مقدمة:
من فضاء للتشبع بالطاعات الموصلة إلى الاستقامة على الحدود الإلهية، ولاستمطار الرحمات الربانية، ولتلقي الفيوضات النورانية، ولتدارس المعارف الشرعية والعلوم الكونية، وللتشاور في أمور الأمة المختلفة سياسية واقتصادية واجتماعية، ولتكوين الرجال وتأهيلهم لتحمل المسؤوليات الآنية والمستقبلية، إلى فضاء تَابع مُحَاصر مُرَاقَب مخصص للاحتفال بالأعياد والمناسبات الوطنية، ولِلَيِّ أعناق النصوص تبريرا لسياسات الحكام، وتمجيدا لممارساتهم، وتسويغا لاختياراتهم ومواقفهم وأخلاقياتهم، والدعاء لهم بالنصر والتمكين على جموع المصلين التي لا تملك إلا الصمت والخضوع والتأمين…
من فضاء يعج بالحياة، منفتح باستمرار على كل شؤونها وقضاياها، ومسراتها وأحزانها، محتضن لمختلف مشاهد كَدِّهَا وكبدها وجِدِّها وحتى هزلها ومرحها، إلى فضاء منطو على نفسه، منغلق على ذاته، تُغْلق أبوابه مباشرة بعد أداء الصلوات، لتعلنها قطيعة تامة بينه وبين الحياة… لائكية صارخة مُسَربلة في ثوب دين الانقياد الخادع الماكر…
تحولات كبيرة وجذرية وخطيرة جدا عرفتها وظائف المسجد في المجتمعات الإسلامية، تحولات تستوجب قراءة تاريخ الأمة من الأعالي، كما تفرض تجاوز الذهنية التجزيئية، والفقه المنحبس، من أجل الامتياح المباشر من شهد النبوة والخلافة الراشدة، امتياحا بنية التنفيذ، وبنية إعادة البناء من جديد، كل ذلك يستدعي وقفة للتأمل والتساؤل: ما مظاهر ارتباط المسجد بالحياة على عهد النبوة والخلافة الراشدة؟ كيف ومتى حصل التحول الخطير؟ ما علاقة ذلك بحالة الغثائية والذيلية التي تعيشها الأمة؟ ما علاقة تحرير المسجد بمشروع تحرير الأمة وتبويئها مكانة “الخيرية” و”الشهادة” كما وعدت؟
الأكيد أن الإجابة تقتضي الوقوف عند لحظات ثلاث حاسمة من حياة المسجد في الأمة: لحظة المسجد/النموذج، لحظة تكسير النموذج، لحظة تحرير المسجد واستعادة النموذج. وهذا فرض علي منهجيا تقسيم البحث إلى ثلاثة مباحث، بالإضافة إلى مبحث لغوي حول دلالة المسجد والمسجد الجامع.
البحث يهدف إلى بيان نموذج المسجد في زمن النبوة والخلافة الراشدة، وبيان أثر الاستبداد في انحسار أدوار المسجد، ويفتح البحث آفاقا لتحرير المسجد من الاستبداد القروني ليطلع بمهمة إعادة صرح مجد الإسلام بالعمل على توطين الخلافة الثانية على منهاج النبوة الموعودة في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم 1.
المبحث الأول: “المسجد” و”المسجد الجامع”: إضاءات لغوية
صحيح أن المعاجم اللغوية تسعفنا بمعرفة الأصل الاشتقاقي والبناء الصرفي لكلمة “مَسْجِد”، غير أنها لا تكاد تمدنا بالحدود الدلالية الفاصلة بين هذه الكلمة وعبارة “المسجد الجامع” أو “مسجد الجامع”، وهو اللبس الذي تكرسه اللغة العامية المتداولة في معظم الدول العربية، إذ يتم توظيفهما معا كأنهما مترادفتان، والحقيقة أن هناك اختلافات بينهما.
أورد صاحب “اللسان” أن: “المسجَد والمسجِد: الذي يسجد فيه، وفي الصحاح: واحد المساجد. وقال الزجاج: كل موضع يتعبد فيه فهو مسجَد، ألا ترى أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: “جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا” 2.. ابن الأعرابي: “مسجَد، بفتح الجيم: محراب البيوت، ومصلى الجماعات. مسجِد بكسر الجيم، والمساجد جمعها، والمساجد أيضا: الآراب التي يسجد عليها، والآراب السبعة مساجد (…)، والمسجدان: مسجد مكة ومسجد المدينة شرفهما الله عز وجل…” 3.
تطلق كلمة “مسجد” إذا لغة على موضع السجود عموما، ولعل المقصود في سياقنا هذا هو “محراب البيوت، ومصلى الجماعات”، أما عبارة “المسجد الجامع”، فهو “الذي يجمع أهله، نعت له لأنه علامة للاجتماع، وقد يضاف، وأنكره بعضهم… وكان الفراء يقول: العرب تضيف الشيء إلى نفسه لاختلاف اللفظتين…”4ref]لسان العرب، مادة: “جمع”، 8/55.[/ref]، ونكاد نتبين الفروق الدلالية بينهما، إذ تم عدهما شيئا واحدا تقريبا.
وعموما فالمسجد “هو مكان خصص للصلاة والقراءة والذكر والدعاء وتقام الصلاة فيه جماعة ويؤذن فيه للصلاة ووجّه نحو القبلة وجعل له محراب ومئذنة. يكون له حرمة المسجد فينزه عن الملاهي واللعب والخوض في أمور الدنيا والبيع والشراء وإنشاد الضالة ويطهر عن الأدناس والأنجاس” 4، أما المسجد الجامع فهو “مسجد تقام فيه صلاة الجمعة والعيدين، ويعتكف فيه جريا على الحديث الذي رواه أبو داود: ولا اعتكاف إلا فـــي مسجد جامع. كما أنه يكون الموضع الذي تقام فيه الحدود، ومركز يلتقي ويجتمع فيه الناس، ويتبادلون فيه. كما أنه يكون الموضع الذي تقام فيه الحدود، ومركز يلتقي ويجتمع فيه الناس، ويتبادلون فيه قضاياهم ومنافعهم، ويتشاورون في أمورهم العامة وغيرها” 5.
المبحث الثاني: المسجد في حياة النبي عليه الصلاة والسلام
تشمل اللحظة الأولى من حياة المسجد في تاريخ الأمة عهد النبوة والخلافة الراشدة، فعلى عهد النبوة كان “المسجد” أول عمل قام به النبي عليه الصلاة والسلام بمجرد هجرته من مكة إلى المدينة، إمعانا في تأكيد دوره الحاسم والعميق في بناء دولة الإسلام، وإشارة إلى كونه يشكل قلبها النابض بامتياز، وحافظ الخلفاء الراشدون على حميمية وعمق وحرارة رسالية المسجد؛ لذلك سنعمد إلى استحضار مشاهد من السيرة النبوية ومن مواقف بعض الخلفاء الراشدين تؤكد حقيقة أن المسجد استوعب منذ “أول يوم أظلت ظلاله المدينة المنورة كل الأفكار المرفقية التي تدندن حولها المدينة المعاصرة، ومنها: فكرة التجمع، والتنظيم، والمأسسة، والمجتمع المدني، وتقريب الإدارة… ، فكل ذلك كانت تبرم خططه وتوضع أسسه في بناية المسجد وفضائه المؤسسي” 6.
1 ـ في البدء كان المسجد:
أ _ مسجد قباء: “والله يحب المطهرين”
ليس من قبيل الصدفة ولا العبث أن يكون أول عمل قام به النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرته من مكة إلى المدينة المنورة هو بناء مسجد بقباء “في الفترة التي أقامها بين سكانها وهم بنو عمرو بن عوف بن مالك، والتي لم تتجاوز أسبوعا واحدا” 7، وهو المسجد الذي حظي أهله بالثناء الإلهي في سورة التوبة: لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين (التوبة / 108)، تقع “قباء” هذه في ضواحي المدينة على ثلاثة أميال منها، لم تكن نقطة وصول، بل كانت فقط محطة عبور، ومع ذلك فقد حرص عليه الصلاة والسلام على بناء هذا المسجد إمعانا في تأكيد جوهر وغاية وعمق رسالة المسجد في الإسلام.
ب _ المسجد النبوي: “لا عيش إلا عيش الآخرة”
كان عليه الصلاة والسلام ينقل الحجارة بيديه الشريفتين منخرطا انخراطا كليا في بناء المسجد النبوي بعد وصوله إلى المدينة “ففي المكان الذي بركت فيه ناقته أمر ببناء هذا المسجد، واشتراه من غلامين يتيمين كانا يملكانه، وساهم في بنائه بنفسه، فكان ينقل اللبن والحجارة، ولم تكن مشاركته عليه الصلاة والسلام في حمل الحجارة واللبن إلا تعبيرا واضحا على المكانة المركزية التي يحظى بها المسجد في المجتمع الإسلامي، إنه منه بمنزلة القلب من الجسد، لأنه “إنما يكتسب صفة الرسوخ والتماسك بالتزام نظام الإسلام وعقيدته وآدابه، وإنما ينبع ذلك كله من روح المسجد ووحيه” 8، كما كانت تحفيزا لصحابته الكرام الذين اقتدوا به فتفانوا في العمل تربية بالقدوة والإجرائية، ومن الدروس البليغة التي نستفيدها من هذا الحدث حرصه الشديد عليه السلام على تعليم الأمة من بعده كيف ينبغي أن تكون العلاقة بين الراعي والرعية، ثم إن المساجد ينبغي أن تكون خالصة لله تعالى، فقد رفض عليه الصلاة والسلام قبول هبة اليتيمين صاحبي البقعة التي سيبنى عليها المسجد، جاء في صحيح البخاري: “ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين فيها، وهما بالمربد ليتخذ مسجدا، فقالا: لا بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدا” 9.
2 ـ المسجد ونور النبوة وبناء الرجال:
كان المسجد النبوي نواة بناء الدولة الإسلامية بكل مؤسساتها وهياكلها: كان المحضن الذي يَتْرَعُ القلوبَ رحمةً وذكرًا، ويُوقِدُهَا إيمانا ويقينا ونورا، وكان الجامعة الربانية التي تنير العقول بنور العلم وتكون الرجال الأقوياء الأمناء الصادقين، وكان البوتقة التي تذوب فيها كافة الاختلافات والتمايزات العرقية والطبقية التي طالما سعرت نيران الحروب والنزاعات، وكان البرلمان الذي يسمح بالرأي والرأي المخالف لاتخاذ قرارات سديدة تهم الأمة في كل شؤون حياتها، وكان الثكنة الأولى لانطلاق فيالق الجهاد، “وكان مع هذا كله دارا يسكن فيها عدد كبير من فقراء المهاجرين اللاجئين الذين لم يكن لهم هناك دار ولا مال ولا أهل ولا بنون” 10.
كان المسجد القلب النابض بحياة المجتمع، في شرايينه تتفاعل قضاياه كلها، وفي سويدائه تناقش شؤونه جميعا بلا استثناء، حول المنبر النبوي الشريف كانت تلتف جموع المسلمين كلما هتف الهاتف “الصلاة جامعة”، مؤذنا بأن الأمر جلل يستحق كل انتباه وكل اهتمام، أبدا لم يكن ثمة فصل بين دين الرعيل الأول ودنياهم، بل كان دينهم دنيا، وكانت دنياهم دينا، كان دينهم نبراسا يضيء كل سلوكاتهم، وكل مواقفهم، كانت الصلاة لا توحد القلوب والأرواح فقط، بل كانت النور الرباني الذي يسري في وجدان المجتمع لينثر عبق المحبة التي لم تمنع إطلاقا من اختلاف الآراء وتعدد وجهات النظر.
3 ـ أدوار المسجد المختلفة:
أ _ المسجد فضاء للعبادة والذكر:
فضاء المسجد هو فضاء ذكر الله تعالى وتسبيحه غدوا وآصالا، كما ينص على ذلك قوله تعالى: في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة يخافون يوما تتقلب فيه القلوب والأبصار ليجزيهم الله أحسن ما عملوا ويزيدهم من فضله والله يرزق من يشاء بغير حساب 11. وتكون السكينة والرحمة وحضور الملائكة ثمارا يانعة يستشعرها الذاكرون لله في أحضان المساجد فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ وَحَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ” 12.
ب _ المسجد فضاء لتدارس العلم ونشره:
كان المسجد مدرسة لنشر العلم ولتدارسه، وكان الصحابة رضي الله عنهم أحرص الناس على الامتثال لأوامر وتوجيهات الرسول المعلم عليه الصلاة والسلام، فعن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ أنه قال: خَرَجَ إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَنَحْنُ فِي الصُّفَّةِ، فَقَالَ: “أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَغْدُوَ إِلَى بَطْحَانَ أَوِ الْعَقِيقِ فَيَأْتِيَ كُلَّ يَوْمٍ بِنَاقَتَيْنِ كَوْمَاوَيْنِ زَهْرَاوَيْنِ فَيَأْخُذَهُمَا”. قُلْنَا: كُلُّنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ يُحِبَّ ذَلِكَ. قَالَ: “أَفَلا يَغْدُو أَحَدُكُمْ إِلَى الْمَسْجِدِ فَيَتَعَلَّمَ آيَتَيْنِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ خَيْرٌ لَهُ مِنْ نَاقَتَيْنِ، وَثَلاثٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ ثَلاثٍ، وَأَرْبَعٌ خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَرْبَعٍ، وَأَعْدَادُهُنَّ مِنَ الإِبِلِ.” 13.
[2] صحيح البخاري، تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، دار طوق النجاة، الطبعة: الأولى، 1422هـ، كتاب التيمم، 1/74، رقم الحديث 335.
[3] لسان العرب، ابن منظور الإقريقي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الثالثة / 1414 هـ ـ 1994 م، مادة: “سجد”، 3/204.
[4] ويكيبيديا الموسوعة الحرة http://ar.wikipedia.org/wiki/ بعنوان: مسجد جامع.
[5] نفس المرجع.
[6] الوظائف الحضارية لمؤسسة المسجد في الإسلام، مجلة الفرقان، العدد 68 / 1433 هـ _ 2012 م. ص: 39.
[7] هذا الحبيب محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم يا محب، أبوبكر جابر الجزائري، دار الكتب العلمية _ بيروت _ لبنان، الطبعة الثانية، 1421 هـ _ 2001 م. ص110.
[8] فقه السيرة النبوية مع موجز لتاريخ الخلافة الراشدة، محمد سعيد رمضان البوطي، دار السلام للطباعة والنشر، الطبعة السادسة، 1419 هـ _ 1999 م، ص 143.
[9] صحيح البخاري، باب هجرة النبي عليه السلام وأصحابه، 5/60، رقم الحديث 3906.
[10] الرحيق المختوم، صفي الرحمن المباركفوري، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1411هـ _ 1991م، 167.
[11] النور، 36 _ 38.
[12] صحيح مسلم، محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، باب فضل الاجتماع على تلاوة القرآن، 4 / 2074، رقم الحديث 2699.
[13] سنن أبي داود، شعَيب الأرنؤوط – محَمَّد كامِل قره بللي، دار الرسالة العالمية، الطبعة: الأولى، 1430 هـ – 2009 م، باب في ثواب قراءة القرآن، 2/ 585-586، رقم الحديث 1456.