على الرغم من أن الأم هي الأساس في حياة الطفل منذ الولادة، إلا أن دور الأب تبقى أهميته من نوع آخر، وذلك من خلال تقديم الحنان الأبوي، والسهر على حياة الطفل وحمايته من كل أذى، بالتواصل معه والتقرب منه، فينمو الطفل ويكبر على أسس تربوية سليمة، فالأدوار التي يقوم بها كل من الأب والأم مهمة جداً في النمو التربوي للطفل، رغم اختلافها.
إن بعض الآباء يظنون أن دور الرجل يقتصر على تأمين السكن والملبس، ويعرفون مفهوم رب الأسرة بأنه ذلك الديكتاتور المتسلط الحازم في كل شيء، لكن هذا خطأ فادح، فمشاركة الأب في تربية الأبناء شيء في غاية الأهمية، لما له من تأثير قوي في شخصية الأبناء، فالأب يستطيع تحقيق التوازن الأسري من خلال اهتمامه بأبنائه ومصاحبتهم ومعرفة أفكارهم وميولهم وهواياتهم. ويحاول أن يساعد في حل مشاكلهم، ومعرفة أصدقائهم، ويكون لهم الصديق المخلص الموجود دائماً، حتى لو كان غائباً، تبقى مبادئه وأفكاره راسخة في أذهان الأطفال، كما أنه عليه إرشادهم وتقويمهم واستخدام الحزم، إلى جانب الرفق والتسامح. ويؤكد الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله تعالى أهمية وجود الأب في حياة الطفل، إذ بوجود الأبوين معا، وحنانهما وعملهما الصالح يصلح المجتمع لأن “الأسرة لبنة الأساس في الأمة، والأسرة الصالحة أم صالحة وأب صالح وعمل صالح. وما يُصلح الأمّ ويُصلح ما بين الأب والأم من ضوابط شرعية وسياسات” (1)، وتؤكد الدراسات أن الأطفال الذين حظوا بوجود دور فعال للأب في طفولتهم، تكون لديهم مشكلات سلوكية أقل من أقرانهم.
فهناك من يعتقد أن دور الأب يبقى ثانويا أمام أثر الأم في حياة الطفل، “بينما الواقع يؤكد أن دور الأب يحمل الأهمية عينها؛ إذ إن أصول التنشئة السليمة تقتضي وجود الأب والأم أثناء تطوُّر الطفل ونموه، فالطفل في صغره لا يعرف ولا يميز بين الخير والشر، والصواب والخطأ، إنما لديه دافع فطري نحو طاعة من يوجهه ويرشده، فإن لم يجد هذه السلطة الموجِّهة الضابطة لتصرفاته، فإنه ينشأ قلِقًا حائرًا ضعيف الإرادة والشخصية” (2).
“ويحتاج الطفل إلى وجود أبيه بجواره جسديًّا وروحيًّا، ويمنحه هذا الوجود الاستقرار النفسي والقوة والقيم الأخلاقية؛ إذ يتصور الطفل أن أباه على علم بجميع المبادئ والقواعد، ونراه في الغالب يدافع عنه، ويفتخر به، ويشعر بالاستقرار إلى جانبه” (3). ويحتل الأب بجدارة مركز القدوة العملية الملقِّنَة للقيم في حياة الطفل؛ فقدرة الطفل على الالتقاط الواعي وغير الواعي كبيرة جدًّا وأحب شيء إليه أن يقلد أباه ثم أمه، فإذا غاب الأب بات مكانه شاغرًا أو ملأته قدوة سيئة يقلدها الطفل، وكلاهما سيء الأثر في تربيته.
وقد اهتم الإسلام بتوجيه الآباء نحو إحسان تربيتهم لأبنائهم، جاء في الأثر: “لأن يؤدب الرجل ولده خير من أن يتصدق بصاع” (4)، لذا يجب على الأب أن يتعرف على أساليب التربية ومبادئها، ومبادئ الأخلاق وطرق تلقينها، وقواعد الشريعة الإسلامية، فإن لم يكن على علم بها، وجب عليه أن يتعلم ما لا يعذر بجهله من أمور الدين.
إن نجاح تربية النشء لا يتوقف على أحد الأبوين بل بتظافر جهود الإثنين، وهذا ما يؤكده الإمام إذ يقول: “والطفل لا يتمسك بأبيه إلا في سن الثالثة من عمره. ففي هذه السنة يمنح الطفل لأبيه قليلا من عطفه. وقد يتفاوت هذا النصيب من المحبة حسب جنس الطفل. فالبنات قد يتعلقن بآبائهن أكثر مما يتعلق الأولاد. وهذا العطف الأبوي ضروري أيضا، لأنه يخفف من تعلق الطفل بأمه، ويكون عاملا يدخل التوازن في عاطفة الطفل، بل ويوجه سلوكه توجيها غير قليل. ويكفي أن نلاحظ سلوك الطفل اليتيم الأب لنعرف أهمية هذا العامل. فالطفل اليتيم الأب يكون متعلقا أشد التعلق بأمه، لا يشركها في قلبه مع أحد. ولذلك يتخذها مثالا ويقلدها. وربما نشأ جبانا كأمه، أو مستوحشا لا يخالط الناس” (5).
فعناية الأم ضرورة في البداية، يستتبعها التوجيه والإرشاد الأبوي، لصلاح الذرية ونجاحها في الدنيا والآخرة، فمصير الإنسان “هو مرور عبور الفرد على مسرح الحياة. أبرزه الله عز وجل إلى الوجود، وكلأته بعنايتها الأم، وغذاه الأب، واحتضنه المجتمع، وعلمته التجارب. ثم يموت. ثم يموت” (6).
فالتربية الراشدة هي مهمة مشتركة بين الأم والأب لإصلاح الذرية، وإنقاذها من الموروث التقليدي، ف”كيف نقطع حبال الموروث التقليدي الخامل من عادات وذهنيات وأنانيات ساكنة في الأجيال العتيقة، عالقة بالمخضرمة، دون أن نقطع حبل الفطرة الواصل بين أجيال الإسلام عبر تربية الأب والأم والقريب والجار ومعلم الخير والمسجد؟” (7).
فإن عجز الأب والأم معا عن تقويم ذريتهما وإصلاحها، ساد الانحلال والتفسخ في المجتمع، فدورهما تكاملي لا غنى لأحدهما عن الآخر، ومن ثم تتفسخ عملية التربية وإصلاح الذرية “لاسيما في المجتمع الفتنوي المغزو الذي تنحل فيه الروابط الأسرية، وتضعف فيه الأم، ويضعف الأب عن تقويم الطفل” (8).
فالأم ترضع أبناءها الخير والصلاح بداية، ليستأنف الأب عملية التربية بالتلقين والتوجيه، فإن “الواجب في حدود الوسع، وفي عمق التربية، وفيما ترضعه الأم لابنها وابنتها، وفيما يلقنه الأب لأبنائه وبناته، وهو رفض الولاء لعدو غاصب، ورفض الاستسلام، دينا يدين به المسلمون مهما اضطرت القوانين الدولية والمعاهدات الممضاة دولة المسلمين إلى تنكيس الراية” (9). ويذهب الإمام رحمه الله تعالى إلى أن أي تقصير من جهة الأب والأم في عملية إصلاح الذرية، يجعل النشء عرضة للأفكار الخطيرة الهدامة، “فإن كان الطالب طلع إلى الثانوية والكلية وما معه من سـلالة الفطرة وهداية الوحي ما يبصِّرهُ بضلال الأستاذ فقد تمددت الضحية أمام الجزار. إذا طلع الطالب ولم يسبِقْ إلى سمعه الفطري خبرُ الآخرة، ولا ألقَتْ إليه الأم ولا ألقى إليه الأب في نعومة أظفاره، ولا علمه معلم الابتدائية، أن الله تعالى هو الخالق العليم المحيي المميت باعث الرسل محيي العظام وهي رميم حسيب العباد ومجازيهم في الجنة أو النار فقد انفرد الأستاذ الفيلسوف بالمتلقي النموذجي” (10).
الإحالات:
(1) ياسين، عبد السلام، تنوير المؤمنات، 2/231.
(2) عدنان حسن باحارث، مسؤولية الأب المسلم في تربية الولد في مرحلة الطفولة، دار المجتمع، 1990، ص 82.
(3) هداية الله أحمد الشاش، موسوعة التربية العملية للطفل، ط 2، القاهرة، دار السلام، 1427هـ -2006م، ص104.
(4) سنن الترمذي، 1951. وأحمد 5/96، 20938.
(5) ياسين، عبد السلام، مذكرات في التربية، دار السُّلمي للتأليف والترجمة والنشر والطباعة والتوزيع الدار البيضاء، ط1، 1963، ص80.
(6) ياسين، عبد السلام، في الاقتصاد، ص230.
(7) ياسين، عبد السلام، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ص123.
(8) ياسين، عبد السلام، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، ص169.
(9) ياسين، عبد السلام، في الاقتصاد، ص220.
(10) ياسين، عبد السلام، العدل: الإسلاميون والحكم، ص528.