تقديم
التخلق وتعلم الأخلاق الطيبة من الأشياء المحبوبة المرغوبة التي تورث محبة الله واقتفاء أثر رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما أن الأخلاق الطيبة عند المؤمنين والناس أجمعين، من الأشياء التي تورث المحبة والتآخي والتعارف والتواصل.
الأخلاق الطيبة دليل كمال الإيمان، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا وألطفهم بأهله” (رواه الترمذي).
المروءة والأخلاق نجدها عند المؤمنين وغير المؤمنين، بسبب طبيعة البيئة والأسرة التي نشأ فيها كل فرد، واختلاف طبائع الناس ومعادنهم، إلا أن الأخلاق السيئة تتناقض ومعاني التربية الإيمانية الإحسانية، وتشوش عليها، بل إن الأخلاق السيئة لا تنسجم وروح التدين، عل اعتبار أن الدين وحسن الخلق شيء واحد في اعتبار الشرع، فكيف نتخلص من الأخلاق السيئة، والأفكار السيئة، والمعاملة السيئة، والألفاظ السيئة، التي ورثناه بسبب البيئة أو الرفقة السيئة؟
كيف نرقى إلى محاسن الأخلاق سواء في علاقتنا بالله وبرسول الله صلى الله عليه وسلم، أو بالأهل وذوي الرحم، أو بالمؤمنين، أو الفرقاء السياسيين، أو الأغيار من غير المسلمين؟
تعريف وتحديد
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “كرم الرجل دينه، ومروءته عقله، وحسبه خلقه” (رواه الإمام أحمد).
كرم المرء دينه؛ أي به يشرف ويكرم ظاهرًا وباطنًا، قولاً وفعلاً. والكرم كثرة الخير والمنفعة، لا ما في العرف من الإنفاق والبذل سرفًا وفخرًا.
ومروءته عقله؛ لأن به يتميز عن الحيوانات ويعقل نفسه عن كل خلق دنيء ويكفها عن شهواتها الردية وطباعها الدنية ويؤدي إلى كل ذي حق حقه من الحق والخلق.
وقيل: المروءة إنصاف من دونك والسمو إلى من فوقك والجزاء عما أوتي إليك من خير أو شرّ.
قال العلائي رحمه الله تعالى: حاصل المروءة راجعة إلى مكارم الأخلاق، لكنها إذا كانت غريزة تسمى مروءة.
قال الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى: المروءة هي الإنسانية.
وقال الأحنف رحمه الله: المروءة العفة والحرفة. وقال آخر: المروءة أن لا تفعل في السر أمرا تستحي أن تفعله جهرا.
وحسبه خلقه؛ أي ليس شرفه بشرف آبائه، بل بمحاسن أخلاقه.
قال الأزهري: أراد أن الحسب يحصل للرجل بكرم أخلاقه، وإن لم يكن له نسب، وإذا كان حسيب الآباء فهو أكرم له.
توجيه وتصويب
المروءة والأخلاق فيها ما هو وهبي راجع لطبيعة معادن الناس واختلاف طبائعهم، فتجد الواحد من الناس صادقا، يشهد بالحق، ويعترف بالخطأ، ويحب الخير للناس، ويدافع عن المظلوم، وهذا شيء يجب تقديره والبناء عليه من أجل تقريب المسافات والأخذ بيد هؤلاء الناس حتى يحبوا الله ورسوله، فهم الأقرب للدعوة من غيرهم.
وفيها ما هو كسبي يحصل بالتربية الإيمانية الإحسانية؛ حيث صبر النفس مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، وحيث الإقبال على ذكر الله والعكوف على كتاب الله قراءة وحفظا وتخلقا، وحيث الأسرة هي أصل المروءة والأخلاق ومنبعهما.
وعندما نقول الأسرة نجد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله يؤكد في رسالة “المروءة والخلق” على ضرورة اختيار الزوج الذي اختاره لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.
روى الإمام أحمد رحمه الله عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “تنكح المرأة على إحدى خصال ثلاثة: تنكح المرأة على مالها، وتنكح على جمالها، وتنكح المرأة على دينها، فخذ ذات الدين والخلق تربت يمينك!” (أخرجه أحمد (11782) وأبو يعلى (1012) وابن حبان (4037)). وفي الرجل قال عليه الصلاة والسلام: “إذا جاءكم من ترضون دينه وخلقه فزوجوه” (رواه الترمذي).
الزوج الجامع بين الدين والخلق هو مفتاح الاستقرار الأسرى، وهو أيضا مفتاح تربية الأطفال تربية إيمانية متوازنة تجمع بين الدين وحسن الخلق، بين روح وجوهر الالتزام والتدين وشكله ومظاهره من لباس وسواك، لأن مظاهر التدين بدون أخلاق أو مع سوء الأخلاق، تنعكس سلبا على الأسرة حيث تهان الأم ويعنف الأطفال.
رسول الله صلى الله عليه وسلم أوصى بالدين والخلق وكأنه صلى الله عليه وسلم يقول لنا إن الأم التي تربي أجيال المستقبل والأب المسؤول عن هذه الناشئة، يجب ألا يقتصرا على مظاهر التدين من صلاة وصيام وقراءة القرآن، بل يجب أن يتجلى الدين في سلوكاتهما وأفعالهما؛ كرما ورحمة وتسامحا ورفقا وصبرا وكظما للغيظ وحبا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم وقضاء لحوائج الناس ودفاعا عن المستضعفين.
التربية على الكرم بما هو نفع للناس ومحبة الخير للجميع، وربط العقل بالمروءة حيث يسمع الإنسان لصوت الفطرة، صوت الخير والحق والعدل، وربط الحسب والنسب بحسن الخلق، يتم داخل الأسرة، فهي أصل الأخلاق ومنبع المروءة.
الأسرة الطينية هي الأولى بمهمة التربية الايمانية الإحسانية المتوازنة والأحق بها في مستقبل الأمة، وقبل ذلك وفي مرحلة انتقالية، هناك الأسرة الإيمانية حيث يتعاون المؤمنون على تعلم مكارم الأخلاق والتحلي بها. يقول الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله رحمة واسعة دائمة في رسالة “المروءة والخلق”: “دين بلا كرم هذا لا يصح. عقل بلا مروءة، هذا لا يتفق. دعوى الحسب دون خلق لا تقبل”.
ترتيب وتصنيف
ما هي إذن طبيعة الأخلاق التي يجب أن نتعلمها داخل الأسرة سواء الطينية أو الإيمانية؟
يمكن أن تصنف الأخلاق التي ينبغي التحلي بها إلى ستة أصناف:
– أخلاق مع الله؛ من خلال محبته وتعظيمه والإقبال عليه والعكوف على كتابه والإكثار من ذكره.
– أخلاق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ من خلال الإكثار من الصلاة عليه، ومحبته، واقتفاء أثره، وتبليغ دعوته وإحياء سنته.
– أخلاق مع الأهل وذوي الرحم؛ بالمعاملة الحسنة والبذل والصبر والخدمة وصلة الرحم، وخاصة الوالدين والزوجة.
– أخلاق مع المؤمنين؛ من خلال المحبة والتعظيم، وحسن الظن والتغافل، والتفقد والتزاور، والبذل والدعاء في ظهر الغيب.
– أخلاق مع الأغيار من غير المسلمين؛ من خلال التواصل والتعارف، والتعاون على نصرة المستضعفين والمظلومين، والفقراء والمساكين في كل مكان.
– أخلاق مع الحيوانات؛ بالرحمة والإحسان في المعاملة، فهي مخلوقات الله، لا نظلمها ولا نقسو عليها.
فكيف السبيل للتخلق بهذه الأخلاق الطيبة؟
لعل من المفاتيح المساعدة على التحلي بالأخلاق الطيبة، والتخلي عن الأخلاق السيئة نجد:
– الدعاء: بماهو افتقار، وخضوع وتجرد، ويقين تام في عطاء الله، فهو وحده سبحانه الموفق لمحاسن الأخلاق.
– التخلق: بما هو مجاهدة للنفس، ومخالفتها، وبذل الجهد والوسع من أجل التخلي عن الأخلاق السيئة، والتحلي بالأخلاق الطيبة.
– التأسي والاقتداء: بما هو صحبة ومحبة واتباع لرسول الله صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، فالصاحب ساحب، وبالمحبة والتعظيم ينتقل ما في قلوب وعقول وأفعال الصالحين من خير، إلى قلوبنا وعقولنا وأفعالنا.
وعموما يمكن القول إن هناك أخلاق مرتبطة بالبعد التربوي الإيماني الإحساني، حيث محبة الله ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والإحسان في معاملة الزوج والوالدين والخلق أجمعين، وأخلاق مرتبطة بالبعد العدلي التدافعي حيث حب المساكين والدفاع عن المستضعفين ونصرة المظلومين، وما الوثيقة السياسية للجماعة اليوم إلا تعبير عملي عن هذه الأخلاق.
تأكيد وتحفيز
ما هو أثر التحلي بمكارم الأخلاق على السلوك الفردي والجماعي؟
على المستوى الفردي
إن التحلي بمكارم الأخلاق يورث:
– محبة الله. روى الطبراني عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: أي الناس أحب إلى الله؟ وأي الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله تعالى سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة أو تقضي عنه دينا، أو تطرد عنه جوعا، ولأن أمشي مع أخ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد – يعني مسجد المدينة – شهرا، ومن كف غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجته حتى يتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام.
– القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم القيامة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أقربكم مني منزلة غدا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا” (رواه الترمذي).
– مزيد من الإيمان، بل كمال الإيمان. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم أخلاقا وألطفهم بأهله” (رواه الترمذي).
– بلوغ درجة الصائم القائم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة الصائم القائم” (رواه أبو داود).
– تفريج كرب الآخرة وضمان العون والستر واليسر والمدد من الله عز وجل. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا، نفس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومن يسّر على معسر، يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر مؤمنا ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما، سهل الله له به طريقا إلى الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم، إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده، ومن بطّأ به عمله، لم يسرع به نسبه” (رواه مسلم).
على المستوى الجماعي
– تحقق معاني الرحمة بين المؤمنين؛ حيث المحبة والصفاء والوفاء والبذل والعطاء والتفاني في خدمة دين الله، فيصبحون كالجسد الواحد.
– سريان معاني الحب في الله بين المؤمنين، حيث حسن الظن والتزاور والتباذل في الله، والتغافل عن العثرات والعفو عن الزلات والحفاظ على قلوب المؤمنين ورعايتها.
– التواصل والتعارف والتعاون مع فئات واسعة من الناس، وبناء علاقات تقوم على الاحترام والتقدير المتبادل.
– الوزن الأخلاقي أو القوة الأخلاقية؛ حيث حب المساكين والدفاع عن المستضعفين والاصطفاف إلى جانب المقهورين، وسيلة وأداة تدفع الناس لمحبة الله ومحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم والدخول في دين الله أفواجا.
خلاصات
– الدين وحسن الخلق شيء واحد في اعتبار الشرع، بل إن الخلق عماد ثان في شخصية المؤمن وبه يكمل إيمانه.
– المروءة عقل وإنسانية، وهي مفتاح التواصل والتعارف، والتعاون مع فئات واسعة من الناس.
– الأسرة هي أصل ومنبع التربية على المروءة والأخلاق الطيبة، والزوج الجامع بين الدين والخلق هو مفتاح الاستقرار الأسرى، حيث المودة والرحمة والسكينة والطمأنينة.
– المروءة والأخلاق الطيبة هي مفتاح السلوك إلى الله بالنسبة للفرد، ومفتاح التآخي والتراحم والتواصل والتعاون والانتشار والتوسع والنصر والتمكين بالنسبة للجماعة.
– الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله كان نموذجا في المروءة والأخلاق الطيبة سواء مع والدته وزوجه، أو أبنائه وأحفاده، أو مع المؤمنين، أو مع المخالفين، أو مع الأغيار من غير المسلمين.
إشارات
– رمضان مدرسة إيمانية خالدة للتحلي بالأخلاق الحسنة والتخلي عن الأخلاق السيئة، وفرصة سنوية للتدرب على صوم اللسان عن الألفاظ السيئة، وصوم العقل عن الأفكار السيئة، وصوم القلب عن النيات السيئة، ومن صام ثلاثين يوما عن الأخلاق السيئة بإمكانه المداومة على هذا الحال العام كله. وكذلك الشأن بالنسبة للرباطات والاعتكافات وكل مجالس العلم والإيمان، هي فرص ومناسبات لتعلم مكارم الأخلاق والمداومة عليها خارج المجالس، وفي معاملتنا مع أهلنا والناس أجمعين.
– أهل غزة العزة أعطوا المثال العملي للمروءة وحسن الخلق، سواء في علاقتهم بالله حيث اليقين التام في نصره وتمكينه وتفويض الأمر إليه، مع سنة الأخذ بالأسباب، ومع الأهل حيث التضامن والتعاون والوفاء، ومع المؤمنين حيث الاحترام والتقدير والمحبة والصفاء، ومع الكفار حيث الشدة والشجاعة والمبادرة والصبر والثبات…
ومحنة أهل غزة كشفت عن طبيعة المروءة والأخلاق التي يتحلى بها حكام الغرب، وبعض حكام العرب على حد سواء، حيث النفاق والمكر والعداء الدفين للإسلام والمسلمين.
محنة غزة كشفت أيضا أن الشعوب العربية والغربية لديها مروءة، ونصيب من الأخلاق، جعلها تخرج في مسيرات ضخمة للتنديد بجرائم الاحتلال، يجب تقديرها والاستثمار فيها خدمة لدعوة الله.
– المروءة والأخلاق شعبة من شعب خصلة السمت الحسن، وهي الخصلة الثامنة من الخصال العشر، وكأنها ثمرة وتجلّ لما يسبقها من خصال؛ الصحبة والجماعة والذكر والصدق…
– السمت الحسن اقتفاء تام لأثر رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل أحواله ظاهرها وباطنها، وليس فقط في مظاهر التدين من لباس وأكل، ولكن أيضا في أخلاقه مع أهله، وجيرانه، والناس أجمعين.
– خص الإمام المرشد رحمه الله تعالى المروءة والأخلاق برسالة موجهة لما ينبغي أن تكون عليه أخلاق المؤمنين ومروءتهم، ومذكرة بمكانة الأخلاق وأهميتها في سلوك الفرد والجماعة، ونحن في حاجة ماسة للرجوع إليها وقراءتها والعمل بما جاء فيها.