عمل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى على صياغة مشروع مجتمعي تغييري، يشمل التربية والسياسة والاقتصاد والاجتماع وغيرها من المجالات، ويرتكز على نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، جمع فيه بين التنظير والممارسة، معالم هذا المشروع مبثوثة في مكتوباته ومرئياته ومسموعاته. وبالموازاة مع ذلك كان يصدر رسائل إلى المؤسسة الحاكمة تحمل اقتراحات وحلولا للوضع المتردي الذي تعيشه البلاد، وهي مقترحات تحمل روح مشروعه التغييري. هذا الأسلوب أخذت به مؤسسات جماعة العدل والإحسان، حيث قدمت دائرتها السياسية مقترحات لما تراه تجاوزا وإصلاحا للوضع القائم، كحلف الإخاء سنة 2006، وجميعا من أجل الخلاص سنة 2007، لكن الوثيقة السياسية التي أصدرت أواخر سنة 2023، كانت لها ميزة خاصة عن باقي المبادرات السابقة، نظرا لدقتها وحجم تفصيلها لرؤيتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والمجتمعية من جهة، ولكونها أول وثيقة تصدر بعد وفاة الإمام من جهة ثانية، لذلك صَحبتها تساؤلات كثيرة، ولعل أبرزها مرتبط بمدى وفائها لمشروع الإمام، من هنا يحق التساؤل: هل استطاعت الوثيقة السياسية التي أصدرتها الدائرة السياسية للجماعة أن تبقى وفية للخط الذي رسمه الإمام عبد السلام ياسين؟
إن الإجابة عن هذا السؤال ليس بالأمر الهين، لأن ذلك يتطلب فحص كل كتب الإمام ومرئياته ومسموعاته، ودراستها دراسة مقارنة مع مضمون الوثيقة، لكن ما لا يدرك كله لا يترك جله، لهذا سيتم في هذه المقالة الوقوف على دراسة عنصر واحد فقط، وهو المرتبط بقضية المرأة؛ سواء فيما يتعلق بمسألة تعليمها وعملها خارج البيت، أو ما هو مرتبط بحقوقها السياسية والمدنية. وهو ما سيتم بسطه بإيجاز.
1- تعليم المرأة
جاء ضمن مقترحات الوثيقة السياسية “ضمان حق المرأة في التأهيل العلمي والمهني” 1، دون إهمال المرأة القروية “تعليما وتثقيفا وتنمية متكاملة متعددة الأبعاد، مع إيلاء اهتمام خاص لتدريس الفتاة في العالم القروي” 2.
إن المتفحص لكتب الإمام لن يجد صعوبة في رصد هذه المقترحات، ففي كتابه تنوير المؤمنات جعل “العلم وطلبه واستكماله هو نور العقل الذي به تكون المؤمنة متحركة بين ساكنين، متوهجة بين باهتين، مشمرة بين مترهلين، حية بين أموات” 3، وهو حق “لا يخضع لأية قيود” 4. ولم يكتف رحمه الله بدعوتها إلى تحصيل العلوم الشرعية فحسب، وإنما رأى بأنه من حقها أن تأخذ حظها من العلوم الكونية أيضا، وهو ما دفعه للتساؤل مستغربا: “ما مكان هذه المعارف الكونية المحتكرة هناك المشرفة، الغائبة هنا الغريبة، من اهتمام المؤمنين والمؤمنات؟” 5، إن طلب العلوم الكونية من طب وهندسة أمر مهم للأمة الإسلامية جمعاء كي تتخلص من ركودها الذي صحبها قرونا عديدة، ولن يتحقق ذلك بمعزل عن مشاركة المرأة “في الجهود التي يبذلها المجتمع لتحررها وتحرير الأمة الإسلامية من العوائق العرفية والانحطاط الخلقي” 6.
2- المشاركة السياسية والاستقلال المالي
كما دافع الإمام المجدد عن حق المرأة في “التصرف باستقلالية في مالها” 7، كي يتحقق لها الاستقرار الأسري، وعد مشاركتها السياسية “ركنا أساسيا من أركان الدين” 8، وهما مطلبان نجد لهما حضورا واضحا في المقترح رقم 594 9. إن نهضة البلاد والأمة حسب الوثيقة تقتضي أن تنهض المرأة للانتفاض ضد الظلم والقهر والقمع، وإعداد القوة للمشاركة الفاعلة في إطار التدافع السلمي المشروع رفضا للطغيان وفضحا للفساد والمفسدين وإسهاما في إقامة دولة العدل، وهو لا يتنافى مع تصور الإمام.
3- عمل المرأة خارج البيت
أشارت الوثيقة السياسية في العديد من المقترحات إلى عمل المرأة خارج البيت، وهو عند الإمام حق من حقوقها، سلبته إياها التقاليد الرجعية، فمن حقها “العمل، وتحمل عدة مسؤوليات اجتماعية ومهنية” 10، بل ويجب أن تمنح لها “أجرة كريمة” 11 مقابل عملها، لكنه في موضع آخر يقيد عملها خارج البيت بشروط، فلنتأمل ما يقوله الإمام مخاطبا المرأة: “لك ضمان من الشريعة في حق كرامتك الإنسانية، وحقك في التصرف في أموالك، وحقك في العمل والكسب إن ألجأتك الضرورة” 12، حرف “إِنْ” في اللغة أداة شرط، وبهذا المعنى يفهم من كلام الإمام أنه يقيد خروج المرأة للعمل خارج بيتها بالضرورة. لكن، لماذا؟
يجيب الإمام مخاطبا المرأة مرة أخرى: “لك من الشريعة كل الحقوق اللازمة لأداء مهمتك الاجتماعية الأساسية” 13، ومهمة المرأة الأساسية عند الإمام هي تربية أبنائها، “تربية الجسم بما يليق من غذاء وكساء، وتربيةِ الروح بالحفاظ على سلامة الفطرة، وتربية العقل والمهارة ليكون المولود كاسبا عاملا لا عالة على الناس” 14، هكذا يتبين بأن المهمة الأساسية للمرأة هي تربية أطفالها تربية متوازنة، وهذا يتطلب منها وقتا وجهدا غير يسيرين، وهو ما سيتعارض حتما مع مطلب الشغل، لذلك قيد خروجها بالضرورة. لكن ماذا يقصد بالضرورة؟ ومتى تتحقق؟
الضرورة في اللغة اسم من الاضطرار، والاضطرار: الاحتياج الشديد، تقول: حملتني الضرورة على كذا وكذا. إذا أسقطنا هذا التعريف على قضيتنا، فمتى يصبح عمل المرأة ضرورة حقا؟
يرى الإمام أننا إذا “التفتنا إلى واقع المسلمين، خاصة في عصور الاستهلاكية المتباينةِ فيها المكاسبُ تباينا فاحشا المتفشي فيها الفقرُ والبطالة إلى جانب الترف والتبذير، نجد ما يُؤلِمُ القلب ويحزن النفس. الضرورة تدفع نساء المسلمين المستضعفين للكسب خارج البيت” 15، هنا ستجد المرأة المؤمنة نفسها حائرة، فالخطاب القرآني يحثها على تفضيل الآخرة على الدنيا، على تفضيل حياة الفطرة على حياة الاستهلاك، أما خطاب الواقع المليء بالتناقضات والفوارق الاجتماعية فيخاطبها “بلغة الحاجة، ولغة التنافس، ولغة الفاقة، ولغة كرامة المرأة العاملة، ولغة الاستقلال الاقتصادي” 16، هنا بقي كلام الإمام مفتوحا على كل الاختيارات أمام المرأة المؤمنة، لكنه يحمل توجيها إلى الراغبة إلى ما عند الله، هي من تحدد قدر الاضطرار وحجمه.
إن الأصل عند الإمام هو مكوث المرأة بالبيت برجها الاستراتيجي، “فمن تظالم العباد وتشاحُحِهم أن تُضطر المرأة للعمل خارج بيتها عملا يشغلها عن وظيفتها الفطرية الجليلة” 17، المتمثلة أساسا في تربية أطفالها، وتمكينهم من الحنو والعطف اللازمين، بدلا من أن يتركوا “للخادمة ولمراكز الحضانة تُطعمهن الأيدي الأجيرة طعام الحرمان العاطفي! هذا ضياع لأجيال نريدُها مُفعَمةَ الجسم بفتوة لا تنشأ إلا بثدي الأمهات، عامرة القلب بإيمان فطري لا تتأهل للحفاظ عليه وتأسيسه إلا رحمة الأمهات، متوثبة الهِمة إلى معالي العزة بالله والعزة للأمة، عزةٍ لا يمكن أن تتولد في أحضان الخادمة ومراكز الحضانة وشارع البؤس” 18.
يتبين مما سبق بأن ما لا يقبله الإمام هو أن تشتغل المرأة في عمل لا يليق بها لأن لها خصوصيتها التي تميزها عن شقيقها الرجل، وهو ما لا تدركه المجتمعات المعاصرة التي جرفتها الماديات الدوابية، لذلك يقترح على المرأة المضطرة للعمل أن تمتهن “وظائف التعليم بمراحله لبنات جنسها، والتطبيب لهن، وسائر الأنشطة الاجتماعية، وغيرها مما لا يتنافى مع الحشمة والأخلاق والعفة والتقوى” 19. فعمل المرأة خارج البيت ليس عيبا ولا منكرا، لكن المطلوب هو التوفيق بين واجبها بالبيت، وواجبها بالشغل، وواجبها مع الله، حيث استشهد بموظفة مغربية بإحدى الإدارات التي استطاعت أن تجمع الموظفين والموظفات معها على الله، فاتفقوا على التعاون جميعا لإنهاء أشغالهم الإدارية، ليتفرغوا للقرآن والذكر، بل وأنشؤوا صندوقا للحج 20.
أما الوثيقة السياسية فلم تشر إلى شروط عمل المرأة خارج البيت بتاتا، ولعل ذلك راجع لطبيعتها، فهي وثيقة تحمل مقترحات حلول لواقع تعيشه المرأة العاملة، ولهذا جاءت العديد من هذه المقترحات محاولة تسهيل عمل المرأة، مراعاة لخصوصيتها، بتوفير ظروف عمل ملائمة، ومنها 21:
– “تجهيز الإدارات العمومية ومقرات الهيئات السياسية والمدنية ببنيات تحتية، (رياض أطفال، أماكن صحية للرضاعة)، لضمان الاستقرار النفسي للأم الموظفة، وتوفير الظروف المناسبة لانخراطها في العمل السياسي أو المدني.
– “إعادة ضبط إيقاعات الحياة العملية لتحقيق التوازن بين دور المرأة في الواجبات الأسرية ومتطلبات الاشتغال خارج البيت، والسعي ما أمكن لإحداث تمييز إيجابي في عدد ساعات العمل.
– “استحداث وضعية التفرغ الأسري للأمهات لرعاية الأطفال مع حفظ الحقوق الأساسية المرتبطة بتشغيلهن ضمن شروط تعاقدية ومدد زمنية معقولة، دون المساس بسير المرفق الوظيفي عاما كان أو خاصا”.
كل هذه المقترحات تهدف إلى توفير الشروط المناسبة للمرأة العاملة، كي توازن بين عملها خارج البيت، ومسؤوليتها التربوية داخله، وهو لا يتنافى مع ما دعا إليه الإمام المجدد.
أما إذا بقيت المرأة في بيتها، رغبة منها أو مضطرة، فيقترح الإمام أن تمنح أجرة تحفظ كرامتها، وتحقق بها استقرارها، واستشهد برأي أوجست كونط الفيلسوف الوضعي الفرنسي رائد علم الاجتماع الذي يرى أن كفاية نفقات المرأة “واجب مقدس على الرجل لتتفرغ لإسعاد أهل بيتها، ويرى أن على الهيئة الاجتماعية أن تكفُلها في مادياتها الكفالة التامة” 22، إنه بالنسبة للإمام رأي حصيف يصون المرأة عن الابتذال في العمل خارج البيت، وفي نفس السياق سارت الوثيقة في مقترحها 597 حيث دعت إلى: “تأسيس نظام للدعم المالي والمعنوي للأمومة وللمرأة ربة البيت، مع ضمان التغطية الاجتماعية لها عبر نظام مبتكر للحماية الاجتماعية يعمل على تثمين عمل المرأة داخل البيت” 23.
خاتمة
إن المقترحات التي جاءت بها الوثيقة السياسية والتي تخص المرأة في تعليمها وحقوقها السياسية والمدنية، هي في العموم موافقة لما قال به الإمام عبد السلام ياسين، إما مطابقة تامة أشار إليها الإمام في مرئياته وكتبه، أو عبارة عن اجتهادات تلائم تطور العصر ولا تخرج عن نطاق فكر الإمام وتصوره للمشروع المجتمعي المأمول. أما قضية عمل المرأة خارج البيت، فكل المقترحات جاءت من أجل التخفيف على المرأة مراعاة لخصوصيتها، ولم تنظر في مسألة اضطرار خروجها إلى العمل نظرا لطبيعتها الاقتراحية لا غير، وهذا يدل على أن واضعيها بذلوا مجهودا كبيرا في ذلك.
[2] نفسه، ص159.
[3] ياسين، عبد السلام، تنوير المومنات، (دار البشير للثقافة والعلوم، مصر، ط1، دت)، 2/65.
[4] ياسين، عبد السلام، الإسلام والحداثة، (مطبوعات الهلال، وجدة، ط1، 2000).
[5] ياسين، عبد السلام، تنوير المومنات، 2/66.
[6] ياسين، عبد السلام، الإسلام والحداثة، ص210.
[7] ياسين، عبد السلام، الإسلام والحداثة، ص210، وينظر أيضا في كتاب، ياسين، عبد السلام، إمامة الأمة، (دار لبنان، بيروت، ط2، 1439هـ ـ2018م)، ص104.
[8] ياسين، عبد السلام، العدل الإسلاميون والحكم، (دار لبنان للطباعة والنشر، بيروت، ط3، 2018م)، ص289.
[9] الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان، الدائرة السياسية، ص158.
[10] ياسين، عبد السلام، الإسلام والحداثة، ص210.
[11] ياسين، عبد السلام، إمامة الأمة، (دار لبنان، بيروت، ط2، 1439هـ ـ 2018م)، ص104.
[12] ياسين، عبد السلام، تنوير المومنات، 1/164.
[13] نفسه، 1/164.
[14] ياسين، عبد السلام، العدل الإسلاميون والحكم، ص304.
[15] ياسين، عبد السلام، العدل الإسلاميون والحكم، ص305.
[16] نفسه.
[17] نفسه، ص302.
[18] نفسه، ص306.
[19] ياسين، عبد السلام، العدل الإسلاميون والحكم، ص306، ينظر أيضا، تنوير المؤمنات، 1/273.
[20] ياسين، عبد السلام، مجالس تنوير المومنات، سلوك المرأة إلى الله ج1، يوتوب.
[21] الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان، الدائرة السياسية ص158 و159.
[22] ياسين، عبد السلام، العدل الإسلاميون والحكم، ص306.
[23] الوثيقة السياسية لجماعة العدل والإحسان، الدائرة السياسية، ص159.