تعتبر المسألة الشبابية من المواضيع المهمة التي تفرض على كل متصدر لقضايا الشأن العام أن يتناولها بالعرض والتحليل والمعالجة والاقتراح. وذلك لأن موضوعها يتناول فئة من المجتمع هي أساس كل تغيير، ومدخل كل إصلاح، ونظرا لهذه الأهمية نجد جماعة العدل والإحسان تولي لها عناية خاصة، وتضعها ضمن اهتماماتها الآنية، والمستعجلة، وهذا الاهتمام يرجع في الأصل إلى عناية الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله بفئة الشباب تربية وتوجيها وتكوينا وإعدادا لتحمل مسؤولية بناء مجتمع العمران الأخوي.
ورغم تعدد وتنوع مجالات اهتمام جماعة العدل والإحسان بفئة الشباب فإن هذه المجالات يجمعها مشروع متكامل شعاره “العدل والإحسان”، وحسبي في هذه العجالة أن أقوم بمقاربة هذا الموضوع من خلال محاولة تتبع ما جاء في “الوثيقة السياسية” الصادرة عن الدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان يوم الثلاثاء 6 فبراير 2024، والتي تحمل رؤية الجماعة للعديد من القضايا الراهنة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والمجتمعية.
فقد تناولت “الوثيقة السياسية” موضوع الشباب وخصصت له حيزا مهما، محاولة رصد أهم التعثرات التي يعرفها هذا القطاع ومقترحة حلولا لتجاوزها، وبطبيعة الحال فهذه الرؤية للمسألة الشبابية موجهة للرأي العام والفاعلين السياسيين، وهي قراءة جادة للسياقات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية التربوية التي تتجاذب هذه الفئة من المجتمع المغربي، مع اقتراح مبادرات لتجاوز مواطن الخلل، وتحقيق تطلعات الشباب وآماله.
إن من يتناول موضوع المسألة الشبابية أشبه ما يكون بجراح يجري عملية جراحية مفتوحة على القلب، فهو مصدر الحركة والنبض، وأي خطأ في التوصيف والعلاج سيؤدي إلى الموت، والشباب يستحقون العناية والاهتمام باعتبارهم الطاقة النابضة بالحياة، والفئة النشيطة، والمطواعة لكل تغيير، والمستعدة للحركة في جميع الاتجاهات، فهي قد تكون عامل قوة ونهضة للمجتمع كما قد تكون مصدر الخراب إن أهملت السياسات الشبابية العناية بها، ولم تعطها حقها في التكوين والتأهيل والإدماج.
فكيف تعاملت “الوثيقة السياسية” مع هذا الموضوع المهم؟ وما هي أهم اقتراحاتها لإصلاح ما يمكن إصلاحه؟
إن “الوثيقة السياسية” تعتبر اقتراحاتها بخصوص المسألة الشبابية يدخل في إطار مقاربة شاملة للتغيير والإصلاح، على اعتبار أن الاقتراحات كلها تشكل نسقا متكاملا يشد بعضه بعضا، مؤكدة أن بداية كل تغيير وإصلاح يتوقف وجودا وعدما على توفر إرادة سياسية جماعية تضع نصب عينيها مصلحة المغرب والمغاربة.
وتبرز عناية الوثيقة بهذه الفئة الشبابية بأن اعتبرتها “فئة استراتيجية” وأنها “عماد الوطن” حيث لا يمكن تحقيق أي نهضة علمية واقتصادية وحضارية في وطن يعيش شبابه الإهمال والتهميش والجهل والتفقير، لذلك دعت إلى “الاهتمام بفئة الشباب وتأهيلها عبر برامج مندمجة تجمع بين بناء الجسد والعناية بالروح، وتحصينها من الاستلاب الثقافي” (مقترح رقم 25)، وقد تناولت الوثيقة هذا الموضوع من خلال رصد أهم المشاكل التي يعرفها الشباب المغربي، لتحدد مجموعة من المنطلقات لتنشئة الشباب وتأهيلهم وإدماجهم، لتختم بعرض اقتراحاتها لإصلاح ما يمكن إصلاحه وإنقاذ الشباب من التيه والفقر والمجهول.
وانطلاقا من لغة الأرقام يشكل الشباب 34٪ من مجموع السكان، وهو رقم يشكل تحديا يجب مواجهته بروح وطنية صادقة، فهذه الفئة في أمس الحاجة إلى التأهيل والتوجيه والتعليم والصحة والتشغيل والإدماج، لكن وللأسف الشديد “فالواقع الذي يعيشه الشباب المغربي يعكس حجم الإهمال والتهميش الذي يطاله، وما يترتب على ذلك من انتشار لليأس وفقدان الثقة” (ص159)، وهذا الإهمال يدفع الشباب إلى الغرق في أوحال الانحراف والجريمة والمخدرات والدعارة أو “الهجرة في قوارب الموت بحثا عن الحرية والعيش الكريم”.
وحسب الوثيقة يمكن تلخيص هذه الاختلالات الناتجة عن توصيف أزمة الشباب في الهدر المدرسي والجامعي وقلة الشباب الذين يرتادون الفضاءات العمومية وعدم الاستفادة من فرص التنشيط الثقافي والرياضي والترفيهي والنسب المتدنية لانخراط الشباب في الجمعيات المدنية والتنظيمات السياسية؛ حيث لا تتعدى 1٪، بالإضافة إلى عدم مشاركة الشباب في تدبير الحياة العامة اقتراحا وتسييرا وتنفيذا، ناهيك عن ارتفاع نسبة البطالة في أوساط الشباب بحيث أن 4,5 مليون شاب مغربي ممن تتراوح سنهم بين 15 و 34 سنة غير نشيطين، فهم خارج دائرة الدراسة والتدريب والعمل و28٪ من خريجي الجامعات يعانون من البطالة، زد على هذه الاختلالات التي رصدتها الوثيقة زعزعة الأمن الروحي للشباب بفقد ارتباطه بقيم المجتمع وهويته وأخلاقه.
وبإلقاء نظرة سريعة على واقع الشباب يمكن تجميع أهم مشاكله في ما يلي: ضعف التكوين والبطالة والتهميش والشعور باليأس والسقوط في الجريمة وتعاطي المخدرات وفقدان الهوية، وباختصار يعترض الشباب تحديان الأول تربوي معرفي والثاني اقتصادي اجتماعي، وقد تمكنت “الوثيقة السياسية” من مقاربة هذه التحديات بعد توصيف مظاهر الأزمة، فبسطت نظرتها لمقاربة الحلول العملية لتجاوز عوائق مشاركة الشباب في بناء الوطن، وحددت قواعد خمسة كمنطلقات ضرورية تمت ترجمتها إلى مجالات ومقترحات للإصلاح، قصد تنشئة الشباب وتأهيله.
وهكذا، دعت الوثيقة إلى ضرورة اعتماد رؤية متكاملة ومنسجمة وواقعية عند إعداد البرامج الشبابية، وتجنب المقاربات الجزئية والانتقائية، كما أكدت على الصبغة الاستعجالية عند معالجة وتدبير هذا الملف الشبابي الذي لا يقبل التأجيل والتأخير.
كما ركزت على ضرورة إشراك هذه الفئة الشبابية وإدماجها في الاهتمامات الوطنية ومشاريعها وتحميلها المسؤولية بثقة تامة فيها، وهذا ما عبرت عنه الوثيقة بقولها: “الحرص على توفير كل شروط انخراطه السياسي والاجتماعي والمدني” (ص 161)، كما اقترحت الوثيقة تمتيع الشباب “بامتيازات تفضيلية في الصحة والتعليم والتنقل والترفيه” مع الاهتمام أكثر بالفئات الأكثر تضررا كفئة الشابات والشباب القاطنين بالعالم القروي. ويمكن تلخيص هذه المنطلقات أو القواعد في اعتماد مقاربة إصلاحية شاملة ومستعجلة وتشاركية مع نهج سياسة تفضيلية لصالح الشباب الأكثر تضررا.
وترجمة لهذه المنطلقات الضرورية قامت الوثيقة بتحديد مجالات الإصلاح في التعليم، والتأهيل المهني، والعمل السياسي والمدني، والمجال الرياضي والثقافي والفني والتنشيطي، ليختم بالمجال الإعلامي السيبرنيتي.
هذا، مع العناية كذلك بمؤسسات التنشئة الاجتماعية من المدرسة والأسرة والأحزاب والجمعيات لما لها من أهمية بالغة في تربية الشباب وصياغة سلوكه وأفكاره، وهذا يتجلى في الاقتراحات التي سطرتها الوثيقة من قبيل “تعزيز الديمقراطية الداخلية وتشجيع الشباب والنساء على المشاركة في مراكز القرار داخل الأحزاب” (مقترح 159)، وكذا “تجديد الأطر النقابية بفتح المجال أمام اليد العاملة الشابة لتحمل المسؤولية” (مقترح 168).
وقد خلصت “الوثيقة السياسية” إلى مقترحات تشكل مدخلا مهما للنهوض بهذه الفئة الشبابية لتضطلع بدورها الريادي في النهوض بالوطن في جميع المجالات، وهي مقترحات عملية بلغ عددها تسعة عشر مقترحا (من 607 إلى 625) وكلها تروم إعادة الاعتبار لهذه الفئة والعناية بها تربية وتنشيطا وتكوينا وتأهيلا في أفق إدماجها؛ اقتصاديا في سوق الشغل، واجتماعيا ببناء علاقات متوازنة ومستقرة في أحضان أسرة مستقرة، وسياسيا بالانخراط في تدبير الشأن العام بكل حرية وتلقائية ومسؤولية. وبإلقاء نظرة سريعة على المقترحات التسعة عشر، يمكن القول بأنها تدعو إلى محاربة الإقصاء السوسيوثقافي والسوسيواقتصادي لهذه الفئة عبر التأسيس لسياسة شبابية مندمجة تروم احتضان الشباب وتشجيع مواهبه في جميع المجالات، مع توفير القوانين والبرامج والفضاءات الكفيلة للنهوض بالشباب ليبدع ويشارك ويقترح.
وتعتبر الوثيقة مسألة إدماج الشباب من الضروريات التي تتطلب سياسات شبابية مستعجلة، وفتح أوراش وطنية في قطاعات مختلفة تتقاطع في استهدافها لهذه الفئة الشبابية، مع تجاوز العوائق التي تحول دون تحقيق هذا الهدف الإصلاحي الكبير ومن أهمها الانغلاق السياسي الذي يهمش هذه الطاقات الشبابية ويحرمها من الحق في المشاركة والتعبير، ويدفعها للاغتراب عن الوطن ثقافيا وقيميا ويرغمها على الارتماء في أحضان هويات عالمية تناقض هويتنا الوطنية والدينية، كما أن الفشل في إدماج الشباب اقتصاديا يكرس التفقير والجريمة والفساد الأخلاقي والهجرة. وكل هذه السياسات الفاشلة تفرمل عجلة التنمية لفائدة الهشاشة والتفقير والرداءة والانحراف.
إن غاية الشباب هي المطالبة بالعيش الكريم الذي يحفظ له كرامته وإنسانيته وحقوقه الآدمية، وبدون تحقيق هذه الكرامة للإنسان المغربي ستظل قاطرة التنمية خارج السكة، وستبقى الأمنيات الشبابية بعيدة التحقق وصعبة المنال.
وإلى جانب التحديات المعرفية والاقتصادية التي تواجه الشباب يبرز التحدي الروحي والأخلاقي والقيمي، وخصوصا بعدما عرفه العالم من تحولات على مستوى القيم والأخلاق وزحف القيم المادية والإلحادية والتمكين لثقافة الميوعة والانحلال من طرف الغرب وأذنابه، كل هذا يجعل الشباب في فوهة بركان المسخ الدوابي لماهية الإنسان وغايته، ولمواجهة هذه التحديات القيمية دعت “الوثيقة السياسية” إلى التركيز على تربية الإنسان تربية متوازنة وربطه بخالقه وتهذيب علاقته بالكون وذلك وفق مجموعة مترابطة من العلاقات؛ الأولى تربط الإنسان بخالقه (علاقة عبودية)، والثانية ترشد علاقة الإنسان بالبيئة الكونية (علاقة تسخير)، والثالثة ترسخ مبدأ فعل الخير والتنمية والبذل (علاقة عمران). إذن، فمقاربة موضوع الشباب يتطلب رؤية شاملة تستحضر الأبعاد الروحية والمعنوية إلى جانب الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والتنظيمية، وهي نظرة ترسخ الجوانب الروحية والقيم الإسلامية في تأسيس مفهوم المواطنة في أفق بناء مجتمع العمران الأخوي.
وفي الأخير تجدر الإشارة إلى أن الوطن في حاجة لشبابه، وعلى الدولة بما لها من إمكانيات أن ترسم سياسات واضحة لإقرار العدالة الاجتماعية والحد من الفوارق الاجتماعية والمجالية، وتوفر ضرورات العيش الكريم لشباب الوطن مع نشر ثقافة الإشراك والمسؤولية. كما يجب ترسيخ مفهوم المواطنة الحقة التي يستشعر فيها الشباب معاني الكرامة والحرية والتقدير بدل التهميش والاحتقار.