تقرّر في مشيئة الله، بعد أن خلق الوجودَ وخلق آدم، أن يخلق من ضِلعه الأعوج حواء، الأنثى، بعد أن استوحش قلب آدم عليه السلام، وأحس بالوحدة والفراغ في الجنة، والتي صاحبتهُ إلى الأرض بعد اقترابهما من الشجرة، وهكذا توالت الأجيال من السكان الجدد لهذه المعمورة، وتعددتِ الأعراق والألسن، وظهرت قرى ومدن، وحضارات، ومع اختلاف العصور وتعدد الأعراف والعادات، كما الثقافات لكل حضارة، ولأن الموضوع كما يتضح من العنوان، يدور حول المرأة، من خلال رصد مظاهرِ الانحطاط، كما الفاعلية عبر تاريخ الإسلام، فإنه لا بأس قبل ذلك من الإشارة إلى بعض تلك المظاهر في الأمم والحضارات السابقة، والذي يتبيّن أنها تميزت بالاختلاف والتنوع.
1- المرأة في عيونِ الأمم والحضارات السابقة للإسلام
في العصر الحجري الحديث كانت المرأة بمثابة “مصدر الحياة” بتعبير كيفن رايلي، بحكم أنها الأولى التي ابتكرت الزراعة، كما تقول النظريات الأنثروبُولوجية، والذي شكل هذا الابتكار “أهم طفرة في التاريخ البشري (حتى مائتي عام الأخيرة على الأقل)، فمن خلال هذا الابتكار المهم رفع من مقام النساء في كثير من المجتمعات التي حدثت فيها” (1)، هنا يقول الدكتور جاي ستوك “إن العمل اليدوِي الدقيق للمرأة كان منذ آلاف السنين محركا حاسماً للاقتصاديات الزراعية”.
ومع تطور المجتمع وتعدد ثقافات كل عصر ظهر فلاسفة مصلحين في اليونان مثل أفلاطون، والذي أجاز للمرأة، في مدينته الفاضلة، أن تصل إلى طبقة الحكم مثلها مثل الرجل، “ذاك أنه على الحكام أن يحكموا المدينة بعقولهم، والنساء يتمتعن، بنظر أفلاطون بالقوى العقلية ذاتها شرط أن يتربين مثلهم ولا يحصرن بالأعمال المنزلية ورعاية الأطفال” (2).
بالمقابل نجدُ أن المرأة عاشت أبشع وأشنع مظاهر الحياة؛ من إهانة وذلٍّ واحتقار في كنف الحضارة الهندية، والتي كانت ترى فيها مصدر لعنةٍ ووباء فتاك.
ونظرت العصور الوسطى تحت ظل سيطرة الكنيسة للمرأة على أنها سلعة مملوكة للرجل، فقد تبنى القديس توما الأكويني آراء أرسطو في المرأة، في كونها رجلا غير كامل، وأنها عنصر سلبي متلقّ، كما أن الأطفال يحملون صفاة أبيهم الوراثية.. وغير ذلك من الأفكار التي رأى أنها تتوافق مع الكتاب المقدس.
وعبر التاريخ نجد العديد من مظاهر الاستصغار و الاحتقار التي طالت المرأة، وفي الجاهلية لم تسلم المرأة، فلِشدة الخوف من العار والفقر وئدت المولودة الرضيعة بذهنية “الموت للعار ولا الذل” (3) كما عبر عنه الأستاذ عبد السلام ياسين، واعتبره منطقا جاهليا قبحه الله عز وجل في قوله: إِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِالْأُنثَىٰ ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَىٰ مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ ۚ أَيُمْسِكُهُ عَلَىٰ هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ۗ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4).
إن الذي يقرأ التاريخ يجد أن المرأة استُبدلت مهمتها الأولى بمهام حصرها لها المجتمع الذكوري، ففقدت ثقتها بنفسها وأصبحت إمعة تُنفذ ما تؤمر به وتدنت مكانتها داخل المجتمع الإنساني.
2- المرأة في الإسلام.. التجربة العملية
لكن ما بين غمضةٍ عين وانتباهها، يغير لله الواقع من حال إلى حال، فمع طلوع فجر جديد أشرقت معه شمسُ زمن جديد، كان الفاعل فيه والمغير لهذا الحال معلمّ البشرية ومربيها؛ رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام، والذِي لم يأتي بمبان فلسفية أساسها فرضيات، بل بعقيدة الإسلام وشريعته، الذي أتى بالحق المنزل من خالق الخلق بارئ الإنسان ومصوره، فقد شملت رسالته كل شيء، حتى كان بحق منهج حياة بتعبير سيد قطب.
ومن بين أهم مجالات البرنامج الإصلاحي النبوي قضية المرأة ووضعيتها، عن طريق إصلاح حال المرأة التي كانت في المجتمع الجاهلي مهملة المكانة، مسلوبة الحقوق، إذ رفع الإسلام مكانتها وحقق لها إنسانيتها حين حفظ لها حقوقها وبيّن واجباتها. فنذكر مثلا حدث نزول الحق على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار حراء، حيث رجع إلى زوجته خديجة بنت خويلد عليها السلام، لا لشيء إلا لتُطَمئن قلبه وفؤاده المرتجف، وتهدئ من روعه، ليكرِمَها الله بأن تكون أول من أسلمت وآمنت بما جاء به زوجها، فبذلت الغالِي والنفيس في سبيل الدعوة؛ مالها وجاهها..
وعبر الأيام والشهور، لحقت بها العديد من الصحابيات، ليصبحن معلمات التضحية والفداء في سبيل المساهمة والإسهام في بناء المجتمع الإسلامي السائر على المنهاج النبوي، وكان ذلك بعد أن لُقِّنَّ، كما لقن الصحابة، التربية المحمدية، في بيئة إيمانية غيرتهن على الصعيد الروحي والمعرفي والسلوكي العملي، فتربين في الشدائد، وفي قلب الابتلاءات والاختبارات؛ منهم من أزهقت روحها في سبيل ذلك، وكانت أول شهيدة، بل إن لم نقل أول نفس في الإسلام تستشهد تحت العذاب، سمية بنت الخياط رضي الله عنها وعلى آل بيتها، إنهم الرواد الأوائل الذين ضحوا بدمائهم وحياتهم في سبيل الله.
اقتبست الصحابيات الجليلات الهدى والنور من بيت النبوة “فبالقرآن خلقهن، وبالقرآن هذبهن، وبرأفته وحكمته قومهن” (5)، ولقد تعددت النماذج لصحابيات خلدن، بسبب فصاحة كلامهن وجرأتهن المستمِيتة في العديد من المواقف، التي قد تشهد غياب الرجل وتراجعه، نذكر موقفا لصحابية جليلة أخذت مكانا عاليا، فتفوقت على بعض الرجال، وعُدّت من الأبطال، بحق، كالموقف المشهود في معركة حنين، والذي شهد هجوما مفاجئا على المسلمين، ورأى الرسول صلى الله عليه وسلم الحدث فصاح في الناس بأن يلتحقوا به “ولم يكن حول النبي ساعتها إلا قلة من الصحابة، فخرجت (أم سليم بنت ملحان) حين رأت ذهولَ المسلمين وارتباكهم، فركبت جمل زوجها أبي طلحة رضي الله عنهما وهرولت به نحو الرسول، ولما تحرك جنينها في بطنها، وكانت حاملا، خلعت بردتها وشدت بها على بطنها في حزام وثيق، ولما انتهت إلى النبي صلى الله عليه وسلم شاهرة خنجرا في يمينها ابتسم لها رسول الله وقال: “أم سليم؟”، قالت “نعم .. بأبي أنت وأمي يا رسول الله، اقتل هؤلاء الذين ينهزمونَ عنك، كما تقتل الذين يقاتلونك، فإنهم لذلك أهل”، وازدادت البسمة ألقا على وجه الرسول الواثق بوعد ربه وقال لها: إن الله قد كفى وأحسن يا أم سليم..” (6).
يحلل الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله تعالى، هذه النماذج والمواقف الخالدة فيقول: إنه “لا مكان للتأويل ولا للتخصيص والتقييد عندما نقرأ الحياة العملية للصحابيات رضي الله عنهن، أولئك كن السابقات الأوليات من المهاجرات والأنصاريات اللواتي رضي الله عنهن ورضوا عنه، وأعد لهن جنات تجري من تحتها الأنهار” (7).
3- المرأة في الإسلام.. مرحلة الانكسار التاريخي
إلا أن هذا العصر الذهبي انتهى يوم لبى الرسول نداء ربه وثوي جسده الطاهر في غرفة سيدتنا عائشة رضي الله عنها بعد أن فتح مكة وطهر البيت الحرام من الأوثان، وبُويع الخلفاء الأربع؛ أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، رضوان الله عليهم، وتوسعت القاعدة الجغرافية للمجتمع الإسلامي بسرعة كبيرة، “فدخل في دين الله أمم كثيرة طوعا وإيمانا أو حفاظا على الأرض والمال والحرية” (8)، إلا أن الشرخ الذي أحدثته أسرةُ بني أمية، بعد أن خلقوا تفاوتات طبقية داخل جسم الأمة، انتهت بمقتل الإمام الشهيد سيدنا عثمان رضي الله عنه، وكانت بداية الانكسار والوهن، وبداية انحطاط مكانة المرأة في المجتمعات الإسلامية بالتبعية، فقد نشبت الفتنة الكبرى، وانقسم المسلمون بين من يرى بأسبقية الاقتصاص لدم الشهيد، وبين أولوية إعادة الاستقرار لجهاز الحكم أولا، وذلك بمبايعة الصحابة لسيدنا علي كرم الله وجهه… وبعد موت الخليفة، وبغية حقن دماء المسلمين، تنازل الحسن عليه السلام لمعاوية، بشرط أن يترك الأخير أمور الحكم شورى بين المسلمين بعد وفاته، وهذا ما لم يكن، إذ ورثه ابنه يزيد، وأكره الصحابة على مبايعته.
وفي هذا الوقت تبرز بطلة أخرى من نساء الإسلام، السيدة زينب بنت سيدتنا فاطمة الزهراء عليهما السلام، والتي كتب عليها أن تعيش عصرين من الزمن في حياتها، فمن حضن جدها وازدهار الأمة، إلى مكابدة المصير المحتوم، بدون أب أو أم، فتتحمل مسؤولية احتضان شقيقيها الحسن والحسين رضوان الله عليهم، ودُسّ لسبط النبي الحسن السم وشيعت زينب أخاها حيث أرقد إلى جوار أمه الزهراء بالبقيع، وبدأت التحركات كما قلنا من معاوية، الذي “يريد الخلافة ملكا أمويا ولن يستطيع أن يأخذ البيعة لابنه يزيد والحسن بن علي حي يتنفس” (9)، وهذا ما كان، إذ بعد موته أصبح يزيد ملكا على المسلمين، الأمر الذي خلق مجموعة من الحركات القومية لمجموعة من الصحابة، من أجل تصحيح الأمر وإعادة الأمور لنصابها؛ شورى وخلافة على منهاج النبوة.
قام سيدنا الحسين، وهو الذي يرى ما وصل إليه الأمر، تحول الحكم من الشورى ليصبح ملكا يورث، فحدثت واقعة كربلاء الخالدة، وقامت معه سيدتنا زينب، وكانت بحق المساهم الأول في تخليدها هذه الواقعة، إذ لقبت ببطلة كربلاء، كما سمتها بنت الشاطئ في كتابها (السيدة زينب بطلة كربلاء) حيث “وقفت بجانب أخيها ومعهم اثنين وثلاثين فارسا، وأربعين رجلا من أهله وصحبه ومن ورائهم الصبية و النساء” (10)، فلم يبق من المقاتلين سوى الحسين ووقفت أخته زينب تملأ عينيها منه قبل أن يمضي، ويقضي الله أمره، وكانت النتيجة المحتومة مسبقا، بعد أن تكالب جيش ابن زياد على بضعة من أطهر خلق الأرض، ولم يبق من أشخاص القصة الذين ظهروا على المسرح الدامي سوى زينب، والتي لم تكد تغيب عنها لحظة من طول المشهد الفظيع، فكانت إلى جانب المريض تمرضه، والمحتضر تواسيه، و الشهيد تبكيه. لكن ليست كل هذه الممارسات هي التي دفعت لاستحقاقها لقب “بطلة كربلاء”، فبعد الهزيمة جيء بموكب الأسرى نحو الكوفة، حيث وعظت وأبكت أهلها لما خذلوا الحسين وخذلوا أباها قبله، كما وقفت شامخة بدون أن تذرف ولا دمعة في موكب الأسرى مكبلين بالأغلال مع رأس سيدنا الحسين ورؤوس السبعين من آله وصحبه، لتقف وجها لوجه أمام يزيد بن معاوية، قائلة كلمتها: “وستعلم أنت ومن بوأك ومكنك من رقاب المؤمنين إن كان الحكم ربنا والخصم جدنا، وجوارحك شاهدة عليك أينا شر مكانا وأضعف جندا” (11).
إن المتأمل في خصوصية الموقف، وأبطاله، ليقف على حجم فاعلية السيدة زينب في تخليد الذكرى، بموقفها، فلولاها لبقيت فاجعة كربلاء طي النسيان، فكانت عليها السلام: “بطلة استطاعت أن تثأر لأخيها الشهيد العظيم، وأن تسلط معاول الهدم على الدولة الأموية، وأن تغير مجرى التاريخ” (12).
4- المرأة في الإسلام.. الصحوة الإسلامية
وعلى نهج السيدة زينب والصحابيات الجليلات، سارت العديد من الصالحات المؤمنات اللواتي عرفن مالهن وما عليهن، فساهمن في محاولة إعادة بناء الأمة، عبر التاريخ، والتي انكسرت تحت سيف الحكم العاض، فبعد أن صعد شأن المرأة في كنف الرسول، حيثُ تبوأن أماكن مختلفة في ميادين الحياة، كما تقدم، إذ “النساء شقائق الرجال” كما عبرت السيدة عائشة، فلمع عدد من الصحابيات في مجالات مختلفة؛ الطب، الزراعة، الإفتاء، التعلم…
إلا أن فساد الحكم أفسد معه المجتمع وروابطه وعلاقاته، فبينما كانت تُوأد في الجاهلية وأدا حسيا، أصبحت توأد وأداً معنويا، إذ تم تغييبها من الحياة العامة داخل المجتمع، وأصبح “صوت المرأة عورة” و”للمرأة الحق في الخروج مرتين؛ من بيت أبيها إلى بيت زوجها، ثم تخرج منه محمولة إلى قبرها”.. إضافة إلى العديد من مظاهر الفقه المنحبس الذي كان نتاج حكم عاض وجبري ساهم في تأزيم الأوضاع.
ثم ظهرت الصحوة الإسلامية، وبرزت نساء حاولن العمل على إعادة مركزية المرأة وفاعليتها داخل المجتمع، ففي مصر مثلا لعبت السيدة زينب الغزالي رحمها الله دورا هاما في الدعوة الإسلامية، وكانت معروفة بشجاعة فكرية وأخلاقية، فقبل انتمائها لجماعة الإخوان كانت تناظر علماء الأزهر، وانخرطت في الاتحاد النسائي الذي أسسته هدى شعراوي، وقد وهبت نفسها لطلب العلم الشرعي فأسست جمعية “النساء المسلمات”، فكانت تصدر مجلة كل شهر، ناهيك عن العديد من الخطب في المساجد، لكن بعد تعرفها على الشيخ الشهيد حسن البنا رحمه الله، وبدايتها في تنظيم الصحوة الإسلامية، بدأت تتعرضُ للملاحقات والمضايقات، فسجنت السيدة زينب الغزالي لمدة سبع سنين ذاقت فيها أشد أنواع التعذيب. تحكي زينب وتقول: “بعد فترة أدخلت حُجرةً لا أدري كم كلباً كان فيها، هل عشرة كلاب أو خمسة عشرة، المهم أنها مملوءة بالكلاب المتوحشة، وأغمضت عيني حتى لا أفزع، فأوقدوا نورا قويا شديد الوهج يغشى البصر وأغلقت علي الحجرة وتركت مع هذه الكلاب وأغلق علي الباب من الخارج بالقفل، وعشت في هذه الحجرة خمس ساعات؛ من الثالثة حتى الثامنة وأنا أغمض عيني واضعة يدي تحت إبطي والكلاب تنهشني من أخمص قدمي إلى قمة رأسي” (13). وتصور لنا -أيضا- بعض معانتها فتحكي أنها “جلدت مرة 500 جلدة”.. أطلق سراحها سنة 1971 بعد وفاة الطاغية جمال عبد الناصر. واحتسبت كل تلك المعاناة ابتلاء من الله عز وجل، واستمرت في دعوة الأمة رحمها الله، وتركت بصمتها في التاريخ الإسلامي.
وما الداعية زينب الغزالي رحمها الله إلا جزء من العديد من النماذج لنساء سطرن التاريخ بقصص التضحية والفداء، فنجد في المغرب “جماعة العدل والإحسان” التي جاءت بمشروع تجديدي أسس قواعده الفكرية والتنظيمية الإمام عبد السلام ياسين رحمة الله عليه، والذي يتمركز حول مفهوم المنهاج النبوي الذي هو خطة خلاص الأمة على هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم، منهاج يبني الإنسان ويبني الأمة. وبما أن صاحب الدعوة رجل استثنائي فقد وهبه الله تعالى شريكة درب وصفها بـ”الكنز الثمين”، هي السيدة خديجة المالكي السباعي رحمها الله، سليلة الأطهار الأخيار، مؤمنة صالحة تقية خفية، تقول إنه لما أخبرها بأنه يكتب رسالة “الإسلام أو الطوفان” للملك الحسن الثاني: “على مدى كل تلك الفترة كنت أترقب و أقول في نفسي كل يوم .. اليوم يأتون لاعتقاله، وكل ليلة غدا يأتون لاعتقاله .. وقمت بإعداد حقيبة ملابسه حتى لا يفاجئنا الحدث”.. كانت سندا وظهرا لزوجها الذي تحمل ضريبة كلمة الحق عند سلطان جائر، فتجرعت في سبيل الله من مرارة تداعياته، وتحملت حرارة جمره، كتب الله عليها أن تشهد المشاهد كلها واعتبرت المساعدة الأولى والأساسية؛ قبل تأسيس الجماعة وبعدها، صبرت على المكاره، وما أكثرها وما أشدها، ووهبها المولى سبحانه سعة الصدر والرضا بقدره، فكان الناس يحجون إلى بيتها كل يوم للقاء الإمام، فلم تمل قط، كانت دائمة الفرحة والبشاشة عند استقبالهم، تحسن تضييفهم وإكرامهم. أيضا وفرت للإمام الظروف الملائمة للتفرغ لتأليف الكتب والعبادة. وهي الأخرى لم تسلم من بطش الحكم الجبري، إذ اعتقلت ومنعت من الحج، وسلكت بجنب زوجها درب الجهاد الشاق الطويل، كما أنها كانت لا تحب الظهور، دائمة الفرار من الأضواء، تقول حفيدتها عائشة الشيباني إن السيدة خديجة “أحست بفراغ كبير بعد وفاة الأستاذ عبد السلام ياسين، افتقدت لتواجده، للصلاة معه، للقيام معه”.. وصبيحة يوم الأربعاء 04 جمادى الآخر 1436 الموافق 25 مارس 2015 غادرتنا إلى دار البقاء، فكانت وفاتها إعلانا لما خفي من جهادها، وكان دفنها مشهودا، فقد أوصت قبل وفاتها بأن تدفن بجوار زوجها، إلا أن السلطات المغربية منعت هذا الأمر منزلة كل أشكال وألوان البوليس ليمنعوا جنازة المرأة، وشاءت مشيئة الله تعالى المتصرف في كونه أن يحقق رغبتها، رغبة امرأة وفية وصادقة. لقد كانت حقا عنوانا للوفاء، فكما جمعهما الله تعالى برباط الميثاق الغليظ في الدنيا كتب سبحانه للضريحين التجاور بعد الممات.
خلاصة
من هاته الشخصيات الخالدة نستمد القوة والعزيمة، من خلال النماذج المسطرة عبر التاريخ، من حواء إلى آسية امرأة فرعون، إلى مريم بنت عمران، مرورا بخديجة وعائشة، وسائر الصحابيات، وسائر نساء الإسلام عبر التاريخ، وصولا إلى بنات الصحوة الإسلامية، وبنات الحركات الإسلامية.. يتضح أن للمرأة المؤمنة الصالحة قضية في حياتها تعمل من أجلها، هي قضية مصيرها عند الله في الآخرة، وقضية أمتها التي تعيش واقع الاستضعاف والهزيمة، فوجب على من تسير على خطاهن أن تعرف المكانة التي وضعها فيها الإسلام لتساهم في تغيير الوضع، لأن تحررها مرتبط بتحرر المجتمع.
(1) الغرب والعالم.. تاريخ الحضارة من خلال موضوعات، كيفن رايلي، ص 52 – 57.
(2) المرجع نفسه، ص 196.
(3) تنوير المؤمنات، الجزء الأول، عبد السلام ياسين، ص 166.
(4) سورة النحل، 58 – 59.
(5) تنوير المؤمنات، م. س. ج 1، ص 172.
(6) رجال حول الرسول، خالد محمد خالد، ص 526 – 527.
(7) تنوير المؤمنات، م. س. ج 1، ص 172.
(8) الخلافة والملك، عبد السلام ياسين، ص 29.
(9) السيدة زينب بطلة كربلاء، بنت الشاطئ، ص 77.
(10) المرجع نفسه، ص 78.
(11) المرجع نفسه، ص 119.
(12) المرجع نفسه، ص 179.
(13) هموم المرأة المسلمة والداعية زينب الغزالي، ابن الهاشمي، ص 44.