في ظلال القرآن نعيش المعاني والأسرار، معاني الصحبة بالكينونة مع الصادقين أمرا ونداء من الرب الكريم لعباده المؤمنين، قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (التوبة، 119). معية تسمو بالحال، وترفع المقام في مدارج الإيمان، شرط أساس في التربية والسلوك، عاشها الصحابة في حضرة الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم ومن تبعهم، نورا يسري من القلوب، جيلا بعد جيل، اتباعا واقتداء، أسرارا وأنوارا.
صحبة وفتح
إرادة وجه الله عز وجل والتماس الطريق إليه وطلب منازل القرب منه، مقاصد ذوي الهمم العالية، ورجاء صفوة الصالحين من عباده، الذين ورثوا نور صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم بتسلسل المدد القلبي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يَأْتي علَى النَّاسِ زَمانٌ، فَيَغْزُو فِئامٌ مِنَ النَّاسِ، فيَقولونَ: هل فِيكُمْ مَن صاحَبَ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، فيُفْتَحُ لهمْ، ثُمَّ يَأْتي علَى النَّاسِ زَمانٌ، فَيَغْزُو فِئامٌ مِنَ النَّاسِ، فيُقالُ: هلْ فِيكُمْ مَن صاحَبَ أصْحابَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، فيُفْتَحُ لهمْ، ثُمَّ يَأْتي علَى النَّاسِ زَمانٌ، فَيَغْزُو فِئامٌ مِنَ النَّاسِ، فيُقالُ: هلْ فِيكُمْ مَن صاحَبَ مَن صاحَبَ أصْحابَ رَسولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فيَقولونَ: نَعَمْ، فيُفْتَحُ لهمْ” (1).
صحبة وفتح توارثهما الصحب الكرام عن مشكاة الهدى، وورثهما من بعدهم التابعون ومن تبعهم، قلوب واصلة موصلة لنور من رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم. يقول الحبيب المرشد رحمه الله: “بركة متسلسلة، وفلاح ونصر، وإن التابعين فمن بعدهم إلى يوم القيامة لتشم أرواحهم نسيم الحب والقرب من عشرة أصحاب القلوب النيرة الخيرة، وتحوم حولها وتقتبس منها نورا ومحبة” (2).
صحبوا رسول الله وفُتِحَ لهم، ورأوا من صحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ففتح لهم، وأي فتح أكرم من اصطفائك لتكون في زمرتهم، وأي فتح أعظم من أن يهيئ لك الكريم سبحانه عارفين به يدلونك عليه، خبراء بالطريق الموصلة إليه عز وجل.
محبة واقتداء
من أنوار الوحي نستلهم الدروس ليكون اتباعنا على هدى وبصيرة، ننصت لقوله تعالى يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بصبر النفس وحبسها مع المؤمنين الصادقين المريدين وجهه: وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (الكهف، 28). أمر إلهي، لنبيه المعصوم والمؤيد بالوحي صلى الله عليه وسلم، لنتعلم أن جوهر الدين بعد الإيمان، كينونة مع الصادقين الذاكرين، نستقي المعاني، ونقتفي أثر النور النبوي في التمسك بالصحبة الصادقة التي توحد وجهتنا وتقوي توجهنا القلبي الخالص، صحبة الصادقين الذين تجمعهم بعد حب الله حب رسول الله صلى الله عليه وسلم عروة وثقى، دستور للمحبة والصحبة حدثنا به ربنا سبحانه؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في ما يبلغنا عن ربه عز وجل: “حقت محبتي للمتحابين في، وحقت محبتي للمتواصين في، وحقت محبتي للمتناصحين في، وحقت محبتي للمتزاورين في، وحقت محبتي للمتباذلين في، المتحابون في على منابر من نور يغبطهم بمكانهم النبيون والصديقون والشهداء” (3).
صحبة وجماعة انتظمت بالتحاب في الله والتواصي فيه، انتظمت بالتناصح والتزاور فيه، فاكتسب المؤمنون ببذلهم المادي والمعنوي مؤهلات القوة الجهادية؛ قال تعالى: مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ (الحجرات، 29). واكتسبوا الرحمة تربط قلوبهم وتسري في أفعالهم، فهم خريجو المدرسة النبوية الرحيمة، قال عز وجل: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ ۖ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ (آل عمران، 159)، لين ورحمة عليهما تألفت الجماعة المؤمنة المجاهدة في العهد النبوي، وعلى نهجها تتألف الجماعة الموعودة بالخلافة والنصر والتمكين.
معية ووفاء
كان الصحابة رضوان الله عليهم مثالا في الوفاء؛ رجولة في الميدان، وصدق في الأحوال والأقوال، صنعت منهم التربية النبوية رجالا أوفياء صدقوا العهد مع الله صدق طلب، وصدق هجرة، وصدق نصرة، فهم الأتقياء الأبرار، رهبان الليل، فرسان النهار، لم تشغلهم الدنيا عن الله وعن نصرة دين الله، قال تعالى: رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ ۙ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (النور، 37).
وفاء بعهد الله، بذل وعطاء، اقتحام لكل العقبات النفسية والحسية، يتسابق الفاروق عمر رضي الله عنه ويأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنصف ماله، قال رضي الله عنه: “أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق فوافق ذلك مالا عندي، فقلت اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يوما، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال صلى الله عليه وسلم: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله” (4). تسابق في ميدان البناء، بناء الدعوة والدولة، برهان، وهي براهين في سيرتهم لصدق صحبتهم وولائهم، قال تعالى: مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (الأحزاب، 23).
رجال صدقوا الله في كل العهود؛ محبة وذكرا، صدقا وبذلا، يربطهم عبر الأجيال والأزمان دعاء يصل اللاحق بالسابق، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (الحشر، 10).
المؤمنون الرجال، الخبراء العارفون بالله الثابتون في ميدان الدعوة والجهاد، هم أمل هذه الأمة في غدها المشرق، حولهم تتألف القلوب، وبهم تشحذ الهمم والإرادات. “الله سبحانه وحده قادر على أن يعيد ما تفرق من سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم لتتجمع الأمة كلها خلف قيادة، في شخص أو أشخاص، في زمن أو أزمان، جامعة للوراثة المحمدية الروحية والجهادية، لامة لشعث ما تفرق محيية لقلوب ماتت، باعثة لهمم همدت وخمدت، منورة لعقول أخذها الجهد لتصور ‘البدائل الإسلامية’” (5).
1. صحيح البخاري.
2. عبد السلام ياسين، الإحسان 1، ص 197.
3. رواه الإمام أحمد.
4. سنن الترمذي.
5. الإحسان، م. س. ص 243.