جاء في كتاب طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) للشيخ عبد الرحمان الكواكبي أن الاستبداد أصل لكل فساد)؛ هي عبارة قد تمثل خلاصة ما وصل إليه الكاتب، وهي لم تأت من فراغ بل جاءت بعد فحص دقيق للنظم الاستبدادية ولأصل الداء، فكل فساد في أصله يعود لنظام مستبد ظالم اغتصب البلاد واستعبد العباد. جاء في معجم أوكسفورد الإنجليزي أن الفساد هو انحراف أو تدمير النزاهة في أداء الوظائف العامة من خلال الرشوة والمحاباة)، واستغلال المال العام وتبذيره، ونهب ثروات الوطن، وتهريب أموال الشعب والتهرب من الضرائب. التشخيص الذي أعطاه الكواكبي عام يشمل كل الأنظمة المستبدة، ومن ضمنها النظام المغربي أو ما يصطلح عليه بـالمخزن) الذي تجاوز عمره أربعة قرون، عمر مليء بالظلم والطغيان، والتجبر والعصيان. من هنا جاء عنوان المقالة؛ المخزن أصل لكل فساد). وبطبيعة الحال فإن قصدي من العنوان هو أن المخزن أصل لكل فساد في المغرب، فغالبية أبناء هذا الوطن وكل الأحرار يعرفون جيدا أن المخزن هو سبب كل مشاكل الشعب المغربي، وما كتبته ليس بجديد، بل هو للتوضيح أكثر وللجمع بين بعض الأحداث والتأصيل لها وتشخيصها وإبراز مكمن الداء وأصله، وذلك عبر عدة أمثلة.
أولا: إحصائيات
جاء في تقرير ل “ترانسبرانسي” أن 68% من المغاربة يعانون من الفساد، و81% يرون بأن الرشوة منتشرة في الإدارة بشكل كبير، والفقراء هم الضحية المفضلة للرشوة بنسبة 66%، والقضاء والأمن والصحة هي المرافق الأساسية التي تعشش فيها الرشوة حتى صارت أمرا اعتياديا في المغرب… وجاء المغرب في الرتبة 131 عالميا في حرية الصحافة حسب تقرير منظمة مراسلون بلا حدود)، ويحتل المغرب 107 ضمن مؤشر الديمقراطية. بعد ذكر هذه الإحصائيات الخطيرة سنحاول ذكر أسبابها، ما ذكر يرجع إلى سوء تدبير البلاد، واغتصاب ثرواتها، وهذا راجع إلى كون المسؤولين فاقدون للقيم والأخلاق بل فاقدون للشرعية التي تخول لهم تحمل المسؤولية، سعيهم الوحيد هو المصلحة الشخصية، وهذا ناتج عن فساد في الانتخابات، هذا إن تم انتخابهم، وفساد الانتخابات سببه فساد السلطة، وهذا الأخير ناتج عن جبر وتجبر واستعباد للناس واغتصاب للحكم، أي أن الاستبداد هو أصل كل شيء، والمستبد هو المخزن، فهو أصل للفساد وانتشار الرشوة، وهو السبب وراء قمع وتكميم أفواه الصحافة وأفواه الأحرار، وهو أصل لمعاناة الشعب المغربي.
ثانيا: فساد في السلطات العمومية
كلنا سمعنا بقصة “مي فتيحة” بائعة الحلويات التي أحرقت نفسها بعد أن تم حجز بضاعتها من طرف أحد مسؤولي السلطة المحلية. مي فتيحة تجسد المعاناة اليومية لأبناء الشعب، ولآبائنا وأمهاتنا الذين يذوقون الأمرين كي يوفروا لقمة العيش.. وهذه الظروف الصعبة سببها الفقر، وكما لا يخفى على أحد فإن من أهم أسباب الفقر هي البطالة، وسبب البطالة عدم توفير فرص الشغل وكذلك الجهل، حيث إن المغرب يحتل الرتب الأخيرة في نسبة الأمية حيث تتفوق عليه دول تختلف ظروفها تماما، كل هذا وأكثر يرجع لسبب واحد وهو الاستبداد أي سببه المخزن.
في السنة الماضية أغرقت الفيضانات سكان الجنوب وسط استهتار واضح وفاضح من طرف السلطات العمومية بأبناء هذا الشعب أحياء عبر التهميش والإقصاء وأمواتا عبر نقل الجثث في شاحنات الأزبال.
في بداية هذا العام شهدت منطقة الريف هزات أرضية متتالية تراوحت درجاتها بين 1 و6.3 وسط لامبالاة السلطات، فحتى أبسط الشروط التي من المفترض عليها أن توفرها في مثل هذه الظروف والتي هي الخيام لم توفرها، فماذا ننتظر منها غير الظلم والطغيان.
فساد السلطات العمومية لا يخفى على أحد من أبناء الشعب المغربي فكلنا عشناه ونعيشه وسنعيشه ما دام الاستبداد قائما وما دام المخزن حاكما.
ثالثا: فساد في المجتمع
كثير من الشباب ينشأون في ظروف قاهرة ناتجة عن مشاكل اجتماعية واقتصادية، ظروف سببها بالأساس سياسي، وهذا الأخير له تأثيرات مباشرة على كل ما هو اقتصادي واجتماعي، ولذلك تنتج مشاكل في الأوساط الشعبية مما يجعل الشباب ينحرفون، والسبب السياسي المسؤول عن هذا هو الاستبداد وهو المخزن الذي يسير بالشعب إلى المجهول.
هذا الفساد مفتعل ويتحمل مسؤوليته المخرن، حيث إنه لا يزال مستمرا في محاولاته لإفساد المجتمع، وذلك عبر عدة وسائل من أبرزها الإعلام، لأنه وسيلة الاتصال الأقرب للعائلات المغربية، ومنها نؤتى في عقر بيوتنا، وعبر هذه القنوات تنقل مهرجانات لا تمت لقيم المجتمع المغربي بصلة ومنها “موازين”، هذا الأخير الذي يتفق الجميع على أنه “مزبلة” ترمى فيها أموال الشعب.
رابعا: فساد الصحة والتعليم
التعليم بالمغرب يسير نحو طريق لا يقربها الفقراء من أبناء الشعب، هو في طريقه ليصير حكرا على الأغنياء فقط، وبمعنى آخر، الدولة رفعت يدها عن عدة قطاعات ومن ضمنها قطاع التعليم ليصبح لقمة سهلة بين فكي القطاع الخاص، وللدولة أساليبها كي تمرر مخططاتها بمرونة تامة، هذه الأساليب يتحمل تبعاتها وعواقبها الطلبة، ووضعيتهم داخل الجامعات كفيلة بالتوضيح أكثر.
وفي المدارس العمومية نجد التلاميذ يتعلمون من كتب تعتبر هي بذاتها مشكلا باعتبارها فارغة المحتوى، هذا دون مناقشة البنية التحتية للتعليم، أو الميزانية المرصودة له من أين جاءت وأين تذهب…
المستشفيات في هذا الوطن المغتصب لا تتوفر على أبسط الأدوية لعلاج أبسط الأمراض، وفي كل يوم نسمع خبرا جديدا عن مآسي الشعب داخلها. نسمع عن نساء وضعن حملهن على الأرصفة والطرقات، نسمع عن وفيات في أبواب المستشفيات، نسمع عن الكثير من الحالات المشابهة لما ذكر.
تكاد تنعدم المستشفيات إن لم أقل أنها منعدمة في المدن الصغيرة المهمشة جنوبا وشمالا، غربا وشرقا.
هذه المشاكل في القطاعات الحيوية للدولة تضعنا أمام فرضيتين اثنتين؛ إما أنها أزمة عابرة ستختفي في المدى القريب إلى المتوسط لتعود الأمور “إلى سابق عهدها”، والفرضية الثانية أننا أمام فساد في التسيير نتاج فساد المسؤولين، والفرضية الأخيرة هي الواقعية باعتبار الأولى غير واردة لأن هاته المشاكل ليست وليدة اللحظة، بل هي مشاكل تاريخية، لهذا وضعت عبارة “إلى سابق عهدها” بين قوسين، فليس هناك عهد سابق، من هنا فإن فساد هذه القطاعات ناتج عن فساد في الحكم وناتج عن الاستبداد.
من خلال النظر لمشاكل الشعب المغربي صغيرة كانت أم كبيرة، بسيطة كانت أم معقدة، يتضح أن أصلها واحد والفروع متعددة، فأصل انحراف الشباب، وانتشار الرشوة والفساد، وتأزم الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، هو الاستبداد والاستعباد. ومهما حاولت الخطابات الرسمية التمويه لن تستطيع حجب الشمس بالغربال.
رغم الاستبداد ونتائجه الواضحة فسادا وظلما واضطهادا وفقرا وجهلا وبطالة… فإن الشعب لم يفقد الأمل في التحرر والانعتاق من براثن المخزن، ومن أياديه المستبدة الظالمة، والسنوات الأخيرة شهدت يقظة واستنارة العقول، وبدأ الشعب يتخلص من “المخزنة” التي راح ضحيتها لسنين طوال. حين يشخص الطبيب الداء ويوضح أصله يهون علاجه، وحين سيشخص الشعب المغربي مكمن الداء في هذا الوطن الجريح ويجد أن أصل هذا الداء هو المخزن سيسهل عليه علاجه، ويسهل عليه إنقاذ هذا الوطن السقيم من سقم طال زمانه، وقد بدأت بوادر هذا فعلا في بداية هذه العشرية.