المبحث الثالث: المسجد ولحظة تكسير النموذج:
يكتسب الوقوف عند هذه اللحظة أهمية بالغة لأنه يرتبط بحدث حاسم كان له وما يزال بالغ الأثر في الأمة، بل إن فهم واقع الأمة واستشراف مستقبلها يبقيان خداجا، إن تم التغاضي عن ملابسات وحيثيات هذا الحدث الذي كان المسجد فضاء شاهدا على لحظاته الحرجة والحاسمة، فعلى منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ستنقض أول عروة من عرى الإسلام ألا وهي الحكم على حد تعبير النبي عليه السلام: “لَيُنْقَضُنَّ عرى الإسلام عروة عروة، كلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، وأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة”1، في هذه المحطة التاريخية من حياة المسجد سنتابع من خلال النصوص كيف تحول المسجد/ الذِّكْر والرحمة والصدق، والمسجد/ الحياة بكل مجالاتها وفضاءاتها، إلى حلبة للصراع السياسي على السلطة، وكيف تحول المنبر النبوي الشريف إلى منصة لانتزاع الاعتراف والشرعية بحد السيف وقوة الساعد.
إن الفهم العميق للتحول الخطير الذي عرفه المسجد في تاريخ الأمة يستدعي تسليط الضوء على حــدث “الانكسار التاريخي” الذي شكل “رجة عظيمة مزقت كيان الأمة المعنوي فبقي المسلمون يعانون من النزيف في الفكر والعواطف منذئذ، ويؤدون إتاوات باهظة لما ضعف من وحدتهم، وتمزق مـن شملهم، وتجزأ من علومهم وأقطارهم.”2
والأكيد أن بوادر الانكسار التاريخي تبدأ منذ تولي عثمان بن عفان رضي الله عنه الخلافة، فعندما نقِم عليه معارضو سياسته بعضَ تصرفاته كان المسجد فضاء للتعبير عن هذه النقمة، ففي حديث ابن أبي قتيبة عن الأعمش عن عبد الله بن سنان قال: خرج علينا ابن مسعود ونحن في المسجد، وكان على بيت مال الكوفة، وأمير الكوفة الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فقال: يا أهل الكوفة، فقدت من بيت مالكم الليلة مائة ألف لم يأتني بها كتاب من أمير المؤمنين ولم يكتب لي بها براءة. قال: فكتب الوليد بن عقبة إلى عثمان في ذلك، فنزعه عـن بيت المال.4، وهذا علي بن أبي طالب الخليفة الرابع يحتج على المعارضين رافضا سياستهم وتدبيرهم في فضاء المسجد، قال نافع بن كليب: دخلت الكوفة للتسليم على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فإني لجالس تحت منبره وعليه عمامة سوداء وهو يقول: انظروا هذه الحكومة، فمن دعا إليها فاقتلوه وإن كان تحت عمامتي هذه…5، وبعد حدث التحكيم، ومبايعة معاوية بن أبي سفيان من طرف أنصاره وشيعته لم يتورع عن التعبير عن انتزاعه الحكم انتزاعا وهو من على منبر رسول الله عليه الصلاة والسلام “… لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقاه رجال قريش، فقالوا: الحمد لله أعز نصرك، وأعلى كعبك. قال: فوالله ما رد عليهم حتى صعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإني والله ما وليتها بمحبة علمتها منكم، ولا مسرة بولايتي، ولكني جالدتكم بسيفي مجالدة…”6، اعتراف صارخ باغتصاب الحكم عَنْوَةً على رؤوس الأشهاد.
بل إنه يصر على انتزاع شرعية توريث الحكم لابنه يزيد في الفضاء الذي شهد نبوءته عليه السلام بهلاك أمته على يد أغيلمة من قريش ففي صحيح البخاري أن سعيد بن عمرو بن سعيد بن العاص قال: كنت مع مروان وأبي هريرة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فسمعت الصادق المصدوق يقول: “هلاك أمتي على يدي أغيلمة من قريش.” فقال مروان: غِلْمةٌ؟ قال أبو هريرة: إن شئت أن أسميهم: يني فلان ويني فلان. قال الراوي: قمت أخرج مع أبي وجدي إلى مروان بعدما ملكوا، فإذا هم يبايعون الصبيان، ومنهم من يُبَايَعُ له وهو في خرقة!7.
يقول الأستاذ عبد السلام ياسينعن هذا الانكسار التاريخي: “كانت بيعة يزيد النموذجَ الأولَ لتحريف نظام الحكم في الإسلام وتحويله إلى كسروية.”8 وقد دبر معاوية تدبيرا محكما أمر هذه البيعة، فأخذ البيعة لابنه يزيد في الشام والعراق وأطراف البلاد، وتوجه بعد ذلك بنفسه “إلى الحجاز، واستدعى إليه الأربعةَ المحترمين من علماء الأمة المسموعي الكلمة: الحسين بن علي، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمر، وعبد الرحمن بن أبي بكر. لقيهم خارج المدينة وأغلظ لهم القول. “9، ثم لاطفهم، وألان لهم القول بعدما استدعاهم خارج مكة، وبعدما أبدوا رفضهم لعرضه، وذكروه بصنيع الرسول عليه السلام الذي لم يستخلف أحدا، وبصنيع كل من أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، استشاط غضبا وهددهم موعدا بالقتل كل من سولت له نفسه منهم بالاعتراض والرفض “ثم نادى رئيسَ حرسه فقال له: أقِم على رأس كل رجل من هؤلاء رجلين، ومع كل واحد منهما سيف. فإن ذهب رجل منهم يرد عليَّ كلمةً بتصديق أو تكذيب فليضرباه بسيفهما… ثم دخل المسجد وأدخل الأربعة الكُبراء أمام الناس، وصعِد المنبر فقال: إن هؤلاء الرهْطَ سادةُ المسلمين وخيارُهم، لا يُبتَر أمر دونهم، ولا يُقضى إلا عن مشورتهم. وإنهم قد رَضُوا وبايعوا ليزيد. فبايِعوا على اسم الله.”10، وفعلا نجحت الخطة أيما نجاح، فلم يملك جمهور الحاضرين إلا الإذعان والمبايعة بعدما تبين لهم أن هؤلاء الأربعة أبناء الصحابة الكرام قد قبلوا بالأمر، ولم يعترض منهم أحد، لم يعلموا أن سيوف الوعيد والترهيب كانت لهم بالمرصاد.
وهناك في مسجد الشام كان معاوية يخطب في الناس تحت قميص عثمان المخضب بدمه، محرضا إياهم على الانتقام من قتلته، ومحملا علياً مسؤولية التستر والتواطؤ مع مرتكبي الجريمة الشنيعة، وهكذا لم يتورع من أن يعلن رفضه مبايعته علي بن أبي طالب الذي ارتضاه المسلمون وبايعوه خليفة عليهم، فبعث إليه برسالة “ورقة طويلة وعريضة، ليس فيها من كلام مسطور سوى هذا السطر الواحد: من معاوية بن أبي سفيان، إلى علي بن أبي طالب… وارتسمت على شفتي “الخليفة” ابتسامة مريرة، والتفت صوب مبعوث معاوية الذي قد نهض وراح يتكلم قائلا:
“أيها الناس، اسمعوا مني، وافهموا عني… إني قد خلفت بالشام خمسين ألفا، خاضبي لحاهم بدموع أعينهم تحت قميص عثمان، رافعيه على أطراف الرماح، قد عاهدوا الله ألا يشيموا سيوفهم حتى يقتلوا قتلته أو تلحق أرواحهم بالله…”11.
هكذا تحول منبر الرسول صلى الله عليه وسلم إلى منصبة للتهديد والوعيد؛ ففي سنة 75 هـ خطب عبد الملك بن مروان بالمدينة على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “إني لن أُداوِيَ أمراض هذه الأمة بغير السيف، والله لا يأمرني أحد بعدَ مَقامي هذا بتقوى الله إلا ضربت عنقه.”12، لم يعد ثمة من داع للتكتم أو المداراة أو للمجاملة، هكذا استحال المسجد إلى حلبة للصراع السياسي بين مختلف الأحزاب التي أفرزها انتقاض عروة الحكم، بل إنه شكل الفضاء الأنسب لإشاعة روح الخوف والخضوع والتبعية والاستسلام في نفوس الرعية التي كانت ملزمة بتقبل وتنفيذ كل ما يصدر عن أصحاب القرار السياسي المركزي، ولم يكن لها مسموحا البتة بالرفض أو الاحتجاج.
وقد كان المعيار الأساس المعتمد في اختيار الولاة هو القدرة على الدفاع على الحكم العاض الذي دشنته دولة بني أمية، والقدرة على تنفيذ تعاليم السياسة المركزية العليا، بحيث يجب إلزام الرعية بالخضوع التام دون إبداء أي شكل من أشكال الرفض أو الامتناع.
زياد بن سمية واحد من الدهاة الذين استعملهم معاوية بن أبي سفيان من أجل توطيد حكمه، لم يجد غضاضة في تحويل المسجد إلى مخفر لتعذيب المعارضين والانتقام منهم، فقد “كان مثالا للطاغية الفتاك. خطب على المنبر فحصبَه الناس، فأغلق المسجد وقطع أيدي المصلين”13، وبعدما أصدر معاوية أمره بسب علي رضي الله عنه، أصبح المسلمون وآل البيت يسمعون “سب أطهر الناس من على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان زياد من الذين يكثرون السب، فيقوم جُحْرٌ بن عدي فيردُّ عليه، فبعث زياد بجُحْر وباثني عشر من أصحابه إلى معاوية، فقتل معاوية جحرا وسبعة من أصحابه شر قتلة، أما الثامن فرده إلى زياد فدفنه حيا.”14، وقد سن معاوية بصنيعه هذا بدعة شنيعة، فاستمر سب الإمام علي في المساجد مدة ستين سنة قبل أن يُبْطِل ذلك الرجل الصالح عمر بن عبد العزيز.
أما الحجاج بن يوسف الثقفي فقد كان من أبرز من يمثل هذا الأمر، فقد كان قائدا، داهية، خطيبا، كما كان سفاكا سفاحا باتفاق معظم المؤرخين، عندما بعث الحجاج واليا على العراق، دخل الكوفة “فبدأ بالمسجد فدخله، ثم صَعد المنبر وهو ملثم بعمامة حمراء، فقال: علي بالناس. فحسبوه وأصحابه خوارج، فهموا به، حتى إذا اجتمع الناس في المسجد قام، ثم كشف عن وجهه، ثم قال: (…) أما والله إني لأحمل الشر بحمله، وأحذوه بنعله، وأجزيه بمثله، وإني لأرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها. وإني لأنظر إلى الدماء بين العمائم واللحى تترقرق…”15.
كانت تلك الصدمة الأولى التي أصابت مركزية المسجد في مقتل، ثم بدأ الانفصال التدرجي عن الحياة، وأصبح الهاجس الأكبر إخماد كل صوت معارض، وتعليق نياشين التبجيل والتعظيم والتفخيم والكسروية على صدور الحكام الذين لم تتورع خطب فقهاء القصور، وعلماء دين الانقياد من نعتهم زورا وبهتانا بألقاب رنانة خادعة كاذبة “ظل الله/ خليفة الله/ إمام الأمة/ أمير المؤمنين…”. كان ذلك بمثابة الورم الذي أصاب قلب الأمة، ظل الورم يتضخم، ولكن شوكة الإسلام كانت قوية، وهيبة الأمة كانت تترجم فتوحات امتدت مشرقا ومغربا، إذ من كرامات الله لها “أن انحراف نظام الحكم عن جادة الشورى لم يكسر الدفع الإسلامي. من كراماته سبحانه لها أن المسلمين أدوا على مسرح التاريخ أفخم الأدوار رغم البلاء المبكر والفتنة المتوالدة على رأس الحكم “16، ذلك أن “أمة محمد صلى الله عليه وسلم بقيادة علمائها وصالحيها وأهل الخير من كل زمان جاهدت وقاومت وحافظت على وجودها بتوفيق من الله عز وجل رغم البلاء المتعاقب.”17.
كانت المساجد أول عمل يقبل عليه المسلمون الفاتحون، واستمرت المساجد في استقطاب الوافدين الجدد لغرس بذور الإيمان والمحبة والإخاء في القلوب التي أضاءتها أنوار الإسلام، كما استمرت في تحفيظ القرآن الكريم وفي نشر العلم، وتخريج أفواج من العلماء، والأمثلة على ذلك في تاريخ الأمة أكبر من أن يحصيها العد، فمسجد الفسطاط بمصر كان – على حد تعبير الأستاذ محمد محمد المدني – “أشبه بنبع صاف فياض يزدحم حواليه الوارد، بل أشبه بجامعة علمية كأرقى ما نعلم من الجامعات الحديثة، تلتقي فيها الدراسات، وتدور المحاورات، وتعقد المناظرات، وتعرض الكتب والتآليف والرسائل، وتنقد المذاهب، وتمحص المسائل، في كنف من حرية الرأي، واستقلال الفكر، وأدب البحث وعفة المقال، فإذا أفضى الأمر في شيء من ذلك إلى خصومة فهي خصومة شريفة، غايتها الوصول إلى الحق، قد تشتد أحيانا وتعظم حتى يخيل إليك أنها حرب عوان، وهي حرب أي حرب، ولكن جندها العلماء، وقادتها الأئمة الأعلام، وسهمها الحجة والبرهان “18، وكفى ب”القرويين” بالمغرب و”الأزهر” بمصر و”الزيتونة” بتونس أمثلة ناصعة على ذلك، فإلى جامع القرويين يرجع “الفضل كل الفضل في استمرار الوجود الإسلامي بهذه الديار وفي حياة الحرف العربي بسائر أطراف إفريقيا…”4، أما الأزهر فإنه يعتبر “المؤسسة الدينية العلمية الإسلامية العالمية الأكبر في العالم، وثاني جامعة أنشأت في العالم بعد جامعة القرويين “وقد شكل” مقرا لنشر الدين والعلم في حلقات الدروس التي انتظمت فيه”19، وجامع الزيتونة الذي “اتخذ مفهوم الجامعة الإسلامية منذ تأسيسه وتثبيت مكانته كمركز للتدريس وقد لعب الجامع دورا طليعيا في نشر الثقافة العربية الإسلامية في بلاد المغرب، وفي رحابه تأسست أول مدرسة فكرية بإفريقية أشاعت روحا علميّة صارمة ومنهجا حديثا في تتبع المسائل نقدا وتمحيصا…”20.
ولكن الورم كان حاضرا باستمرار “تبجيل الحاكم” وتمجيد سياساته مهما كانت بعيدة عن روح القرآن و عن منهاج النبوة، لا غرابة أن يقف المطَّلع على تاريخ هذه الجوامع/ الجامعات الثلاث مثلا كيف أنها تأثرت على امتداد تاريخها بالأحوال السياسية، وبمقدار نفوذ الدول الحاكمة والحكام الذين كان يسعى كل منهم إلى تخليد اسمه بإصلاح، أو توسيع، أو ترميم، أو إغناء خزانة، أو زخرفة، أو تأثيث، وتجهيز جانب من الجوانب مقابل اكتساب المزيد من الشرعية ومن النفوذ والقوة والجبروت.
1– مسند أحمد، تحقيق شعيب الأرنؤوط – عادل مرشد، وآخرون، مؤسسة الرسالة، الطبعة: الأولى، 1421 هـ – 2001 م، حديث أبي أمامة الباهلي، 36/ 485، رقم الحديث 22160.
2- نظرات في الفقه والتاريخ، عبد السلام ياسين، الطبعة الأولى / يونيو 1989 م،ص 28 _ 27.
3- العقد الفريد، ج 4/ 282.
4- العقد الفريد، ج 4/ 73.
5- العقد الفريد ) ج 4/ ص: 81.
6- مسند أحمد، مسند أبي هريرة، 14/ 58، رقم الحديث 8304.
7- العدل الإسلاميون والحكم، عبد السلام ياسين، الطبعة الأولى، 2000 م، 80.
8- نفس المرجع، 80.
9- “العدل الإسلاميون والحكم”، ص: 81، نقلا عن “الخلافة والملك، المودودي/ ص: 97.
10_ خلفاء الرسول صلى الله عليه وسلم، 276 _277.
11_ ابن الأثير ج 4 ص 41 _ 104، و”العدل الإسلاميون والحكم، ص: 76 نقلا عن المودودي في “الخلافة والملك” ص: 106.
12_ العدل 78.
13_ نفس المرجع.
14– تاريخ الطبري، دار التراث – بيروت، الطبعة: الثانية – 1387 هـ، ولاية الحجاج على الكوفة وخطبته على أهلها، 6/ 203.
15- حوار مع الفضلاء الديموقراطيين، عبد السلام ياسين، مطبوعات الأفق، الدار البيضاء، الطبعة الأولى، 1994م، ص 134.
16- نظرات في الفقه والتاريخ، 54.
17- مجلة الوعي الإسلامي، مسجد الفسطاط وعبد الله بن عمرو، 98 _ 99.
18_ جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس، عبد الهادي التازي، نقلا عن مجلة ” الفرقان “، ص: 81.
19_ ويكيبيديا الموسوعة الحرة http://ar.wikipedia.org/wiki/ بعنوان: جامع الأزهر.
20- نفس المرجع، بعنوان: جامع الزيتونة.