المروءة حلية النفوس الزكية وزينة الهمم العلية

Cover Image for المروءة حلية النفوس الزكية وزينة الهمم العلية
نشر بتاريخ

لا يخفى على أحد أن الإسلام يدعو إلى التمسك بكل فضيلة ونبذ كل رذيلة. ومن أهم الخصال الحميدة والخلال الجميلة التي جاء بها الإسلام : المروءة. فالمروءة جماع الأخلاق ومنتهاها, ولحمة الفضائل وسُداها. وهي خلق الكرام , وأروع ما تحلى به الرجال ، وتزيّن به أهل الحجا, فهي حلية الفضلاء ، وشيمة النبلاء.

المروءة لغة :

جاء في القاموس المحيط : « مرؤ ككرم , مروءة فهو مريء , أي ذو مروءة وإنسانية , ومرأت الأرض مراءة فهي مريئة … حسن هواها ».

وقال ابن منظور  رحمه الله – في لسان العرب : « المروءة كمال الرجولية , مرؤ الرجل يمرؤ مروءة , فهو مريء على فعيل , وتمرّأ على تفعّل , صار ذا مروءة , والمروءة الإنسانية ».

تعريف المروءة :

روى الإمام مالك في الموطأ , عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال :« كرم المؤمن تقواه , ودينه حسبه , ومروءته خلقه … »

عرف الفقهاء المروءة بأنها استعمال ما يجمل العبد ويزينه وترك ما يدنسه ويشينه، قال ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين : “وحقيقة المروءة تجنب للدنايا والرذائل من الأقوال والأخلاق والأعمال”. ولأهميتها جعلها كثير من المحدثين شرطا في الراوي حتى يُقبل حديثه ، فمتى ما انخرمت مروءته تركوا حديثه .

وعرفها كثير من أهل العلم بقولهم : هي كمال الإنسان , من صدق اللسان , واحتمال عثرات الإخوان, وبذل الإحسان إلى أهل الزمان , وكف الأذى عن الجيران .

قال بهرام بن بهرام : المروءة اسم جامع للمحاسن كلها .

وقيل : المروءة استعمال كل خلق حسن, واجتناب كل خلق قبيح .

وقيل أيضا : هي صيانةُ النفس عن كل خُلُقٍ رديء.

وقيل كذلك : من تمام المروءة أن تنسى الحق لك , و تذكر الحق عليك . أن تستكبر الإساءة منك , و تستصغرها من غيرك.

ويقول الماوردي في أدب الدنيا والدين : اعلم أن من شواهد الفضل ودلائل الكرم : المروءة ، التي هي حلية النفوس وزينة الهمم . فالمروءة مراعاة الأحوال التي تكون على أفضلها، حتى لا يظهر منها قبيح عن قصد ولا يتوجه إليها ذم باستحقاق.

أهمية المروءة عند السلف الصالح وعند الحكماء والبلغاء :

قال أبو هريرة رضي الله عنه : جماع المروءة في تقوى الله , وإصلاح الصنيعة .

وقال ابن سلام : حدُّ المروءة : رعي مساعي البر , ودفع دواعي الضر , والطهارة من جميع الأدناس , والتخلص من عوارض الالتباس , حتى لا يتعلق بحاملها لوم , ولا يلحق به ذم , وما من شيء يحمل على صلاح الدين والدنيا , ويبعث على شرف الممات والمحيا , إلا وهو داخل تحت المروءة .

وقيل لسفيان بن عيينة رحمه الله : قد استنبطت من القرآن كل شيء فأين المروءة فيه ؟ .. فقال : في قول الله تعالى ” خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين ” ففيه المروءة , وحسن الآداب , ومكارم الأخلاق . فجمع في قوله ” خذ العفو ” صلة القاطعين , والعفو عن المذنبين , والرفق بالمؤمنين ، وغير ذلك من أخلاق المطيعين . ودخل في قوله : ” وأمر بالعرف ” صلة الأرحام وتقوى الله في الحلال والحرام ، وغض الأبصار , والاستعداد ليوم القرار. ودخل في قوله : ” وأعرض عن الجاهلين ” الحض على التخلق بالحلم والإعراض عن أهل الظلم , والتـنـزه عن منازعة السفهاء , ومساواة الجهلة والأغبياء , وغير ذلك من الأخلاق الحميدة , والأفعال الرشيدة .

وسئل الفضيل بن عياض – رحمه الله – عن المروءة فقال : كامل المروءة من برّ والديه , ووصل رحمه , وأكرم إخوانه , وحسن خلقه , وأحرز دينه , وأنفق من فضله , وحسن لسانه , ولزم بيته .

قال رجل للأحنف بن قيس : دلني على المروءة , فقال : عليك بالخلق الفسيح , والكف عن القبيح. وقال أيضا : المروءة صدق اللسان , ومواساة الإخوان .

وسئل عبد الله الفارسي عن المروءة فقال : التَّألُّفُ، والتَّظَرُّف، والتَّنَظُّفُ، وترك التكلف .

وقال الزمخشري في أطواق الذهب : المروءة خليقة , برضاء الله خليقة .

وقال بعض الحكماء : كامل المروءة , من أحب المكارم , واجتنب المحارم .

وقال ابن القيم رحمه الله: إن أغزر الناس مروءة أشدهم مخالفة لهواه .

وقال محمد بن علي بن الحسين  رضي الله عنهم – : كمال المروءة الفقه في الدين , والصبر على النوائب , وحسن تقدير المعيشة .

قال بعض البلغاء : إن من شرائط المروءة أن يتعفف (المرء) عن الحرام ، ويتصلف عن الآثام (يعرض عنها) ، وينصف في الحكم ، ويكف عن الظلم ، ولا يطمع فيما لا يستحق ، ولا يستطيع على من يسترق (لا يستكبر على الضعيف) ، ولا يعين قويا على ضعيف ، ولا يؤثر دَنِيًّا على شريف ، ولا يُسِّر (يخفي ويضمر) ما يعقبه الوزر والإثم ، ولا يفعل ما يقبح الذكر والاسم .

قال ربيعة الرأي : المروءة ستة خصال, ثلاثة في الحضر, وثلاثة في السفر. فأما التي في الحضر : فتلاوة القرآن, ولزوم المساجد, وعفاف الفرج. وأما التي في السفر : فبذل الزاد, ومداعبة الرفيق, وحسن الخلق.

وقال زياد بن أنعم : كمال المروءة أن تحرز دينك , وتصل رحمك , وتكرم إخوانك , وتصلح مالك , وتقيل في بيتك.

وقال عمرو بن عثمان المكي : المروءة , التغافل عن زلل الإخوان .

وذكر أبو نعيم في حلية الأولياء أن محمد بن عليان كان يقول : الزهادة في الدنيا مفتاح الرغبة في الآخرة … وكان يقول : المروءة حفظ الدين وصيانة النفس وحفظ حرمات المؤمنين والجود بالموجود وقصور الرؤية عنك وعن جميع أفعالك. وكان يقول : كيف لا تحب من لا تنفك عن بره طرفة عين وكيف تدعي محبة من لا توافقه طرفة عين.

أسباب تحصيل المروءة :

قيل لبعض الصالحين : متى يجتمع للمرء أسباب المروءة ؟ فقال : إذا اجتمعت فيه خمس خصال.

1. إذا اتقى الله , ولم يتق الناس , وتلا قوله تعالى : «الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم , فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل. فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله , والله ذو فضل عظيم ».

2. إذا صبر على النوائب , وتلا : « أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا » .

3. وإذا شكر على النعمة , وتلا : « ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فإن ربي غنيٌّ كريم » .

4. وإذا آثر بالمعروف على نفسه , وتلا : « ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة , ومن يوق شُحّ نفسه فأولئك هم المفلحون » .

5. وإذا بذل الشفاعة , وتلا : « ومن يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيبٌ منها » .

قال سلام بن عبد الله الباهلي الإشبيلي : أسباب المروءة مرتبطة بشرف النفس , وعلو الهمة , فإن من علت همته زادت مروءته , وعلا قدره .

وقال العتبي : لا تتم المروءة إلا بخمس : أن يكون عالما , صادقا , عاقلا لبيبا , ذا بيان , مستغنيا عن الناس .

وتتم المروءة كذلك بصحبة الأخيار , ومخاللة الأبرار , فالمرء على دين خليله , وكلٌّ مع من أحب . وقد قيل : من قرب السفلة و أطرح ذوي الأحساب و المروءات استحق الخذلان .

تمام المروءة أن نستحي من الله حق الحياء :

تمام المروءة أن يستحي العبد من الله عز وجل , أن لا يراه حيث نهاه و أن لا يفتقده حيث أمره . فالاستحياء من المولى جل وعلا أرفع المنازل , وأجل المراتب التي ترتقي بالعبد إلى درجة الإحسان .

روى الحاكم في المستدرك على الصحيحين عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « استحيوا من الله حق الحياء ! فقلنا يا نبي الله : إنا لنستحيي. قال ليس ذلك ولكن من استحيا من الله حق الحياء فليحفظ الرأس وما حوى , والبطن وما وعى , وليذكر الموت والبلى , ومن أراد الآخرة ترك زينة الدنيا , ومن فعل ذلك فقد استحيا من الله حق الحياء ». قال الحاكم : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.

يقول الحارث المحاسبي رحمه الله : ” يا نفس فادعيه وأنت منه مستحيية , فقد طال قلة حيائك منه . ويحك .. تستحين من الخلق أن يروا فيك ما يعيبونك به , ولا تستحي ممن يطلع على كثرة ما عندك من ذنوب وسوء ضميرك . ويحك .. إذا حملت وعاء من أوعية الشر , فإنك ترتعدين خوفا أن يبدو للناس شيء مما فيه من الشر .. فمتى تصلحي ما بينك وبين الله ؟ أنت كالعبد السوء الذي لا يستحي من مولاه , ولا يرجع عن مساوئه , ولا يعرف إحسانه إليه إلا عند الحساب والعقاب . هيهات .. اذكري الموت وما بعد الموت.

ما ظنك بمن يكره أن يطلع الناس منه على ما يكره الله , ولا يستحي أن يطلع الله منه على ما يكره … فادعي على تفقد لطف مولاك لعلك أن تستحين منه , فإن لطفه باطن وظاهر , مع إساءة منك باطنة وظاهرة , فهو يديم إحسانه بأضعاف الإحسان مع دوامك على الإساءة بصنوف من الإساءة … ويلك .. والويل لك , ما أسوأ حالك ! ! مهلكة وأنت تعلمين .. مع ذلك في السرور تتقلبـين وبالله لا تبالين .. من خلقه تستحين ومنه لا تستحين ! ”

باقة من رياضها :

قال ابن حمديس :

أدم المروءة والوفاء ولا يكن

** جُعلُ الديانة منك غير متين

والعزُّ أبقـى ما تـراه لمكرم

** إكرامه لمـروءة أو ديـن

وقال أبو تمام :

عش للمروءة والفتوة والعلى

** ومحـاسن الآداب والأخلاق

وقال الحصين بن المنذر الرقاشي :

إن المروءة ليس يدركهـا امرؤٌ

** ورث المكارم عن أب فأضاعها

أمرته نفسه بالدناءة والخـنـا

** ونهته عن سُبُل العلا فأطـاعها

فإذا أصاب من المكارم خُلـة

** يبني الكريم بها المكـارم بـاعها

وقال أحمد شوقي :

تسامح المرء معنى من مروءتـه

** بل المروءة في أسمى معانيهـا

تخلّق الصفح تسعد في الحياة به

** فالنفس يسعدها خلقٌ ويشقيها

وقال حافظ إبراهيم :

إني لتطربُني الخـلال كريمـة

** طرب الغريب بأوبة وتلاقي

وتهزُّني ذكرى المروءة والنّدى

** بين الشمائل هزّة المشتـاق

فإذا رزقت خليقة محمـودة

** فقد اصطفـاك مُقسّمُ الأرزاق

وأخيرا ..

فإن المروءة خَلَّةٌ كريمة وخَصْلَةٌ شريفة تحمل الإنسان على التمسك بالفضائل , والنفور من الرذائل , والتحلي بمحاسن الأخلاق . فهي صدقٌ في اللسان ، واحتمال للعثرات ، وبذل للمعروف ، وكف للأذى ، وصيانة للنفس ، وطلاقة للوجه .

المراجع :

1. شعب الإيمان : البيهقي .

2. مدارج السالكين : ابن القيم الجوزية .

3. أدب الدنيا والدين : الماوردي .

4. الأدب الكبير والأدب الصغير : ابن المقفع .

5. حلية الأولياء وطبقات الأصفياء : أبو نُعيم الأصفهاني .

6. وصايا جامعة : عبد البديع صقر .