قال الله تعالى: بسم الله الرحمن الرحيم حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفرقُ كلٌّ أَمرٍ حَكيمٍ (4) أَمرًا منْ عِندنَا إنَّا كُنـّا مُرْسِلين (5) رحمةً من ربكَ إِنه هو السّميعُ العليمُ (6) [الدخان].
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ(1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) [القدر].
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْـزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة: 185].
الهاء “الضمير” في كلمتي أنزلناه في الآيتين يعود إلى القرآن الكريم، أي أن القرآن أنزله الله تعالى في ليلة مباركة، هي ليلة القدر، والآية الثالثة تزيدنا توضيحا أن هذه الليلة في شهر رمضان. فما هي هذه الليلة؟ وكيف أنزل فيها القرآن؟ وما هي مميزاتها؟ وكيف نتعامل معها؟
1- الليلة المباركة هي ليلة القدر
أقسم الله عز وجل بالكتـاب المبين وهو القرآن العظيم أنه أنزل هذا الكتـاب في ليلة مباركة وهي ليلة القدر، حيث يكاد يجمع المفسرون أن الليلة المباركة التي ذُكـرت هنا في سورة الدخان هي ليلة القدر التي ذكـرت في سورة القدر (بعضهم يشير أنها يمكن أن تكون ليلة النصف من الشعبان، وهو رأي ضعيف لغياب الأدلة، وقوة دليل أنها ليلة القدر).
2- كيف أنزل القرآن فيها؟
من المعلوم أن القرآن الكريم أنزل منجما على الرسول صلى الله عليه وسلم لمدة 23 سنة (منها 13 عشر سنة في مكة)، تثبيتا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومسايرة للوقائع والأحداث، وتدرجا في تربية وتزكية وتعليم المومنين، وإعجازا للمشركين..
والله سبحانه يقول: إِنَّا أَنْـزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ وإِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ فهي ليلة واحدة، والأمر في ذلك على رأيين:
– “ذهب بعض العلماء إلى أن ما نزل في ليله القدر بداية الوحي بالقرآن، إشارة إلى أوائل سورة العلق وقد بدأ الوحي بها، وهو مروي عن ابن عباس، قال: (ثم تتالى نزول الوحي، بعد ذلك وكان بين أوله وآخره عشرون سنة).
– وذهب بعض العلماء إلى أن المنزل في تلك الليلة، هو جميع القرآن جملة واحدة، وكله إلى سماء الدنيا، ثم صار ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم منجما حسب الوقائع. وهو قول الجمهور، حتى حكى الألوسي عليه الإجماع. والراجح أنه لا منافاة بين القولين، حيث يمكن الجمع بين القولين، إذا عُلم أن بداية نزول القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم كان في غار حراء، ونزل حينها أوائل سورة العلق، وكان في ليلة القدر، ثم تتابع لفترة ثلاث وعشرين، فقد نزل في الدنيا منجما، وعليه يحمل القول الأول، وأما القول بنزوله جملة في ليلة القدر فمحمول على نزوله من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في سماء الدنيا، وفي كل حالته تشريف لهذا القرآن” (نقلا عن موقع islameonline.net).
وجماع ذلك ما قاله قتادة: “أنزل القرآن كله في ليلة القدر من أم الكتـاب، وهو اللوح المحفوظ، إلى بيت العزة في سماء الدنيا، ثم أنزله الله على نبيه صلى الله عليه وسلم في الليالي والأيام ، في ثلاث وعشرين سنة”.
3- بعض مميزاتها
هذه الليلة ليلة مباركة، فيها يفرق كل أمر حكيم، خير من ألف شهر، تنزل الملائكة والروح فيها من كل أمر… فهي مباركة:
– بنزول القرآن فيها، وهو هدى ورحمة وبينات من الهدى والفرقان… شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ [البقرة: 185].
– بمضاعفة الأجر فيها، فهي خير من ألف شهر. رمضان كله مبارك كما جاء في الحديث النبوي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: “أتاكم شهرُ رمضانَ، شهرٌ مبارَكٌ، فرض اللهُ عليكم صيامَه، تفتحُ فيه أبوابُ الجنَّةِ، وتُغلَق فيه أبوابُ الجحيم، وتُغَلُّ فيه مَرَدَةُ الشياطينِ، وفيه ليلةٌ هي خيرٌ من ألف شهرٍ، من حُرِمَ خيرَها فقد حُرِمَ” [أخرجه النسائي وهو في صحيح الجامع]، وقال أيضا: “جاءكم المطهر”، ففيه تطهير للذنوب.
– نزول جبريل والملائكة فيها: تنَزّلُ الملائكةُ والروحُ فيها بإذن ربهم من كل أمْر ٍسلام هي حتى مطْلع الفجر [القدر: 4-5]، وتنزّلُ الملائكة يرتبط بتنزلِ البركة والرحمة، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ويحيطون بحلق الذكر ويضعون أجنحتهم لطالب العلم رضى بما يصنع… ويتنزل الملائكة لإلقاء السلام على المومنين الذين صاموا أيامه وقاموا لياليه.
– إِنَّا أَنـزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ [الدخان: 3-4] قال: يقضى في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو مصيبة، ثم يقدّم ما يشاء.
– قال رسول الله ﷺ: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه».
– مباركة لأنها كثيرة الخيرات والبركات في الدنيا والآخرة.
4- كيف نتعامل مع ليلة القدر؟
لحكمة من الله ولحث المومنين على الاجتهاد أخفى الله هذه الليلة، فقد روي عن عائشة رضي الله عنها قالت: “قال رسول الله ﷺ: تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان” [أخرجه البخاري]، وقد سبق ذكر الحديث “من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه”.
وتحريا لليلة القدر يجمل للعبد:
– تحري ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، وهي من الليلة التاسعة عشر لهذا الشهر الفضيل، أو على الأقل في الليالي الوترية، ومنهم من يرى السبع الأخيرة، وإن كان المغاربة وبعض العلماء يخصونها بليلة السابع والعشرين من رمضان، والجمهور أنها في العشر الأواخر وتتنقل. والله أعلم.
– إحياء هذه الليالي كلها ويتم بالصلاة (جماعة وفرادى)، وتلاوةالقرآن، والذكر، والاستغفار، والدعاء من غروب الشمس إلى طلوع الفجر، ومن يسر الله له فليعتكف.
– الإكثار من الدعاء، وخاصة الدعاء المأثور عن عائشة رضي الله عنها فقد روي عنها أنها قالت: “قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، بِمَ أَدْعُو؟ قَالَ: “قُولِى: “اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّى”.
ونختم بقول لفضيلة الأستاذ محمد عبادي حفظه الله في حوار نشر بتاريخ 04 يونيو 2018: “تسأل أخي عن فضل العشر الأواخر من رمضان، إن فضلها تستمده من وجود ليلة القدر فيها وليلة القدر تستمد فضلها من نزول الوحي فيها، وبما أن الوحي كلام الله عز وجل فقد تشرف به رمضان وتشرف به رسول الله صلى الله عليه وسلم وتشرفت به أمته عليه الصلاة والسلام”.
إذن هي العشر الأواخر التي التقت السماء بالأرض في أول يوم نزل فيه الوحي، وما زالت تتصل كل سنة بالأرض حيث إن ملائكة السماء تتنزل في ليلة القدر وعلى رأسها سيدنا جبريل فتصافح المؤمنين، هذه المصافحة تجعل المؤمنين يستمدون من الملائكة نورانيتهم، يكفي شرفا لهذه الأيام وجود ليلة القدر، والقدر هو الشرف، التي هي سلام إلى مطلع الفجر، فهي جاءت بالسلام لمن خضع لأمر الله وأطاع… نسأل الله عز وجل أن يوفقنا لإحيائها والاعتكاف فيها.