مقدمة
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم تنزيله: وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا (القصص: 77)؛ أي لا تترك أن تطلب فيها حظك من الرزق كما جاء في تفسير الطبري. فقد سنّ الله سبحانه وتعالى لعباده عدة أنواع من العبادات ليزدادوا بها أجرا وثوابا. كما أن البشر أصناف حسب استعداداتهم ومواقفهم، من ثمّ فإن هذه العبادات التي سنّها الله سبحانه وتعالى تختلف من شخص لآخر حسب مواقفه التي يعيشها. ومثالا على هذا أنّ هناك من النساء من لديها كامل الاستعداد لكي تزاول مهنة ما، في حين أن أخريات يثقل ذلك كاهلهن ويجدن مشقة في ذلك، وللأسف الشديد هذه الحالة الأخيرة هي التي تعيشها معظم النساء العاملات في وطننا.
إن المتتبع لقضية المرأة العاملة، لا يخفى عليه دورها البناء في تطور المجتمعات، مما جعل قضية المرأة العاملة تصبح من أمهات القضايا التي تشغل الرأي العام، سواء الدولي أو الوطني.
– فما هي الإضافة النوعية التي أضافت المرأة العاملة بمشاركتها في سوق الشغل؟
– وما هي التحديات والعراقيل التي تواجهها بسبب مزاولتها لمهنتها؟
– في المقابل ما هي الحلول التي ينبغي أجرأتها لكي تقوم المرأة العاملة بدورها الأسري والمهني على أكمل وجه؟
دور المرأة العاملة في المجتمع
لا أحد ينكر دور المرأة في بناء المجتمع وتطوره، وخير دليل على ذلك ما أسدته المرأة المسلمة في عصر النبوة من خدمات اجتماعية ومجتمعية في كثير من الميادين؛ كالتعليم والطب والتمريض والتجارة والإدارة… وبذلك كان لها الفضل في نشأة وازدهار المجتمع النبوي الذي يضرب به المثل ويحتذى به في كل زمان ومكان. هناك أمثلة كثيرة في هذا الباب، فقد برزت أمنا خديجة رضي الله عنها في التجارة، وكذلك أمنا زينب رضي الله عنها في الصناعة، والصحابية سيدتنا الشفاء في التعليم والتمريض والإدارة… ولا ننسى النماذج التي ذكرت في القرآن الكريم مثل بنات شعيب اللواتي كن يخدمن أباهن، كذلك الملكة بلقيس التي كانت تحكم قومها، وأيضا زوجة سيدنا أيوب عليه السلام التي كانت تخدم زوجها.
إن المرأة هي ذلك الإنسان الذي يتميز بقدرات بيولوجية، وأخرى عاطفية، ومميزات اجتماعية تربوية، وكذلك جمالية إبداعية، مما يؤهلها لتخوض مجالات تتناسب مع خصوصياتها كالطب والتعليم والرعاية والإبداع… هذا لا يعني أن المرأة هي أفضل من الرجل أو العكس، إنما لكل منهما مميزاته الخاصة التي تجعلهما مكملين بعضهما البعض في الحياة والمجتمع. الفرق بينهما ليس في الأفضلية بل في التنوع والتكامل في القدرات والمهارات. يقول الله سبحانه وتعالى: وَٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍۢ (التوبة: 71) أي يتناصرون ويتعاضدون حسب ما جاء في تفسير ابن كثير.
كل هذا جعل المرأة مؤهلة لتخوض عدة مهن أبرزت فيها حنكتها وذكاءها مثل الطب والصيدلة والتمريض والتعليم ورعاية الأطفال والمسنين وحل الخصومات وبناء العلاقات الاجتماعية والإبداع في فنون مختلفة كالأدب والحرف…
وقد أكدت الدراسات في عصرنا الحالي أن المرأة تساهم بشكل كبير في الاقتصاد العالمي والمحلي، وتشير التقديرات إلى أن مساهمة المرأة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي تتراوح بين 20 و30%، ويمكن أن تزيد هذه النسبة بشكل كبير إذا تم توفير فرص متساوية للمرأة في التعليم والتوظيف والتدريب.
– ففي قطاع التعليم حققت المرأة تقدما كبيرا حيث أصبحت نسبة الفتيات الملتحقات بالتعليم أعلى من أي وقت مضى.
– في قطاع الصحة تشكل النساء غالبية العاملين في هذا القطاع حيث يعملن كطبيبات وممرضات وصيادلة.
– في قطاع التكنولوجيا تساهم المرأة بشكل كبير كمهندسات ومبرمجات ومديرات تنفيذيات.
– غير أن المرأة العاملة لا تزال تسجل تمثيلا ناقصا في المناصب القيادية، مع أن الدراسات تشير إلى أن الشركات التي لديها تمثيل أكبر للمرأة في مجالس الإدارة تميل إلى تحقيق أداء مالي أفضل.
لقد أثبتت المرأة المغربية العاملة جدارتها بكل تفان ونشاط في عملها، وبكل ما تملك من مؤهلات وقدرات، الشيء الذي تستحق عليه الشكر والامتنان والتقدير والعرفان، إلا أنها ما زالت تواجه في طريقها عدة عقبات ومشاكل تعرقل سيرها بالشكل المريح سواء فيما يخص حياتها المهنية أو الأسرية.
مشاكل وصعوبات
فعلا إن المرأة العاملة تستحق كل الاهتمام، وينبغي إزاحة كل ما يقف في طريقها من عقبات لكي تشتغل بكل أريحية. قبل البحث عن الحلول، من الموضوعي أن نشخص أولا المشاكل التي تعرقل عمل المرأة، ونذكر من بينها ما يلي:
1- صعوبة التوفيق بين المهنة والأسرة: تتحمل المرأة أعباء الأشغال المنزلية بما فيها رعاية أهل البيت، إلى جانب مسؤولياتها المهنية، مما يزيد من الضغط عليها وذلك بسبب غياب سياسات داعمة مثل دور الحضانة في أماكن العمل، وساعات العمل المرنة، وإجازة أمومة ملائمة…
2- ضعف الحماية الاجتماعية: معظم النساء يعملن في قطاعات غير مهيكلة؛ مثل الزراعة، الصناعة التقليدية، العمل المنزلي… وهذا يحرمهن من التغطية الصحية والاستفادة من التقاعد والتعويضات الاجتماعية. وقد تتعرض بعض النساء للعنف أثناء مزاولتهن لمهنهن مع الخوف من التبليغ بسبب غياب الحماية القانونية الفعالة.
3- التمييز في الأجور حسب الجنس: تتقاضى الكثير من النساء أجورا أقل من الرجال بنسبة قد تصل إلى 91% بسبب التمييز في سوق الشغل.
4- تحديات قانونية وثقافية: رغم وجود قوانين تحمي حقوق المرأة العاملة إلا أن تنفيذها ضعيف، خاصة فيما يتعلق بالمساواة في الأجور وحماية الأمهات العاملات.
5- الأمية في صفوف النساء تمثل 46.1% مما يحرمهن من فرص العمل في القطاعات التي تتطلب مؤهلات عالية.
6- الجهل بقوانين الشغل من طرف النساء يزيد من معاناتهن، ولا يخدم مصالحهن وأخذ حقوقهن. ورغم وجود قوانين عدة تنظم العلاقات في ميدان الشغل فإن تطبيق هذه القوانين وتنزيلها ما زال معطلا في كثير من نواحيه.
7- قلة النساء في المناصب العليا الإدارية والقيادية: حيث تواجه المرأة صعوبة في الوصول إلى مواقع صنع القرار داخل المؤسسات، وبالتالي تبقى هناك ثغرات كثيرة يجب سدها لتحسين الوضعية المهنية الخاصة بالنساء.
تعكس هذه المعطيات وغيرها التحديات الكبيرة التي تواجه المرأة العاملة المغربية في سوق الشغل، مما يستوجب تبني حلول فعالة وجريئة لتعزيز مشاركتها المجتمعية وسد الثغرات التي تعرقل ارتقاءها نحو الأفضل.
حلول وبدائل ومقترحات
إن المرأة المغربية العاملة لا تتوانى في تقديم ما تستطيع من خدمات لهذا الوطن، ومن باب الاعتراف بجميلها، ينبغي على المجتمع المدني وجميع القوى الحية بهذا الوطن أن يشد بيده على يدها مراعيا عدة أمور تتعلق بأنوثتها وخصوصياتها، لهذا الغرض نذكر هنا بعض الحلول والبدائل والمقترحات.
أولا – إيجاد بيئة عمل مناسبة، من ضمنها:
– توفير خدمات متنوعة لدعم المرأة العاملة من أجل مساعدتها على التعامل مع ضغوط العمل والحياة.
– حملات إعلامية ومجتمعية تعيد للمرأة حضورها ومشاركتها الفاعلة في بناء مجتمعها بعد اقتحامها لعقبات النفس والخوف والعادات، لكي تؤدي دورها في تنمية البلاد بكل أريحية.
– توفير وظائف بشروط عمل مرنة من أجل إدارة مسؤولياتها المهنية والأسرية على أكمل وجه. مثلا إمكانية العمل عن بعد عند الحاجة.
– تفعيل قوانين إجازة الأمومة والأبوة بحيث تحصل المرأة على إجازة كافية دون تأثير على مسارها المهني.
– توفير حضانات للأطفال داخل مقرات العمل، وإن تعذر ذلك ينبغي إيجاد خدمات موثوقة لرعاية الأطفال.
– دعم التوازن بين العمل والحياة الأسرية وذلك بتشجيع أعضاء الأسرة على المساهمة في تحمل الأعباء المنزلية.
ثانيا – تطوير المهارات والرفع من القدرات
قد تكون المرأة العاملة حاصلة على شهادات دراسية عالية، إلا أن هذا لا يمنع من مسايرة مستجدات العصر وتطوراته، بل إن حضور دورات تدريبية للحصول على شهادات مهنية يساعدها في تحسين رصيدها العلمي، وضمان الارتقاء في مسارها المهني. فينبغي على كل امرأة عاملة أن تسعى جاهدة لبناء شبكة علاقات مهنية من خلال حضور الفعاليات والندوات واللقاءات المهنية لتستفيد من كل ما تحمله من توجيه وتوعية وتدريب وتطوير للمهارات…
ثالثا – تعزيز الحقوق القانونية
القوانين المسطرة لكل من العامل والعاملة تستلزم التوفيق بين حاجيات الفرد المهنية والأسرية بما في ذلك الحاجيات الشخصية، فالإنسان هو محور هذه الأرض، كلما كان مطمئنا كلما زاد نشاطا وعطاء، وإذا لم يعش هذا التوازن فإن الأمور ستسير إلى ما لا يحمد عقباها. وينبغي تفعيل هذه القوانين دون انحياز أو تماطل لكي تتمتع المرأة العاملة بحقوقها كاملة. والجدير بالذكر أن الجهل بالحقوق من طرف العمال والعاملات لا يخدم مسارهم المهني، فمن أوجب الواجبات أن تعي المرأة العاملة حقوقها المشروعة وواجباتها المطلوبة لكي لا تهضم هذه الحقوق بمجرد جهلها لها.
رابعا – انخراط أو مشاركة المرأة في مراكز القرار
إن منح فرص انخراط النساء في المناصب القيادية يضمن لهن تمثيل أكبر لإصدار قرارات، خاصة المتعلقة بالمرأة العاملة، لأن المرأة وحدها هي الكفيلة بالمعرفة الدقيقة لبنات جنسها وبالتالي فهي التي ينبغي أن تكون في المؤسسات التي تصدر قرارات في شؤون الشغل الخاصة بالمرأة، مما يخول لها تلبية حاجياتها ومتطلباتها المهنية والأسرية. ذلك سيدفع بتفعيل وتعزيز السياسات الداعمة للمرأة العاملة لتذليل الصعوبات التي تواجهها وسد الثغرات، لتستطيع التوفيق بين مهامها المهنية والأسرية، وبالتالي بلورة حياتها إلى الأفضل.
خامسا – الانضمام إلى المجموعات المهنية الجادة والصادقة
يجب على جميع قوى المجتمع المدني أن تعمل جاهدة لصالح المرأة العاملة خاصة منها النقابات الحرة والجمعيات المهنية النزيهة؛ وذلك بالتأطير والتوعية والإرشاد والتوجيه والمساندة والمؤازرة لكي تؤدي المرأة العاملة دورها على أحسن وجه ودون تقصير، وهذا يخول لها حياة أفضل.
إن الانضمام إلى المجموعات المهنية الداعمة لكل من العمال والعاملات في مختلف القطاعات، أصبح الآن أمرا ملحا أكثر من أي وقت مضى، لأن ذلك يساهم في تذليل العقبات وتخطي الصعوبات، كما تساهم هذه المجموعات في تطوير الحياة المهنية دون الإضرار بالحياة الشخصية والأسرية، فهي تساند العمال والعاملات اجتماعيا وحقوقيا ومهنيا…
الخاتمة
أخيرا ارتأيت أن أختم بمقولة للأستاذ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى، جامعة شاملة لكل ما تطرقنا إليه في هذا الموضوع، حيث يقول: “على المرأة المسلمة إذن أن تتعرف على حقوقها، وأن تطالب بعد ذلك بالتمتع بها، لأن أحدا غيرها لن يقوم مقامها في هذا المجال، ولأن أرضية صلبة من الحقوق المادية والنفسية كفيلة بتحريرها من الرق المتوارث وتمكينها من القيام بواجباتها. فانتشال المسلمين مما يتخبطون فيه مهمة شاقة تستدعي تطوع الجميع: النساء جنب الرجال، والجمعيات المنافسة في الخير للجمعيات، لأن التنافس في الخيرات أحد شروط النجاح في الامتحان، ألا نقرأ في سورة الملك أن الله عز وجل خلق الموت والحياة ليبلونا أيّنا أحسن عملا؟
أما الحكومة الإسلامية فمطالبة بإخلاء الطريق وتذليل الصعاب حتى يثمر الجهد الذي يبذله الرجل والمرأة ولوج ميدان العمل بعزم ومثابرة.
لا بد إذن من المساهمة النسائية في القرار الرجالي، إذ لا يمكن أن يعوَّض إحساسها المرهَف وحبها الأمومي الحاسمان في عملية التغيير لكي يتحقق…” 1.