في بداية صيف سنة 2018، طويت آخر صفحة من كتاب “حياتي في مجال التعليم العمومي بالمغرب”، بعد أن قضيت زهاء عشرين عاما في معمعانه. تركت الوظيفة بجلاجلها إلى أرض الله الواسعة بعد أن اشتغلت مدرسا، ثم مشرفا تربويا لمدة خمس سنوات، ثم مدرسا في سنة الوداع، ذلك أن أيادي “المخزن التربوي” تحركت تحت الطاولة لإعفائي ظلما وبدون مسطرة قانونية من مهامي في الإدارة التربوية، الحراسة العامة بلغة فقهاء القطاع، ضمن الحملة السياسية المعروفة على المنتمين إلى جماعة العدل والإحسان؛ وهذا موضوع آخر لكنه يعري أهم جانب من جوانب الفساد المنتشر في المنظومة بكليتها، ألا وهو تبعيتها المطلقة للمتحكمين في القرار السياسي.
كتب الكثير الكثير عن “أزمة” التعليم في المغرب منذ “الاستقلال” إلى اليوم. ما من مطلع أو خبير أو مهتم، إلا وصاح على المنكر وأشار إلى مكامن الداء ومسبباته وعلاجاته. صيحات تذهب أدراج الرياح، أو تلقى بعض صدى لدى بعض الغيورين في الدوائر المسؤولة، فتتحرك القضية خطوات في الاتجاه الصحيح، أو يتحرك جزء منها وهو الغالب كمسألة التعريب مثلا، لكنها ما تلبث أن تتوقف في ربع الطريق أو عشره بـ “فيتو” من جهات عليا، ليبدأ التراجع تلو التراجع حتى تصير إلى الوضع الأول المريض، بل تنزل دركات تحت.
لكننا في الوقت الحاضر إزاء انهيار شامل لنظام التعليم، لا يستقيم عقلا أن نتحدث إزاءه عن “أزمة”. لا تحدثوني عن بضعة شموع في صحراء مظلمة، من فلتات هنا وهناك، فالأرقام الرسمية والتقارير الدولية، ومواقف المواطنين وكلام التلاميذ أفصح من أي دعوى. وهاكم خلاصات لأهم ما عايشت بنفسي ورأيت بشحمة عيني خلال عشرين سنة من العمل في مؤسسات ومناطق مختلفة من الوطن، مجزأة إلى فقرات حسب محورية الصلة بالمجتمع المدرسي في مربعه الأصغر، مع غض الطرف عن المصيبات والنكبات الحالية كنظام التعاقد، والفرنسة، بل نقص المدرسين والإداريين، وخراب الحجرات والمقاعد، وغياب الطباشير والنوافذ إلخ.
التلميذ
أول ضحية وأبرز صريع لطاحون التجهيل وآلة التغريب. أريد له في أحسن الأحوال أن يظل سجين ما يلقن من فكر تقليدي متخلف يبرر الخضوع والجمود، وألا يحلق خارج قفص المقرر الدراسي الموجه؛ وسيلتهم في ذلك التاريخ المفترى عليه، ومهزلة “التربية الإسلامية”، والتربية على المواطنة بلا وطن. تتصادم وتختلف أمامه، داخل المدرسة الواحدة، الرؤى والمخططات والمواقف والأفكار، ذلك الاختلاف السلبي الهدام الذي ليس من وراءه مقصد أو مشروع؛ فلا يعرف لتعليمه وجهة، ولا لمدرسته سمة، ولا يعرف لم وكيف؟ وما الذي يجب أن يكونه في المستقبل؛ إنه يأتي إلى المدرسة بدون أهداف واضحة، مغيبة عنه القدوة الصالحة المؤثرة، إلا ما تقدمه الدولة وينفخ فيه إعلامها من نماذج للسطحية والفراغ والعهر والابتذال. أبعدوه عن اللغة العربية بإبعاد الذكر الحكيم وسنة المصطفى الكريم، وتهميش نصوص فطاحل اللغة ورواد الأدب، فانغلق عليه القرآن، فضعف الإيمان، وسقط الخلق.
كان القرآن العظيم المعين الصافي الذي يستقى منه الخلق والإيمان، ومنطلقات العلم وأصول العربية في أجمل صورها، يحفظ في الصبا ليحفظ من علل النفس واضطراب السلوك وضعف الذاكرة، هو أس الفصاحة ومشكاة البيان، فلما حورب انتفى أثره، حتى بتنا أمام ما نرى: لغة في الحضيض، وسلوك مريض. وإذن كيف للمتعلم أن يتقن لغة غيره وهو لا يتحدث لغة قومه؟! سيما في غياب الوسائل السمعية البصرية، بل وغياب حتى وسائل الإيضاح التي كانت موجودة في السابق كالصور الملونة، واستفحال الاكتظاظ، وهيمنة التلقين العمودي المعتمد على الحفظ البليد والسبورة، عوضا عن المحادثة والإلقاء والنقاش الدائري.
أما المواد العلمية، فليس من خيار أمام من برز فيها متغلبا على تخلف المناهج والوسائل، وضعف المختبرات، سوى سجن الوظيفة أو الهجرة إلى الخارج، حيث معاهد البحث والتكنولوجيا والاختراع التي ترعى النبوغ، وتصقل المهارة، وتصنع المستقبل. وإن الوظيفة لوأد مبكر للطاقة والفكر والمهارة.
إن من الإستراتيجية التعليمية المدمرة لجميع المتعلمين، اجتماعهم في حجرة درس واحدة بالمستوى نفسه، بقدرات مختلفة ومعارف متفاوتة. فتجد، إذا أخذنا اللغة العربية مثلا، من يجهل القراءة، ومن يقرأ بصعوبة، والذي يقرأ بسهولة، وتجد من يستطيع إنشاء نص بأخطاء كثيرة، وآخر بدونها، وقد تلقى من يقرض الشعر في نفس الحجرة مع كل هؤلاء. فلا يملك الأستاذ إلا أن يخاطب الوسط، ويسير بدرسه وفق مكاسبهم وسرعتهم، فيتأخر تبعا لهذا المتقدمون النجباء، ويتأخر الذين هم فوق المتوسط، بينما يظل المتأخرون في أسفل السلم، يتشاغلون لتجزية الوقت بربط النقط (اللعبة المعروفة)، أو إثارة الضحك والشغب والسخرية. فإذا أضفنا إلى التباين المعرفي التفاوتات الاجتماعية الصارخة، والفوارق بين الأسر في المعرفة والخلق والوعي والمواقف والاهتمامات والعادات، التي تلعب على وترها آلة إعلامية جبارة تزرع الطائفية الاجتماعية والانقسام المذموم، اصطدمنا بصف مدرسي مضطرب، لا رابط بن أعضائه ولا تآلف ولا قرب، ما يغذي الشعور بالدونية والقهر، شعور لا يلبث أن ينفجر عنفا على التلميذ والأستاذ والإداري؛ كما يشكل هذا الصف الفسيفسائي حقلا خصبا لنمو الأمراض النفسية ونشأة الحقد الطبقي.
إن معظم التلاميذ يذهبون إلى المدرسة بلا رغبة، لغياب الجاذبية والابتكار والاحتضان العاطفي والمتابعة النفسية، ولضعف الارتباط بالعالم الخارجي؛ مدرسة هي بدون ترفيه: لا ملاعب وافرة مجهزة، ولا سينما مؤثرة تخاطب وجدان المراهق وتتفاعل مع عالمه، ولا موسيقى راقية تهذب ذوقه وتروح عنه وتنقص من عنفوانه، ولا أي شيء يذكره أنه في مجتمعه وعصره! غالبية التلاميذ اغتالوا إرادتهم في التعلم وطموحهم في الترقي بإغلاق الآفاق وتسويد وجه المستقبل. وفئة أخرى ذبحوها في المرحلة الابتدائية عبر تقويضها: بناية كالإسطبل بدون أبسط أدوات الإيضاح، ومدرس محطم، واكتظاظ خانق، ومناهج متخلفة فيها ما فيها من الكم والهم والإثقال، ونتائج زائفة صنعها الضغط المجتمعي وحجم الكارثة، وتقارير كاذبة لستر الفضيحة، وتشريع ماكر ضد التعلم والتحصيل. هؤلاء تطردهم المدرسة، أو ينسحبون بمحض إرادتهم في إحدى مراحل الدراسة لغربتهم عنها، أو لاعتقادهم أنهم بلهاء لم يخلقوا للدراسة والمعرفة.
التلميذ المغربي في المرحلة الثانوية خاصة مفتون حتى لا أقول كلمة أخرى. وضع جنبا إلى جنب مع الفتاة وأطلق لهما العنان وهما في عنفوان الرغبة، بلا ضوابط ولا خطة لحفظ الفطرة، فكانت النتيجة ما ترون وتسمعون. تابعت يوما الشرح بعيد رنين جرس الاستراحة، وكنت يومئذ أدرس في السلك الثانوي، فتغيرت وجوه التلاميذ، وشعرت كأنهم يريدون القفز من النوافذ؛ فلما خرجوا، بادرت أنجبهم على انفراد وألححت عليه: ما بكم؟ فرد في وجهي: أ أستاذ، كل تلميذ هنا يتحرق انتظارا لفترة الاستراحة لأنها فرصته ليتحدث إلى البنت التي تشغل باله، دقائق الاستراحة عندهم أغلى وأهم من أي درس.
الأستاذ
الأستاذ محور عملية التعليم وركيزتها التي عليها يقوم البناء كله. لذا ظل في كل الفترات غرضا لمؤامرات من قرروا هدم التعليم، ونصبا جاهزا لسهامهم متى أثير نقاش حول تراجع المدرسة وفشل التلميذ. جرد من وظيفته السامية وهي التربية والتهذيب، والدعوة للفضيلة والخلق، والجمال والعقل ومعالي الأمور، وحصرت مهمته في تلقين ما هو مسطور في الكتاب الرسمي داخل جحيم حجرة الدرس، في غياب كلي للوسائل الحديثة بل أحيانا حتى البدائية منها. تكبله القوانين السخيفة، وتسخر منه ومن الجميع التشريعات التربوية، التي ليس من ورائها هدف سوى نسف عملية التعليم، وجعل قاعة الدرس فضاء للتفكه والعنف، ومسرحا لبهلوانيات التلاميذ الضحايا. يزيد الواقع وضاعة تقهقر الأستاذ إلى أسفل المجتمع، ونزوله إلى حضيض الحاجة والعوز، مثلما يزيده بؤسا وبلبلة فتح باب المهنة أمام كل من هب ودب وللشغل ما وجد، بلا نظر في الاستقامة ونقاء العرض، أو فحص للشخصية والميول والاهتمامات والرؤية، ناهيك عن الرصيد المعرفي. حتى إني زاملت خلال مسيرتي البله والنوكى وأشباه المتعلمين، ومن لا يملك ذرة غيرة على العلم أو الخلق أو الوطن! هذا وحدث ولا حرج عن غياب المراقبة، والتبادل المنظم للخبرات والتجارب، و”التكوين” المستمر. ألا إنه من غرابة وضعنا التعليمي (قل سورياليته) (surréaliste) الحديث عن مستوى الأستاذ المعرفي مع أنه محاصر إداريا، ومضايق قانونيا، ومحارب اجتماعيا كيلا يتابع دراسته الجامعية، ولا ينمي رصيده العلمي!! وأما من كان مفكرا مثقفا، أو أديبا شاعرا، أو دكتورا متخصصا في مجاله العلمي، فإنه لا يوجد في نظامنا التعليمي ما يجعل المتعلم يستفيد منه. ومن جهة أخرى، يخلق تباين مستويات الأساتذة في المعرفة والدراية والتجربة مشكلات جمة داخل المؤسسة، وبين الآباء والإدارة يصعب احتواؤها.
إن الأستاذ لا حق له في وضع السياسة العامة للتعليم، ولا مناقشة المناهج أو نقدها علميا أو الاعتراض عليها، وإذا شارك في ظرف أو مستوى ما، فإنما لتأثيث المشهد، وإسكات المنتقدين، وإخفاء واقع الاستبداد.
الأستاذ المغربي صحته النفسية والجسدية هشة لما سبق ذكره، ولأنه يشتغل ستة أيام في الأسبوع، ويوم واحد لا يكفي لبعث القوة وإيقاظ الرغبة؛ وانظروا النظم التعليمية في العالم “الأول”. وأما من سلمت صحته، وكان صلبا قوي الحضور، وسيطر على جحيم القسم وهيهات في الوقت الحالي، فإن غياب التحفيز والتكريم والاعتراف، وإمعان الدولة في تحطيم القطاع، كاف ليجعله يدخل المدرسة بلا قلب ولا طموح، غير أن يصانع الواقع، وينهي سويعاته بأدنى خسارة. هذا وإن استقالة فئة من رجال ونساء التعليم من واجب الدفاع عن المدرسة، وهي أم المجتمع ومنطلق تحرره ونهضته، لهي الخسارة الكبرى.
الإدارة التربوية
المدير مهمته الأولى والأخيرة أن تدور المطحنة، كيفما كانت الطريقة. مطحنة التعليم كما أراده المشرفون عليه. لهذا تترك له اليد الطولى داخل المؤسسة، يتحرك بحرية، ويقرر على هواه. يراقب الجميع، وهو مراقب أيضا من داخل المؤسسة بشكل غير رسمي. تمنح له بعض الامتيازات كالسكن المجاني، ويغض الطرف عن شططه وحماقاته، مقابل التزامه بالخط التربوي الرسمي وخدمته لأهداف المديرية الإقليمية المكتوبة وغير المكتوبة، وإلا فسيف الإعفاء ثم احتمال العودة إلى جحيم القسم مصلت على رقبته. مما يدفعه لبذل كل ما في وسعه ليحافظ على الامتيازات حتى لو اقتضى الأمر أن يتخذ أسلوبا وقرارات ضد قناعاته.
يشكل تدهور المدرسة، وبؤس محيطها الخارجي بشكل عام، وضعف الأمن، وسكون رجال التعليم، وانتظارية الآباء، ولا مبالاة المسؤولين، تحديات كبيرة لكل من يريد منصب مدير. حتى صار من يتقدم إليه لا تكاد تجد له من باعث سوى الانتقال إلى مدينة أخرى، أو الحصول على سكن، أو الهروب من الحراسة العامة. وأمام هذا الانحطاط، لم يعد المسؤولون عن إسناد المنصب يولون كبير اهتمام للمعايير التي ينبغي أن تتوفر في المدير، كالأمانة، وقوة الشخصية، والوطنية، ورحابة الصدر، وسعة المعرفة، والخطابة، والعاطفة الجياشة تجاه الطفولة. وهكذا انحصر عمل المدير في بعض الأشغال المكتبية البليدة، والوساطة الجافة بين المديرية الإقليمية والموظفين.
ركزت على المدير لأنه رجل القرار داخل المؤسسة. أما الحارس العام، بالنسبة للمرحلتين الإعدادية والثانوية، فيعمل تحت إمرته. مهامه تتداخل مع مهام المدير، لكن بعضها غير محدد بشكل دقيق مما يخلق مشاكل كثيرة بين الطرفين تؤثر أحيانا على السير “الطبيعي” للمؤسسة.
الحارس العام بمثابة رجل الإطفاء داخل المؤسسة. شغله إطفاء الحرائق التي تنشب بين التلاميذ وزملائهم، وبين التلاميذ والأساتذة، وبين الأساتذة والآباء… تحول عبر الزمن، من الإشراف التربوي والمساهمة في تطوير النظام التعليمي والرقي بمضامينه، إلى الحراسة الأمنية والكتابة الإدارية الباردة البليدة؛ ينظم الدخول والخروج، ويحرس التلاميذ، ويسجل الغياب، ويفض النزاعات بينهم في غياب أي نص قانوني، اللهم ما يكبل يديه إزاء هذه الزوابع. ينقصه الموظفون، وتعوزه الوسائل، ويثبطه الجو العام الكئيب؛ يتحداه كل من في المدرسة، ووقته مطحون. وإذا طال به المقام في مهمته، وكان ممن لا يقرؤون إلا لماما، نزل مستواه المعرفي، واهتزت نفسيته. مسطرة اختياره لا تختلف كثيرا عن طريقة اختيار المدير. أما “التكوين” الذي يتلقاه فتجاوزه الواقع المحلي والعالمي.
خاتمة
اكتفيت في هذا المقال بوصف ما عشته بصفة شخصية في المدرسة العمومية، لأنني لم أشتغل يوما في القطاع الخاص. ورغم معرفتي بحجم الفساد الذي يعشش فيه، فإني آثرت أن أتحدث عن بعض ما كنت شاهدا عليه، وتجرعت مرارته؛ هو إذن اختيار موضوعي مبدئي. ثم إن المجال لا يسع الحديث عن كليهما بشكل منفصل أو مجتمعين، كما لا يسع التطرق لسائر مكونات المجتمع المدرسي، وما منه إلا وله بالغ التأثير على التعليم والتعلم: المقتصد، الناظر، الأعوان، المراقب التربوي (المفتش سابقا)، جمعية الآباء… على أن كل ما ذكرته أراه، ويراه غيري لا محالة، غيضا من فيض. وإن مما يدعو للاستغراب ويبعث على الاستفهام أن كل سنة دراسية عشتها كانت أسوء من سابقتها.
إن خلاصة ما انتهيت إليه، بناء على تجربتي الطويلة نسبيا في الميدان، ومعاصرتي لبرامج ومخططات وزارية مختلفة تهدف للنهوض بالقطاع، أن الدولة لا تريد إطلاقا تعليم الشعب. وهذا ما يسميه الخبراء تلطيفا للعبارة: “غياب الإرادة السياسية”. واختيارها هذا رسمي، استراتيجي، ثابت. وسبب ذلك بكل بساطة أن شعبا متعلما ملهما مثقفا لن يرضخ لحكم القرون الوسطى، ولن ينحني لدولة الإقطاع. وأمام هول الكارثة وحجم الخراب، لا نملك نحن المغاربة إلا أن نهب لنجدة الوطن، بكل مكوناتنا المجتمعية وأطيافنا السياسية، فالتعليم قضية حياة أو موت، وكلما تأخرنا ارتفع الثمن الذي سندفعه، وسوف تدفعه أجيال وأجيال من بعدنا لإعمار الوطن وبناء الإنسان.