مقدمة
أكرم الله تعالى أمتنا الإسلامية بمقدسات كثيرة؛ منها النصية كالقرآن والسنة ومنها أزمنة معينة أو أمكنة مخصوصة، فالله تعالى منحها هذه القدسية لنعتز بها ونحافظ عليها وندافع عنها. ولعل أبرز مثال على من شرفه الله فحاز قدسية وبركة هو المسجد الأقصى؛ حيث حاز شرفا ورفعة وتعظيما وتفضيلا، فهو أولى القبلتين ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومنه كان معراجه، منح بركة شملت العالمين لقوله تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (الأنبياء، آية 71).
المسجد الأقصى
المسجد الأقصى هو كامل المساحة المحاطة بسور على شكل يشبه المستطيل داخل البلدة القديمة؛ يضم عدة أبنية تقارب مائتي بناء، يقع في الزاوية الجنوبية الشرقية من المدينة المسورة، يتشكل من هضبة تسمى هضبة موريا، وأعلى نقطة فيها هي قبة الصخرة المشرفة الواقعة وسط المسجد الأقصى المبارك “وحقيقة الحال أن الأقصى اسم لجميع المسجد مما دار عليه السور” 1.
سمي بالأقصى على اعتبار أنه بعيد عن مكة المكرمة، فإذا كان مسجد رسول الله صلى الله علبه وسلم قصي عن المسجد الحرام، فالمسجد الأقصى هو الأبعد وأقصى ما تشد إليه الرحال من مكة.
كان المسجد الأقصى فارغا مهملا لحوالي خمسمائة عام، لم يكن به أي شيء، وهو ثاني مسجد بني بعد الكعبة المشرفة بحوالي أربعين سنة بنص الحديث، أطوال أضلاعه غير متساوية؛ فالسور الغربي طوله 491 مترا والشرقي 462 مترا والشمالي 310 مترا أما الجنوبي فلا يتجاوز طوله 281 مترا مما يعطينا شكلا يشبه المستطيل، من أهم معالمه قبة الصخرة وقبة السلسلة والمصلى المرواني وما يسمى بجامع عمر…
البركة
البركة هي النماء والزيادة، وكثرة الخير ودوامه وثبوته هي هبة ربانية يهبها لمن يشاء من الأشخاص والأمكنة والأزمنة والأشياء والنصوص، وهي فوق الأسباب المادية التي يتخذها الإنسان، فتشمل عمره وماله وولده وصحته وزوجه… فالله تعالى تبارك اسمه وكل ما نسب إليه مبارك؛ فكلامه عز وجل مبارك وبيته مبارك ورسوله مبارك… وكل بركة في الأرض هي من عطائه ونعمه سبحانه.
1- بركة المكان: تظهر من خلال قوله تعالى: سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ (الإسراء، آية 1). وقوله تعالى: وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (الأنبياء، آية 71). وقوله تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا (آل عمران، آية 96). وأيضا قوله في شأن سيدنا موسى: فَلَمَّآ أَتَىٰهَا نُودِىَ مِن شَٰطِئِ ٱلْوَادِ ٱلْأَيْمَنِ فِى ٱلْبُقْعَةِ ٱلْمُبَٰرَكَةِ مِنَ ٱلشَّجَرَةِ (القصص، آية 30 ).
2- بركة الزمان: مثلا لما منحه الله تعالى من خصوصية لأيام بعينها مثلا ليلة القدر، لقوله تعالى: إِنَّا أَنـزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ (الدخان، آية 3)، وهي مباركة لما منحت ولما فيها من بركة، تظهر بركتها المادية من خلال قوله تعالى في سورة القدر: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ.
3- بركة الأشخاص: هناك أشخاص أعطوا البركة لهم ولمن حولهم ولأتباعهم وذرياتهم حيث قال تعالى عن نبيه نوح: قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ (هود، آية 48)، وقوله سبحانه على لسان عيسى عليه السلام: وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ (مريم، آية 31)، وكثير من الأنبياء والأولياء شملتهم البركة فنرى أسماءهم خالدة وأعمالهم متوارثة .
4- بركة الأشياء: تتجلى من خلال قوله تعالى: يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ (النور، آية 35) فهذه الآية تشير إلى بركة شجرة الزيتون وبركة الماء المنزل من السماء لقوله سبحانه: وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا (ق، آية 9).
5- بركة النص: تظهر في نصوص الكتاب والسنة؛ فبالنسبة للقرآن يقول تعالى: هَٰذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ (الأنبياء، آية 50)، وأيضا ما هو مذكور في سورة الأنعام آية 155: وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ، إضافة إلى بركة تظهر من خلال حجم القرآن الصغير ولكن في كل آية إما أمر بالمعروف أو نهي عن المنكر أو عبرة أو فكرة أو قصة تنير حياة الإنسان، وكذلك الأمر لنص السنة.
بركة المكان
وردت أرض البركة في عدة آيات قرآنية كلها تنتمي لسور مكيه هي :
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (سورة الأنبياء آية 71) .
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا (سورة الأنبياء آية 81).
وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا (سورة الأعراف آية 137).
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً (سورة سبأ آية 18).
يقول الله تعالى في سورة الإسراء آية 1 سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ فالمقصود بالذي باركنا حوله أي الذي أحطناه بالبركة.
إن الآيات جميعها تشير إلى أرض بيت المقدس كأرض مباركة منذ ما قبل الإسلام لتؤكد ذلك آية الإسراء، فالمقصود بالآيات الأربع الأولى إقليم بيت المقدس المحدد والمعروف جغرافيا، في حين أكدت آية الإسراء على مركز هذه البركة وهو المسجد الأقصى. يمكن الإشارة إلى آية أخرى تشير إلى بركة الكعبة المشرفة حيث يقول تعالى: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (سورة آل عمران آية 96)، وبهذا نفهم أن البركة موجودة في الكعبة لكنها موجودة في بيت المقدس المسجد الأقصى وتدور حوله، وهذا ما نجده عند الدكتور عبد الفتاح العويسي في نظرية دوائر البركة لبيت المقدس؛ حيث يستنتج الدكتور كخلاصة بحثية طويلة أن المسجد الأقصى هو مركز البركة، وأن البركة تتحرك في دوائر إلى أن تصل إلى جميع أنحاء العالم، وتقل تدريجيا كلما ابتعدت عن المركز الذي هو المسجد الأقصى. فالبركة لمست وغطت مركز البركة وما حوله من أقطار.
أشمل مصطلح قرآني يحمل في طياته فضائل بيت المقدس والسمات الخاصة به هو الأرض المباركة 2.
وبركة الأرض أيضا تظهر فيها لموقعها الاستراتيجي وكثرة الزروع والثمار والأنهار.
بركة المكانة
المسجد الأقصى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ انتقل إليه في رحلة معجزة أكدت مكانته لدى المسلمين، فكانت هذه الزيارة بمثابة فتح مهد لفتحه على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ورسخت مكانته في قلوب المسلمين، فهو أول قبلة صلى إليها المسلمون. عن ميمونة بنت سعد مولاة الرسول صلى الله عليه وسلم قالت: قلت يا رسول الله أفتنا في بيت المقدس، قال: “أرض المحشر والمنشر، ائتوه فصلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة في غيره”، قلت: أرأيت إن لم أستطع أن أتحمل إليه؟ قال: “فتهدي له زيتا يسرج فيه، فمن فعل ذلك فهو كمن أتاه” 3.
حباه الله بالقدسية والبركة وجعله في علاقة مباشرة مع البيت الحرام التي تجسدت في آية الإسراء وحققتها ثنائية من وإلى. إضافة إلى أنه أحب إلى المسلم من الدنيا وما فيها. قال صلى الله عليه وسلم: “ولنعم المصلى وليوشكن أن يكون للرجل مثل سبية قوسه من الأرض حيث يرى بيت المقدس خيرا له من الدنيا وما فيها” 4.
أهله ظاهرين على الحق إلى قيام الساعة حيث قال صلى الله وعليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم، قالوا: أين هم؟ قال: ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس” 5.
إليه تشد الرحال فقد روي عن رسول الله قال: “لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام والمسجد الأقصى ومسجدي هذا” 6.
أنها أرض الأنبياء؛ فقد حرص معظمهم على زيارة المسجد والسكن فيه والصلاة فيه وحتى الدفن في تربته؛ فقد سأل موسى عليه السلام حين علم بدنو أجله الله تعالى أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية حجر، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أبو هريرة: “لو كنت ثم لأريتكم قبره إلى جانب الطريق تحت الكثيب الأحمر” 7. ثم نزول سيدنا عيسى إليها من جديد. ومنها ستكون الخلافة الثانية وستكون حاضرة لها.
خاتمة
إن بركة المسجد الأقصى سواء منها مادية أو معنوية في المكان أو في المكانة شيء لا نراه ولكننا نرى تجلياته ومظاهره، إلا أننا يجب أن نقتنع بأن البركة تتحقق بمن عمل وليس بمن علم فقط، فالذي سيحرر المسجد الأقصى هم عباد الله الذين تتجسد فيهم مواصفات عباد الرحمن، فبيت المقدس وضمنه المسجد الأقصى هو مكان مثالي لعيش الجميع من كل الديانات في ظل هذه البركة وتحت إشراف الحكم الإسلامي.