الإعلام العربي ظلم بيان القاهرة الذي أصدرته الفصائل الفلسطينية مساء الخميس الماضي (17/3)، من حيث أنه سلط الضوء على فقرة واحدة فيه، تعلقت بالتهدئة ووقف العمليات العسكرية ضد إسرائيل، فقدمه مبتسراً ومنقوصاً، على طريقة «لا تقربوا الصلاة!»، الأمر الذي يوقع القارئ في الحيرة والبلبلة، إذا كان ممن يكتفون بمطالعة العناوين والملخصات، ولم يتح له أن يقرأ نص البيان بصورة متأنية، وهذا الابتسار يبعث على الدهشة والقلق، لأن في البيان موقفاً لا يقل أهمية عن التهدئة يتعلق بالتأكيد على الثوابت الفلسطينية، التي يحاول البعض أن يعبث بها ويتلاعب في مضمونها وأولوياتها، ومن هنا كانت الدهشة. أما القلق فمصدره الدلالة التي يستخلصها المرء من هذا الموقف. ذلك أن الإعلام العربي، الذي يخضع أغلبه للتوجيه الحكومي، حين ركز على موضوع التهدئة دون غيرها، فإنه أبرز حصة إسرائيل من البيان، متجاهلا بذلك الشق الأهم فيه المتعلق بحصة الشعب الفلسطيني وحلمه، وهو الشعب الذي يرزح تحت الاحتلال، ولا يزال صامداً ومستعداً للتضحية بدمائه من أجل الدفاع عن أرضه ومستقبله.
وهذا التجاهل يعني ـ بين ما يعني ـ تراجع أولوية الملف الفلسطيني في أجندة بعض الحكومات. وهو ما انعكس بشكل لافت للنظر فيما ذكرته التقارير الصحفية عن الورقة الأردنية التي قدمت إلى مؤتمر القمة العربية، داعية إلى إنهاء الصراع مع إسرائيل والتطبيع معها، في تجاهل مدهش للقضية الأساسية في الصراع واستحقاقاتها التي تتجاوز الشعب الفلسطيني وتمس صلب الأمن القومي العربي.
ما لم تبرزه أغلب وسائل الإعلام العربية هو كل البند الأول من بيان القاهرة (الصادر في 17/3) وجزء من البند الثاني وكل البند الثالث. فقد نص البند الأول على ما يلي: أكد المجتمعون التمسك بالثوابت الفلسطينية دون أي تفريط، وحق الشعب الفلسطيني في المقاومة من أجل إنهاء الاحتلال، وإقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس، وضمان حق عودة اللاجئين إلى ديارهم وممتلكاتهم.
شق البند الثاني الذي لم يبرز بشكل كاف فهو المقابل الذي اشترطته الفصائل الفلسطينية للالتزام بالتهدئة حتى نهاية العام، وهو الذي طالب إسرائيل بأمرين أساسيين هما: «وقف كافة أشكال العدوان على أرضنا وشعبنا الفلسطيني أينما وجد، وكذلك الإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين».
أما البند الثالث الذي لم يلتفت كثيرون إلى مضمونه فهو الذي قرر أن: استمرار الاستيطان وبناء الجدار وتهويد القدس الشرقية، هي عوامل تفجير.
تكتسب تلك الفقرات أهميتها من أمور عدة، أولها أن التهدئة لم تكن تراجعاً وإنما استصحبت تأكيداً على الثوابت، التي تمثلت في الحق في المقاومة، وإقامة الدولة الفلسطينية كاملة السيادة وعاصمتها القدس، وضمان حق عودة اللاجئين إلى ديارهم. وثانيها أن التهدئة مشروطة بشرطين، الأول التزام إسرائيل بوقف كل أشكال العدوان على الأرض والشعب. والثاني الإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين، وهو ما يعني أن إخلال إسرائيل بالشرطين، أحدهما أو كليهما، يجعل فصائل المقاومة في حل من التهدئة، ويعطيها حق الرد.
الأمر الثالث المهم أن هذا الكلام أقره أبو مازن رئيس السلطة الفلسطينية، وقرأه على الملأ السيد عمر سليمان، رئيس المخابرات المصرية، المسؤول عن الملف الفلسطيني، الأمر الذي يعني أن مضمونه يعبر أيضاً عن وجهة نظر السلطة الفلسطينية والدولة المصرية. وبهذه الصورة فإن البيان أغلق باب الاجتهاد أو التلاعب في حقي المقاومة والعودة، بالتالي فإنه صار «فاسخاً» لأية مواقف أخرى نسبت إلى أطراف في السلطة الفلسطينية وفهم منها أنها قبلت بالتنازل عن حق العودة خصوصاً. علماً بأن الصحافة الإسرائيلية روجت لشائعات قوية قبل عقد مؤتمر الفصائل، ادعت أن السيد أبو مازن سوف يطالبها بالتنازل عن ذلك الحق، وهو ما كذبه البيان وفضح التدليس فيه.
لمست في الوارد التقليل من أهمية البنود الأخرى في الإعلان، المتعلقة بترتيب البيت الفلسطيني من الداخل، تلك التي تعلقت بتعديل قانون الانتخابات واعتماد التمثيل النسبي في المجالس المنتخبة، أو ضم جميع القوى لمنظمة التحرير أو رفض الاحتكام إلى السلاح في حسم الخلافات بين مختلف التيارات، فتلك كلها أمور لا شك في أهميتها، لكني أردت فقط التنبيه إلى جوانب أخرى أكثر أهمية في الإعلان تم تجاهلها في سياق التكالب الإعلامي على إبراز ما حصله الإسرائيليون، والتعتيم على الثوابت التي تعلقت بالمصير الفلسطيني، وبالشروط التي وضعتها فصائل المقاومة للالتزام بالتهدئة التي لن تكون مجانية أو بغير مقابل يتعين على الإسرائيليين الوفاء به.
ليس سراً أن الحوار الحقيقي في مؤتمر الفصائل الاثنى عشر كان بين حركتي حماس والجهاد وبين أبو مازن، باعتباره رئيساً للسلطة التي تقف وراءها حركة فتح وأن الصيغة النهائية للبيان وضعت خارج الاجتماعات، بالتوافق بين الثلاثي أبو الوليد (خالد مشعل – حماس) وأبو عبد الله (رمضان شلح – الجهاد) وأبو مازن. وبطبيعة الحال فإن ممثلي السلطة المصرية لم يكونوا بعيدين عن المشاورات التي تمت في صدده.
كذلك لم يعد سراً أن المشروع الأول للبيان لم ترحب به حركتا حماس والجهاد، لسببين، الأول أنه كان يضع حقي المقاومة والعودة في الديباجة وليس في صلب المسائل التي تم التوافق عليها، والثاني أن فترة التهدئة فيه كانت مفتوحة، وليست محددة بأجل. ولكن المشاورات بين قياديي حماس والجهاد، التي جرى خلالها استطلاع آراء الناشطين في غزة، خصوصاً في صدد مدة التهدئة، التي رفضت فكرة إطلاقها، واقترح تمديدها إلى ثلاثة أشهر، طورت إلى سنة، وانتهت المشاورات إلى إدخال تعديل على المشروع، ثبتت بمقتضاه الإشارات التي وردت في المقدمة ضمن البند الأول الذي قرر الثوابت، كما تم التوافق على استمرار التهدئة حتى نهاية العام الحالي.
أيضاًَ ليس سراً أن تمديد التهدئة حتى نهاية العام، روعي فيه إعطاء فرصة كافية لرئيس الوزراء الإسرائيلي ارييل شارون لكي يتم سحب قواته من غزة، وحل إشكالاته المتعلقة بالمستوطنين والمستوطنات، واعتبار تلك الفترة مهلة يستعد خلالها كل طرف لمواجهة التحدي الكبير اللاحق، المتمثل في وضع الضفة الغربية، التي وصفها الدكتور رمضان شلح، الأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي، بأنها «معركة كسر عظم».
فهمت من خالد مشعل ورمضان شلح أنهما جاءا إلى القاهرة متفاهمين ومتفقين على ثلاثة أمور: أولها ألا تكون حركتا حماس والجهاد سبباً في إفشال اجتماع الفصائل في ظرف يطلب فيها الإجماع الوطني بشدة. وثانيها ألا يتنازل أي منهما عن الموقف الأساسي لحركته، باعتبار أنها حركة مقاومة أولا وأخيراً، دفعت الكثير من دماء وأرواح شبابها دفاعاً عن الحلم الفلسطيني. الأمر الثالث انهما جاءا يدفعهما حرص شديد على إعطاء الفرصة للسلطة الفلسطينية لكي تختبر ما وعدت به، رغم إدراكها لحقيقة أن الطرف الإسرائيلي «تخصص» في التحايل على الالتزامات والمراوغة فيها، أملا في أن يحصل على كل ما يريد بالمجان.
سألت الدكتور رمضان شلح عن عملية تل أبيب التي وقعت في أعقاب الاتفاق المبدئي على التهدئة بالقاهرة (في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي)، وقيل إن ثمة تسجيلات أثبتت أن قيادة حركة الجهاد أصدرت تعليمات بخصوصها من دمشق، فقال إن الذي قام بالعملية من عناصر الجهاد حقاً (كنت قد أشرت إلى أنه من أعضاء فتح، اعتماداً على ما نشرته الصحف، ولكن ذلك لم يكن صحيحاً)، ولكن تصرفه كان فردياً، علما بأنه من «المطاردين» الذين يتخفون في الكهوف والجبال، وليس صحيحاً أن ثمة تسجيلات كما يدعون، لأننا تحدينا القائلين بذلك أن يبرزوا دليلهم المؤيد لما يقولون، لكنهم فشلوا في ذلك حتى الآن، وقد تفهمت السلطة الفلسطينية ذلك، خصوصاً حين بلغها أننا منعنا تكرار ذلك التصرف، حين علمنا بأن ثمة عملية كبيرة لاحقة كانت جاهزة، وكان مقرراً أن يستخدم فيها 500 كيلوجرام من المتفجرات، حملت بالفعل في داخل سيارة، وكانت معدة للانطلاق صوب هدفها، وقد تركت السيارة في الطريق العام بعد تحميلها، وعثر عليها الإسرائيليون وقاموا بتفجيرها.
أضاف أبو عبد الله، إننا عند كلمتنا في التهدئة التي وعدنا بها، وحين يستجد ظرف يستدعي التحلل من الالتزام إذا جددت إسرائيل اجتياحاتها أو اغتيالاتها، فإننا سنعلن ذلك على الملأ، لكننا لن نعلن موقفاً ونتصرف على النقيض منه.
حين لاحظت في أجواء المؤتمر مدى التقدير والاحترام الذي قوبل به موقف حركتي حماس والجهاد، بإدراكهما لمسؤولياتهما الوطنية، ودفاعهما المستميت عن الثوابت الفلسطينية، خطرت لي على الفور الكتابات التي صدرت منذ أجل غير بعيد، عن أناس لم يكفوا عن استهدافهما بالدس والتحريض، ملوحين في ذلك بمختلف السخافات والاتهامات التي نسبت إليهما الإرهاب مرة، وتحدثوا عن انقلاب حماس على السلطة في مرة أخرى، وخوّفوا الجميع من إقامة ما أسموه إمارة حماس الإسلامية في غزة في مرة ثالثة…إلخ. وهي خلفية تستدعي السؤال التالي: إذا لم يكن ذلك الدس والتحريض لصالح العدو الصهيوني والأميريكيين الذين اعتبروا الحركتين ضمن المنظمات الإرهابية، فمن إذن صاحب المصلحة في إطلاق مثل تلك الحملات الخبيثة؟