مقدمة
التعليم وسيلة رقي كل المجتمعات وخروجها من ربقة الفقر والجهل والتخلف، وأساس بناء مجتمع العمران الإنساني المفروض أن تعيش فيه كل الإنسانية في رفاهية اقتصادية وعلمية، واستقرار اجتماعي ونفسي بما يليق بالإنسان عموما كمخلوق كرمه رب العالمين ويسر له سبل العيش الكريم المتزن والسوي. والمرأة شطر المجتمع، وفاعل حيوي ومؤثر فيه، ولا ينبغي إقصاؤها من المساهمة الفعلية في البناء بتمكينها من التعليم بكل مستوياته. ولا ننكر أن المرأة تمكنت من ولوج التعليم بنسب عالية وبلوغ مستويات علمية عليا ومشرفة، واستطاعت أيضا أن تبدع وتتألق وتحرز مكانة مهمة في النسيج المجتمعي، لكن رغم ذلك هناك إشكالات كبيرة مطروحة ينبغي الوقوف عليها للنقاش، وهي إشكالات ذات بعدين: بعد ذاتي مرتبط بالمرأة نفسها؛ بوعيها بحقوقها وبمدى إرادتها في التعلم والتعليم وبوعيها بوظيفتها المؤثرة في المجتمع، ثم هناك إشكالات موضوعية مرتبطة بأبعاد اجتماعية وثقافية ودينية واقتصادية وسياسية أيضا، سنناقشها في محور أشكال التمييز ضد المرأة.
أشكال التمييز بين الرجل والمرأة
التمييز في التعليم على أساس الجنس
رغم كل الجهود الإنسانية المبذولة لضمان حق المرأة والفتيات في التعليم، ما زال في هذا العالم تمييزا واضحا بين الرجل والمرأة على أساس الجنس في مسألة التعليم، وقد سجلت التقارير الأممية أرقاما صادمة في التمييز ضد المرأة في جميع المجتمعات النامية والمتقدمة على السواء، وهذا حسب تقديرنا له علاقة بعقلية سائدة متخلفة لم تستطع التخلص من مخلفات عصور الانحطاط الذي عانت فيها المرأة من التهميش والظلم وسلب الحقوق رغم كل الشعارات الزائفة، وذلك لتدني المستوى الأخلاقي والإنساني، فكلما انفصلت القيم والدين عن أي مجتمع كلما ظهر الظلم والقهر، ثم بسبب وعي المجتمع ونظرته الوظيفية للمرأة باعتبار خصوصيتها ووظيفتها الفطرية الملتصقة بالبيت ومهامه، إضافة إلى الهوس الربحي الصارخ الذي يريد للمرأة أن تحضر في طاحونة الإنتاج الاقتصادي الضارب للمعاني الإنسانية، واستغلال جسدها في مجالات ربحية غاصبة لكرامة المرأة وإنسانيتها.
التمييز لأسباب اجتماعية وثقافية
إن ما تعرضت له الأمة من نكبات سياسية، وما أصاب العقل المسلم بسبب غياب الاجتهاد من جمود وانحباس وبروز فقه سد الذرائع الذي ضيق على المرأة في كل المجالات، أثّر في وعي الشعوب الإسلامية، وراكم لديها مخزونا نفسيا وثقافة تنتقص من المرأة ومن أهليتها في الانخراط في كل الأدوار المجتمعية، وكرس دور البيت ومهمات الأسرة وأفضليتها للمرأة، مع ما تحتاجه هذا الوظيفة المهمة والحساسة من وعي وعلم وتكوين مستمر ، فكر لا زلنا نتجرع مرارته في شيوع ظاهرة زواج القاصرات وحرمانهن من عيش طفولتهن ومن التعليم.
ومن الأسباب الاجتماعية أيضا شيوع الأمية في فئات عريضة من المجتمع أثرت في التعامل مع تعليم المرأة بإهمال ودونية، إضافة إلى تأثير الفقر والهشاشة وغياب النصفة في تقسيم الأرزاق الذي أثر بشكل كبير في عدم تمكن فئات مهمة من النساء من الانخراط في التعليم، وتبين التقارير أن معدل الأمية يصل إلى النصف بين النساء مقارنة بالثلث عند الذكور. وتزداد الحدة في البوادي والقرى مقارنة بالمدن والحواضر لهشاشة البنية الاقتصادية وسيادة وعي معين كما أسلفنا.
التمييز على أساس العرق
ما زال هذا العالم يتنفس بروح العنصرية المقيتة رغم كل الشعارات المرفوعة عن المساواة بين الأعراق، وما زال هناك من يحمل هذه المشاعر العدوانية العنصرية في داخله، والشاهد ما ذكره تقرير صادر عن هيئة الأمم المتحدة للمرأة سنة 2018 كون معدلات الفقر في الولايات المتحدة بين النساء المنحدرات من أصول سوداء وشعوب أصلية أكثر من ضعف نسبة نظرائهن من النساء البيض والأسيويات، كما كان التباين في التعليم صادما أيضا، حيث بلغت نسبة النساء من أصول لاتينية ممن لم يكملن الدراسة الثانوية (ثمانية وثمانون بالمئة) مقارنة بالمعدل الوطني البالغ (عشرة بالمئة).
التمييز لأسباب دينية
سنتناول في هذا الباب أمرين اثنين: ظاهرة الإسلاموفوبيا وإشكالية فهم النص الديني.
– الإسلاموفوبيا ظاهرة تأججت في أوربا مع تنامي عدد المسلمين في دولها، وهي شكل من أشكال التمييز القائم على أساس الدين، فالنساء المسلمات هن أكثر ضحايا جرائم وخطابات الكراهية من الرجال. عرقلت هذه الكراهية مسار تعليم المسلمة فكان التضييق ومنع ارتداء الحجاب في المدارس والجامعات، مما يتعارض علنا مع مبادئ الحرية والمساواة المنادى به هناك.
– إشكالية فهم النص الديني؛ كحرمة سفر المرأة دون محرم.
كثيرة هي النصوص الدينية التي يتم إسقاطها على الواقع إسقاطا حرفيا وتتحمل تأويلات خاطئة وسطحية دون مراعاة الغايات المقاصدية الكبرى، وهذا بسبب تراجع دور الاجتهاد في تاريخ الفقه الإسلامي وتشبع الوعي الجمعي بدونية المرأة، وهي نظرة تأثرت بتأويلات فقهية متعسفة لبعض النصوص الدينية، وصلت حد إهانة المرأة وحصر خروجها من البيت في خرجتين اثنتين: واحدة لبيت الزوجية والثانية إلى مثواها الأخير.
ندرج مثالا عن هذا التشدد في اعتبار الحديث النبوي الذي يحرم سفر المرأة بدون محرم، رغم أن الفقهاء اختلفوا في قطعية التحريم، وقد أجاز فريق منهم السفر لضرورة كالحج.
ونجزم أن العلة في التحريم هو الحفظ والصون وتحقيق الأمن والسلامة للمرأة خوفا من قطاع الطرق، خاصة في زمن كان فيه الانفراد والعدد اليسير في السفر، كما قال الإمام الباجي في كتاب المنتقى شرح الموطأ: “ولعل هذا الذي ذكره بعض أصحابنا إنما هو في حالة الانفراد والعدد اليسير، فأما القوافل العظيمة والطرق المشتركة العامرة المأمونة فإنها عندي مثل البلاد التي يكون فيها الأسواق والتجار فإن الأمن يحصل لها دون محرم”.
هذا عن تحقيق الأمن والسلامة فماذا عن الضرورة؟ نقول: وهل هناك أوجب من طلب العلم بعد أداء فريضة الحج، وهو مطلب وضرورة ملحة لتنوير عقل المسلمة وهي المسؤولة عن شطر المجتمع في التربية والتنشئة وفي صلاح الإنسانية؟
التمييز في البحث العلمي
أشارت منظمة اليونسكو إلى “أن النساء في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات يعانين الميز في المعاملة العلمية”، وهذا اعتراف من مؤسسة دولية مهمة بتعرض المرأة للتمييز حتى في البحث العلمي والتعليم العالي، مما يضرب عرض الحائط كل دعوات المساواة والإنصاف وتمكين المرأة من كل الفرص الممنوحة للرجل سواء بسواء. كما لا يفوتنا أن نسجل استغلال المرأة جنسيا في نضالها لتحقيق حلمها في البحث العلمي والدراسة العليا بل وفي كل المجالات، وهذا ظلم واضح يعرض المرأة لابتزازات واستغلال لمجرد أنها امرأة، مما يفوت على العالم الاستفادة من كفاءات علمية نسائية مهمة، حيف يطال الإنسانية جمعاء في مسار الإصلاح والبناء. فنحتاج فعلا إلى عالم متشبع بوعي عال وبأخلاق رفيعة وفكر يقدر المرأة ويؤمن بإنسانيتها وحقها الكامل في التعليم والبحث العلمي..
تعطيل دور المرأة الرئيس في التربية والتعليم
ساهمت شعارات المساواة المرفوعة بين المرأة والرجل – رغم كل ما حققته من تقدم في بعض المجالات – في استنزاف المرأة واستفراغ طاقتها وجهودها في وظائف ومجالات ليست ملائمة لها، أو على الأقل ليست من أولوياتها، وهذا مما ضيع عليها فرصة الوقوف على ثغر مهم من ثغور بناء المجتمع لا يتقنه إلا النساء، وهو ثغر الأسرة والتربية، وبدراسة استقرائية لواقعنا نجد أن المرأة اليوم صار يطلب منها القيام بكل المهام؛ الإنفاق والتربية، والعمل خارج البيت وداخله، والقيام بمهام الزوجية ورعاية الأسرة، ومع ما يحتاجه هذا الجانب من تكوين وتعليم ومعرفة ليتم إتقانه والتضلع فيه من جهود، ضاع جزء مهم من البناء المتقن للأمة، وهنا نذكر بمهمة المرأة العظيمة في بناء مجتمع قوي برجاله ونسائه وهو التربية والتعليم.
غياب التعليم الذاتي الملح
مع كثرة الضغوط الممارسة على المرأة اجتماعيا واقتصاديا ونفسيا، لم يبق التعليم الذاتي من أولوياتها الأساسية، كما أن غياب التعليم الذاتي له شق سببي آخر وهو كون المرأة حلقة مرتبطة بالوعي الاجتماعي السائد الذي لا ينظر للتعليم كضرورة مهمة في حياة المرأة، بل قد تختار الزواج كاختيار مفضل عوض المضي في مسارها التعليمي، فوعي المرأة بحقها في التعليم وإرادتها الضعيفة في التعلم الذاتي باعتباره حاجة غير ضرورية، يبقى العقبة النفسية الكؤود التي على المرأة تجاوزها أولا وقبل كل شيء.
مقترحات
نستخلص من كل ما ذكر بعض المقترحات نسجلها لحل هذا الإشكالات في تعليم المرأة:
1- وضع برنامج تأهيلي للنساء عن دور التعليم في بناء الأسرة وعن التربية وفنيات التربية المستقبلية الجيدة، خاصة مع هجوم الثورة الرقمية على العالم.
2- رفع التمييز الحاصل على النساء في مجال التعليم بتوفير الضروريات اللازمة للانخراط.
3- توعية الرأي العام بأهمية دور المرأة في البناء والإصلاح.
4- عدم استغلال الدين بتأويلات خاطئة للنصوص من أجل التضييق على المرأة في شتى المجالات.
5- دعم المرأة نفسيا حتى تتجاوز العقبة النفسية وتمكينها من حقها في التعليم والتعليم الذاتي.
6- التخفيف على المرأة من الضغوط الاجتماعية التي تحرمها الراحة والتكوين الذاتي.
وختاما نقول: إن المرأة في العالم لا تزال تعاني عقبات في مسارها العلمي والتعليمي، رغم شعارات الحرية والمساواة المرفوعة، فالفقر والتهميش والعنصرية والتشدد وثقافة التسلط والاستضعاف المسيطرة على المجتمع الإسلامي تحد من تمكين المرأة من فرص التعليم بدون تحيز، وتمكينها من كل الحقوق للانتفاع بقدراتها الفكرية والعلمية، فالتعليم تنوير لها وللمجتمع وضمان لمستقبل مشرق يساهم فيه الرجل والمرأة على السواء في البناء.