استهلال
كثيرا ما تتداول الألسنة في جدالاتها وسجالاتها كلمة المسؤولية ومشتقاتها وربيباتها ممن يتقاسمن معها معناها أو تدور في فلكها شرحا أو تقريبا، وكثيرا ما يُبحث أثناء النوازل والحوادث عن المسؤول وتقدير المسؤولية ونوعها، أو توجه الدعوات إلى أفراد ومؤسسات قصد تحمل المسؤولية التاريخية أو الأخلاقية، أو ينعت شخص أو جماعة باللامسؤول… كما تتعدد تعريفاتها بتعدد مجالات استعمالها وباختلاف البواعث وزوايا النظر، لكنها لا تبرح دائرة المشترك وتتقاطع المضمون، ومن بين أهم المعاني التي تحملها كلمة المسؤولية نجد:
1- المسؤولية دين من الدين
من علامات تخلف الأفراد والمجتمعات التهرب من المسؤولية، وتحميل الآخر جريرة الواقع والتاريخ والنأي بالنفس عن المؤاخذة والمساءلة، ولك أن تقلب النظر في ربوع الدول التي توجد في ذيل الحضارة ترى حاكما ورئيسا فوق القوانين لا يؤاخذ بما يفعل، وحكومة ترجع الفشل لأسباب خارج نطاقها فتجعل من الطبيعة وغيرها مشجبا للتهرب من المسؤولية، وقِس على ذالك أحزابا ونقابات و… وتَفًقَّدْ الأسر تجدها قد استقالت من مهامها، وذاك موظف مهمل لمسؤوليته، وهؤلاء الحرفيون ركبوا مركب التسويف والتخريف وقد تحرروا من كل مسؤولية، وهلم جرا.
والكل ساهم في مؤامرة الصمت التي تهد صروح بناء المجتمع الصالح، وتفت حلقات عقده لتصيره ركاما بلا معنى، وجسدا بلا روح.فعن النبى صلى الله عليه وسلم أنه قال: “مثل القائم على حدود الله، والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها، فكان الذين فى أسفلها إذا استقوا من الماء مَرُّوا على من فوقهم فآذوهم، فقالوا: لو أنا خَرَقْنا فى نصيبنا خرقاَ ولم نؤذِ مَنْ فوقَنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاَ، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعاً” 1 .
في هذا الحديث النبوي إشراك لأفراد المجتمع كلهم في المسؤولية الجماعية عن سفينة الحياة ليتحمل الجميع مسؤولية التجديف حتى الرسو على بر الأمان وإلا هلك الجميع. فلا يقولن قائل مالي والشأن العام؟ ومالي والأخلاق العامة؟ ومالي إلا خويصة نفسي. عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته؛ الإمام راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله وهو مسؤولٌ عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤولٌ عن رعيته، وكلكم راعٍ ومسؤولٌ عن رعيته” 2 .
في هذا الحديث أيضا، جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسؤولية مشتركة بين الجميع على اختلاف مراتبهم ومواقعهم في السُّلم الاجتماعي، أو سلم السلطة، أو العمل. ولعل من لطائف هذا الحديث الشريف هذا الترتيب على اعتبار مؤسسة الحكم المسؤولة عن صلاح باقي مكونات المجتمع، فهي بمثابة الرأس من الجسد، ثم نواة الأسرة، ثم الأعمال والحرف، هذه التراتبية على هذا المنوال تفيدنا في تقسيم مراتب المسؤولية فجعل الشرع أعظمها مسؤولية “الإمام”، والباقي تبعا لها. إنه مخطط إصلاح.
2- المسؤولية أمانة
إن المسؤولية حِمل ثقيل منبثق عن الأمانة الكبرى التي حملها الإنسان في هذا الوجود إنا عرضنا الأمانة.. و ما باقي المسؤوليات إلا فرع عن أصل، وبالتالي تكون المسؤولية أمانة تردف معها كل معاني الأمانة من الحفظ والمحافظة والأداء على الوجه الأكمل، إنها حمل ثقيل وشعور بالواجب يوجه تفكير الشخص كما يوجه سلوكه وأقواله ومواقفه) 3 .
3- المسؤولية قدرة وإنجاز
بما أن المسؤولية تحمُّل فهي بالتالي فعل وقدرة على أداء الأمانة والوفاء بالالتزامات الفردية والجماعية، بمعايير مضبوطة وبمؤشرات معروفة ترتبط بقدر الإنجاز وقوته في وقت محدد بمخرجات معروفة سلفا وبإتقان.إنها القدرة على الالتزام بالتكاليف والتعهدات، والإنجاز للمهام بشروط معلومة.
4- المسؤولية تخطيط وإحسان
من علامات تضييع المسؤولية التسويف والارتجال والعجز والكسل والتهاون، وحسن القيام بها نقيض ذلك كله، إنها تخطيط وبرمجة متابعة وتقويم حتى كسب الرهان. فالله عز وجل كتب الإتقان والإحسان في كل الأعمال 4 ، ورتب على الإحسان في الإنجاز إحسانا في الجزاء هل جزاء الإحسان إلا الإحسان (الرحمن 60) وسوء التخطيط أو انعدامه أو عدم إيلائه الاهتمام اللازم من تحديد البدايات ووضوح الأهداف ومؤشرات الانجاز في غلاف زمني محدد بتكلفة بشرية ومادية محددة، قد يقود للفشل.
طوبى…
في زمن ومجتمع أَلِفا التهاون واعتادا الخمول يصبح تحمل المسؤولية، وحسن القيام لها و بها معيارا لإبراز معدن الرجال أولي العزم والقوة، ممن يرومون تحصيل المعالي، ذوي الهمم التي تطاول السماء، فيدعون الله عز وجل واجعلنا للمتقين إماما واجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم (يوسف 55)، فيُجري الله على أيديهم الخير العميم، على المجتمع الصغير والكبير في حياتهم وبعد مماتهم صدقة جارية، لأن العبد يستحضر الأمانة الملقاة على عاتقه فيستجيب لأمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيخلص في عمله ومسؤولياته ويثبت عليها، كما يكسبه ذاك ثقة الناس به، واعتزازهم به، ويستشعر لذة في القيام بالمسؤولية وسعادة في تحقيق الإنجازات. أضف إلى ذلك تقوية لبنات بناء الدولة فتثبت رغم المحن والصعوبات التي قد تعصف بها، وبالتالي يقدم المرء قيمة مضافة تحسب له، ومن لم يزد على هذه الدنيا شيئا كان هو عليها زائدا.
ما أحوجنا اليوم إلى أن يعيد كل منا النظر في أدائه للمسؤوليات المنوطة به، ويستحث الخطى ويشحذ العزائم والهمم، ويكون لسان حالنا: “أنا لها”، فينصلح حالنا وتنصلح حياتنا.
[2] رواه البخاري ومسلم.\
[3] أحمد الفراك -المسؤولية فهم وإنجاز- www.aljamaa.net/بتاريخ الأربعاء 6 يونيو/حزيران 2007.\
[4] عن أبي يعلى شداد بن أوس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته). رواه مسلم.\