن القاضي عياض هو من الأعلام القلائل الذين لم يفقد من مؤلفاتهم شيء، على الرغم من المحنة الهائلة التي تعرض لها عندما اضطهدته السلطة فقضى نحبه تحت رماح الباطل من أجل ثباته على الحق. هذا الحفظ الذي حفظه الله عز وجل لمؤلفات القاضي عياض أكثر من ألف سنة دليل على عظم هذا الرجل ومكانته عند المولى عز وجل، يقول أحمد المقري: “ولا يمتري من سمع كلامه العذب السهل المنور في وصف النبي صلى الله عليه وسلم أو وصف إعجاز القرآن أن تلك نفحات ربانية ومنحة صمدانية خص الله بها هذا الإمام وحلاه بدرها النظيم، ذلك فضل الله يوتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم”.
لولا عياض ما ذكر المغرب
من المعروف أن عامة المغاربة يقرنون بين صحيح البخاري وكتاب الشفا في تعظيم مكانتهما والتبرك والاستشفاء بهما. ومن الأمثال المغربية التي يتناقلها الأبناء عن الأجداد قولهم: لولا عياض ما ذكر المغرب، وقال آخرون: لولا الشفا لما ذكر عياض، وهذا هو الذي عبر عنه العارف الحلفاوي في كتابه شمس المعرفة بقوله: “قال العلماء من أهل الرسوم: لولا عياض ما ذكر المغرب، وقال أهل الفهوم: لولا الشفا ما ذكر عياض بين الرسوم، لأن غيره قد ألف أكثر من تواليفه وهو مع ذلك غير معلوم”.
وقد ورد في كتاب النجم الثاقب لابن صعد التلمساني أن بعض الصالحين قال: “رأيت القاضي أبا الفضل بعد موته في المنام وهو في قصر عظيم جالس على سرير قوائمه من ذهب قال: فكان يسألني عن مسألة فأقول له: يا سيدي ذكرت فيها في كتابك الموسوم بالشفا كيت وكيت، قال: فكان يقول لي: أعندك ذلك الكتاب؟ فأقول له: نعم. فيقول ليشدَّ يدك عليه، فبه نفعني الله وأعطاني ما تراه”.
عياض الشاهد بالقسط
في ظل دولة المرابطين، وُلد ونشأ وترعرع القاضي عياض سنة 476 هـ بمدينة سبتة، وفي ظلها أيضًا صار من أعلام العلماء وكبار القضاة، ولأن المرابطين لم يعمّروا طويلاً فإن القاضي عياض شاهد هزيمتهم أمام جيوش الموحدين أتباع ابن تومرت الذي ادعى العصمة والمهدية. ومما يرويه المؤرخون أن الموحدين سفكوا دماء مئات الآلاف من المرابطين، وأبادوا مدنًا بأكملها من على وجه الأرض، فمدينة «سلا» ذبح الموحدون سكانها عن بكرة أبيهم عندما حاولوا مقاومتهم، ثم وقعت مذبحة «مراكش» المهولة التي لم تعرف بلاد المغرب والإسلام قبلها من نظير، وذلك عندما قام الموحدون باقتحام مدينة «مراكش» عاصمة المرابطين وآخر حصونهم وذبحوا أهلها جميعًا وكانوا بمئات الألوف، ثم قاموا بعد ذلك بهدم المدينة بالكلية بدعوى أنها مدينة نجسة وأهلها مشركون (كان الموحدون يصفون المرابطين بالمجسمة والمشبهة). وتحكي كتب التاريخ أن الموحدين قد قتلوا قرابة المليون مسلم من أجل إقامة دولتهم.
عندما رأى القاضي عياض تلك القسوة والوحشية الدموية المفرطة في تعامل الموحدين مع خصومهم، قرر القاضي الاتصال بزعيم المرابطين «يحيى بن غانية» وكان الوحيد الذي بقي من كبار قادة المرابطين، ونسق معه من أجل القدوم إلى مدينة «سبتة» وتسليمها إليه، على أن يعمل يحيى بن غانية على مجاهدة الموحدين وتحرير مدن المغرب من نيرهم وضلالهم، وبالفعل وافق «يحيى بن غانية» على ذلك فأعلن أهل سبتة خلع طاعة الموحدين وذلك سنة 543هـ.
عياض الإمام الشهيد
سارت الأمور على غير مراد القاضي عياض، إذ تخاذل يحيى بن غانية عن القدوم إلى سبتة في حين أسرع الموحدون إلى حصار المدينة بجيوش كثيفة، فخاف القاضي عياض على أهل المدينة من القتل والسبي، فخرج إلى الموحدين بنفسه، وأقر لهم أنه المسؤول عما جرى، فحملوه إلى أمير الموحدين عبد المؤمن بن علي وكان وقتها في مراكش، فعفا عنه عبد المؤمن وصفح عما جرى، ولكنه طلب منه أن يقر بعصمة ابن تومرت ومهديته، ويكتب بذلك كتابًا للآفاق كلها، فعلم القاضي عياض أن الموحدين قد طلبوا منه ذلك الكتاب ليكون حجة لهم ودليلاً على باطلهم، وصك شرعية من أكبر علماء المغرب والأندلس وقتها، فأعلنها مدوية أمام الملك الموحدي؛ أنه لا عصمة لابن تومرت، ولا مهدية له، وأنه دجال ضال في باب العقائد والأقوال والأفعال، وأن دماء الأبرياء في رقبته ومسؤول عنها يوم القيامة، فقتل قتلة توجع القلب وذلك يوم 9 جمادى الآخرة سنة 544هـ.
يصف المؤرخون المشهد بعبارة (فتناوشته الرماح حتى مزق الإمام إربا إربا) أي قام الموحدون بقتله بالرماح حتى قطعوه إربًا ثم قاموا بجمع أشلائه ودفنوها في مكان مجهول بمراكش بلا صلاة ولا غسل كأنه واحد من غير المسلمين، بل وقاموا بعد ذلك بما هو أنكى من ذلك، فأقطعوا تلك المنطقة للنصارى فبنوا بجوار قبره كنيسة وبعض الدور.
من بركات كتاب الشفا
ومما يعد من بركات كتاب الشفا على القاضي عياض ظهور قبره سنة 712هـ في عهد الدولة المرينية التي أسقطت دولة الموحدين، وفرح الناس والعلماء بذلك الأمر بشدة، وأمر القاضي أبو إسحاق بن الصباغ بتسوية ما حول القبر وإشهاره وإظهاره، واجتمع الناس عنده وصلوا عليه مرات كثيرة، وختموا القرآن عنده مرات كثيرة، وقد أصبح ضريح القاضي عياض منذ يومئذ من المزارات التي يتبرك بزيارتها الملوك والعوام وغيرهم. واستمرت العناية بكتاب الشفا طوال العهد المريني وعهد بني وطاس، وغدا محرضا روحيا في أيامهم التي تكالب فيها البرتغاليون على سواحل المغرب.
ومما يدل على مكانة الضريح لدى الخاصة والعامة ما حكاه أبو عبد الله محمد بن مبارك قال: “لما قدم أبو علي اليوسي لزيارة ضريح عياض في حدود المائة وألف عرض له جيران ضريحه فقالوا: نريد معرفة حد حرم أبي الفضل فقال لهم: “المغرب كله حرم لأبي الفضل”.
وقد أنشد أحدهم:
كلهم حاول الدواء ولكن
ما أتى بالشفاء إلا عياض
رحم الله مولانا القاضي عياض ورحم من دلنا عليه وحثنا على قراءة كتابه الشفا، وصلى الله وسلم وبارك وأنعم على سيدنا محمد خاتم النبيين وعلى آله وصحبه أجمعين، وسلم تسليماً كثيراً.