من رحم الحرب والعنف والقتل الهمجي، خرجت سيدة غـزاوية تناجي ربها متبتلة صابرة محتسبة “اللهم خذ من أموالنا وأبنائنا ودمائنا حتى ترضى”…
دعاء امرأة مكلومة فقدت معيلها وزوجها وسندها في غزة العزة، لكنها تجلدت بسلاح الصبر راضية بقضاء الله وقدره، باعت نفسها وزوجها وأبناءها وكل ما تملك طلبا لمرضاة الله وثوابه، ويقينا منها في موعود الله في قوله سبحانه وتعالى: إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة: 111].
إنها المرأة الغزاوية، التي تدثرت برداء العفاف ورضيت بالكفاف واستغنت عن الناس… إنّها المؤمنة الصامدة التي حملت من الآلام والأحزان في الحرب على غزة ما تشيب له الولدان، وتقشعر له الأبدان، وتخر له الجبال… إنّها الأم المكلومة التي فقدت الأبناء والأحفاد، والأرملة الثكلى التي خسرت أب الأولاد… إنّها الشهـيدة التي نالت وسام العزة والكرامة عن جدارة واستحقاق، والجريحة التي بترت منها الذراع والساق… إنّها الأسيرة التي تقبع في غياهب السجون، والمظلومة التي اغتصبت أرضها ونكّل بها بنو صهــيون… إنّها النازحة التي تئن من وجع الفراق والشوق والحنين قائلة: “فلسطين.. نفديك بالعيون”.
نعم إنها الغزاوية التي ذاقت من صنوف التعذيب والتعنيف والتقتيل ما يعجز عنه حتى الرجال. لكنها رغم قسوة الحرب الهوجاء، نجدها صامدة راسخة رسوخ الجبال، تدق طبول الحرب في وجه الاحتلال، لم ترفع رايتها البيضاء أمام أعتى أسلحته وجيشه الجرار، متسلحة بالصبر والإرادة واليقين في موعود الله، ترتفع بهمتها إلى مقامات الكمال. قدوتها الصحابيات الجليلات، وبغيتها السير على الهدي النبوي واقتحام العقبات. فأضحت درعا حصينا ضد الخنوع والاستسلام، إذ تدرك أنها تحمل على عاتقها أمانة تنشئة الرجال تربية وسلوكا، من أجل الدفاع عن الوطن والمقدسات.
إنها أيقونة فلسطين التي حفرت اسمها في التاريخ بدمائها ودماء زوجها وأبنائها وأهلها، فحولت المحنة إلى منحة، حيث ألفيناها تتحرر من أغلال الظلم والاحتلال، لترسم لنا صورا متعددة لمواقع هذه المرأة العظيمة في غـزة، فنجدها مناضلة ترضع أبناءها وأحفادها لبن الجهاد والسعي نحو الشــهادة، وفدائية تضحي بنفسها مهربة السلاح والعتاد إلى الفدائيين في المقاومة، وطبيبة تسهر على مداواة الجرحى وتطبيب المرضى، ومتطوعة تمسح دمعة اليتامى وتواسي الثكالى، وصحفية تخاطر بحياتها لنقل الصورة الحقيقية للعمليات الإسرائيلية، ومعلمة حولت خيمة فوق ركام البيوت إلى فصل دراسي لتعليم الصغار أن فلسطين أمانة، ومتعلمة تتحلق حول حلق الذكر وتحفيظ القرآن في مخيمات قرآنية ربانية، وطباخة ماهرة تطبخ من لا شيء طعاما يسد رمق أطفالها الجياع، ناهيك عن المقدسية المرابطة التي تعتبر شوكة في حلق العدو الصهـيوني وسدا منيعا يذود عن حرمات القدس الشريف.
إنها المدرسة التي علمتنا أن الحق ينتزع، لا يعطى أو يستجدى، علمتنا أن الرجولة ليست حكرا على الرجال، بل هي سمة النساء الحرائر اللواتي دافعن باستماتة عن أرضهن وعرضهن ومقدساتهن، شامخات راسخات في أرض فلسطين كأشجار الزيتون، علّمتنا أن عبق الحرية لا يمكن شمه إلا بتضحيات جسام، علمتنا أن طريق النصر والتحرير محفوف بالمخاطر، وأن طريق الجهاد ثمنه دماء تسفك ونفوس تزهق، علمتنا أن الإيمان بالقضية الفلسطينية هو إيمان وتصديق بموعود الله واستعداد وجهاد لنصرة دينه.
فتحية إكبار وإجلال لنساء غزة العظيمات اللواتي أنجبن جيل الطوفان، وأدّين ثمن مقاومة العدو الغاصب غاليا من أنفسن وأموالهن وأولادهن وأزواجهن وإخوانهن وأحبابهن صابرات على ما ذهب وما بقي، ومن ذهب ومن بقي، صانعات جيلا فريدا عجيبا ولا فخر، رافعات علم التحرير والنصر…
وإنه لجهاد نصر أو استـشهاد.