“اللمة” ركيزة لبناء شخصية متوازنة

Cover Image for “اللمة” ركيزة لبناء شخصية متوازنة
نشر بتاريخ

يعد التجمع العائلي “اللمة” من أهم الركائز التي تحقق الاستقرار الأسري والتوازن النفسي للأطفال، حيث يعزز الروابط العاطفية بين أفراد الأسرة، ويوفر بيئة آمنة للنمو العاطفي والاجتماعي، ويغرس القيم الأخلاقية من خلال التفاعل المباشر بين الأجيال. فالأطفال الذين ينشؤون في أسر تحافظ على التجمعات العائلية المنتظمة يكونون أكثر ثقة بأنفسهم وأقل عرضة للقلق والاكتئاب، كما أنهم يطورون مهارات اجتماعية أقوى بسبب التواصل الحقيقي مع والديهم وإخوتهم. إن لحظات الاجتماع الأسري، سواء على مائدة الطعام أو في الجلسات المسائية أو في مناسبات الأسرة الممتدة، تعد مختبرًا تربويًا حيًّا يتعلم فيه الطفل أولى دروس الحياة: كيف يصغي؟ كيف يتكلم؟ كيف يعبر عن مشاعره بصدق دون خوف من الرفض أو التهكم؟ في هذه اللقاءات يتذوق الطفل طعم الأمان النفسي، حين يدرك أن ثمة من يهتم لما يشعر به ويفكر فيه. وهذا الإدراك، بحسب علم النفس التنموي، يمثل حجر الأساس في بناء تقدير الذات وتكوين شخصية سوية قادرة على التفاعل مع الآخرين. التجمع العائلي إذن، هو لحظة يتعلم فيها الطفل بالقدوة والممارسة، قبل التلقين والوعظ، يستبطن الطفل دون وعي دروسًا في الاحترام والتوقير والتواضع. وحين يشهد الأسرة تتقاسم الطعام والضحك والهموم، يتشرب معاني المشاركة والرحمة والتضامن، وهي كلها قيم تأسيسية لا تُبنى إلا في حضن جماعة صغيرة دافئة.

ومع ذلك، فقد أثرت مواقع التواصل الاجتماعي سلبًا على هذا التفاعل، حيث باتت الهواتف الذكية تسرق أوقات العائلة، مما يقلل من جودة التواصل العائلي ويضعف الروابط الأسرية، ويؤدي إلى عزلة الأطفال داخل منازلهم رغم وجودهم جسديًا مع أسرهم. وتشير الدراسات إلى أن الأسر التي تحافظ على تجمعاتها الدورية، مثل تناول وجبات مشتركة أو القيام بأنشطة جماعية، تتمتع بمعدلات استقرار أعلى، وأطفالها يكونون أكثر قدرة على التعبير عن مشاعرهم والتعامل مع ضغوط الحياة. لذا، من الضروري تبني عادات أسرية تعزز من أهمية هذه اللقاءات، مثل تحديد أوقات خالية من الأجهزة الإلكترونية، وتشجيع الحوار المفتوح، وممارسة أنشطة مشتركة، لضمان استمرار دور الأسرة في بناء شخصية الطفل وتعزيز استقراره النفسي في عصر تهيمن عليه التكنولوجيا.

ليس التجمع العائلي إذن مجرد وقت نملأه بالكلام أو الأكل، بل هو فعل تربوي يُعيد الإنسان إلى مركزية العلاقة الحقيقية مع الآخر، بعيدًا عن وهم العلاقات الرقمية التي تشيع في عالم اليوم. هو اللحظة التي يتعلم فيها الطفل أن الإنسان يُقاس بقيمته الداخلية لا بعدد إعجاباته أو متابعيه، وأنه محاط بمن يحبونه بلا شروط أو مقابل.

لقد ربط النبي صلى الله عليه وسلم بين الاجتماع الأسري وصلة الرحم، وبين البركة في العمر والرزق، فقال: “من أحب أن يُبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره فليصل رحمه” [رواه البخاري]. وليس ذلك ارتباطًا ماديًا محضًا، بل هو إشارة إلى أثر هذه الروابط العائلية في حفظ الإنسان نفسيًا واجتماعيًا، وجعله جزءًا من شبكة أمان ممتدة تحميه من غوائل الزمن وتخفف عنه أثقال الحياة. فالأسرة التي تجتمع وتتحاور، تخلق لدى أبنائها شعورًا بالانتماء إلى شيء أكبر من ذواتهم، وهو شعور بالغ الأهمية في زمن يسود فيه التفكك والنزعات الفردية المفرطة.

إن التجمع العائلي هو الفضاء الطبيعي الذي يُعيد للطفل شعوره بالانتماء والأمان، ويغرس فيه جذور القيم الكبرى: الرحمة، الاحترام، المشاركة، المسؤولية، والاعتراف بالآخر. وهذه كلها ليست ترفًا أو كماليات، بل هي شروط ضرورية لبناء مجتمع سليم، يبدأ من داخل الأسرة، ومن لحظات تبدو عادية لكنها تحمل أعظم الأثر في تشكيل وجدان الطفل ووعيه.

لهذا كله، لا بد أن تستعيد الأسر وعيها بقدسية هذه اللحظات، وأن تتعامل مع التجمع العائلي كأولوية يومية لا تُؤجل، وكفعل تربوي يصنع الفرق بين طفل هشّ يبحث عن ذاته خارج أسرته، وطفل واثق ينمو في بيئة تُشعره أنه مرئي ومسموع ومحبوب على الدوام.