لطالما ردَّدْنا ولَوَّكْنا بألسنتنا المقولة الشهيرة “فرق تَسُدْْ” ومعناها أن أي جهة تريد السيادة والسلطة ما عليها إلا أن تُفَرِّقَ كل الذين يوجدون في حقل سلطتها سواء كانوا أشخاصا أم مؤسسات أم منظمات وهيئات. هكذا، كلما تفرق الجمع مُزَعاً سَهُلَت السيطرة عليه والتحكم فيه وقيادته. فضلا عن ذلك يصبح الكل قابلا للكسر؛ مُذَكِّرا إيانا بقصة الأب على فراش الموت الذي طلب من أبنائه أن يأتي كل واحد منهم بعودين، فأمر كل واحد أن يكسر واحدا، فكسره بسهولة متناهية، ثم أمرهم أن يجمعوا باقي العيدان في حزمة ودعاهم واحدا واحدا لكسرها فاستعصى عليهم الأمر، وبذلك علمهم أن “في الاتحاد قوة”. مات بوكماخ رحمه الله وجزاه الله عن أجيال غذّاها بالحكمة خير الجزاء، لكن فكرته تستعصي على الموت إن وجدت من يغذيها ويحييها في كل مجالات الحياة.
يُعدُّ مجال السياسة أكثر المجالات تأثرا بالمقولتين أعلاه سلبا وإيجابا، ففي الدولة المستبدة والمحتكرة للسلطة والثروة، إن كان من درس يُتَعَلَّمُ منها فهو درس “وحدة صفها”. في المغرب مثلا، تجد أن سلطة المخزن المستبد تتشكل من كل التلاوين الإيديولوجية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن كل الهويات والثقافات المختلفة، فالخيط الناظم بينها جميعا الولاء للسلطة وخدمتها لمصالحها من داخل هذا الولاء. على ذلك يعطينا المخزن درسا في صهر الاختلافات وتحويلها إلى قوة وسلطة مهيمنة. في هذا السياق قد تختلف هذه الأطراف شكلا، فتتصارع داخل دائرة الولاء على غنائم السياسة (المناصب) واقتصاد الريع (المشاريع والصفقات)، لكن هذا الصراع الشكلي لن يؤدي بها أبدا إلى تقويض السلطة التي ترعاها وتنعم عليها بالعطاء، وتضمن وتؤمن لها البقاء!
في المقابل تجد أن القوى الممانعة للاستبداد، والمكتوية بكل أشكال قهره وقمعه وتهميشه وتمييزه، مشتتة من داخلها ومبعثرة من داخلها، لا خيط ينظمها ولا أساس يقيمها ولا غاية تجمعها، والسبب في ذلك سوء ترتيب أولوياتها بحيث أضحى الإيديولوجي عندها بمثابة العربة التي توضع أمام الفرس وليس خلفه. إن أغلبية القوى الرافضة للاستبداد لم تصل بعد درجة الوعي بأن تقويض دعائم الاستبداد أولى من أي انتصار إيديولوجي يبقيها تحت وطأته ومظلته. علاوة على ذلك لم تتجاوز هذه القوى الداعية إلى الكرامة والحرية والعدالة الاجتماعية شرنقة الفعل الميداني المحصور في قضايا قومية من قبيل القضية الفلسطينية، وهو معطى يجرنا جرا إلى التساؤل: لماذا تقبل القوى الممانعة بالعمل الجبهوي في قضية مثل فلسطين متعالية عن كل ما هو أيديولوجي، في حين لا تقبل بالتسامي على هذا المعطى في قضايا الوطن ومستقبل الوطن؟ ما الذي يسمح بقبول الاجتماع على مائدة فلسطين، ولا يسمح بقبول الاجتماع على مائدة الوطن؟ ثمة سر في دهاليز هذه القوى ودواليب مؤسساتها يسمح بهذا التناقض في المواقف، وإلا فهو نفس الشارع السياسي وهي نفس الهيئات التي تتحرك فيه! وربما قد نجد الجواب عند المؤرخ المعطي منجب في حوار “ما بين قوسين” الذي أجراه مع الصحفية الريسوني، حين أشار إلى تهميش دور الأصوات الداعية إلى توحيد صفوف المعارضة لأسباب وضحها بكل جرأة وشجاعة.
إن المتابع للشأن السياسي المغربي سيدرك لا محالة أن قوة المخزن لا تكمن فى كفاءات نخبه ولا مؤهلات القوى السياسية الداعمة له، وإنما في شتات المعارضات، وقد تعمدت ذكرها بالجمع للتأكيد على أرخبيلها المترامي الذي لا تزيده مياه الاستبداد إلا تعرية وتفريقا كلما طال بها الزمن. إن المعارضات التي لا تزال تعتقد أن الجمهور سيلتحق بها ذات يوم وهي على هذا الحال موغلة في الوهم حتى النخاع، لأن الجماهير لا تمل من القول “نهار لي يتوحدو حنا معاهم، أما هوما مشتتين كلها كايقلب على مصلحتو”. كل عاقل سيتفق مع هذه المقولة، ذلك أن الجمهور المنحاز إلى المخزن المستبد يرى فيه ملاذا آمنا لمصالحه، أما الجمهور الرافض للاستبداد فلا يجد ملاذا سوى معارضات ممزقة إربا إربا وقابلة بهذا التمزيق، بل ساعية لإبقائه أو الزيادة في تفتيته.
إن أول خطوة نحو أي معارضة حقيقية وواقعية للاستبداد تنطلق من الإيمان بوحدة صف المعارضة، وذلك بجعل أساس الوحدة ميثاق سياسي هدفه المرحلي إعادة توازن القوة بين السلطة الحاكمة والمعارضة، وغايته تقويض الاستبداد وإعادة بناء سلطة جديدة تكون فيها الدولة في خدمة المواطن وليس العكس. ولعل بلوغ هذا الهدف وتلك الغاية يتطلبان تنازلات وتوافقات وتؤدة وبعد نظر تتعالى وتتسامى عن كل ما هو أيديولوجي حزبي ضيق.
بهذه الروح يمكن للمعارضات أن تصبح معارضة، ويمكن لهذه المعارضة أن تصبح قوة واقعية، وقاطرة للشعب نحو تغيير مدني سلمي يوقف آفة هدر الزمن السياسي، ويحد من معضلة الأجيال المعطوبة، والطاقات المهدورة، ويخرجنا من نفق الفساد والاستبداد نحو أفق الالتحاق بركب الأمم المتقدمة.
لقد كانت فلسطين ولا تزال تمرينا عمليا عندما وحدتنا تضامنا معها، وضربت لنا المثل الأعلى حين شكلت فصائلها في غزة غرفة عمليات موحدة ترفعت عن كل الإيديولوجيات، جاعلة المقارمة أساسها والتحرر غايتها؛ فنجحت في تهميش سلطة أوسلو وقهرت جبروت المحتل وجعلته يشك في بقاء وجوده. إن المعارضات مدعوة لتمثّل هذا الدرس لأنه تمرين نموذجي نجح في تقويض معظم المخططات التي قامت وتروم تصفية شعب بكامله. إن الدرس المشار إليه هنا وحتى لا يُخرج الكلام من سياقه هو توحيد الصف المقاوم على أساس وغاية تجعلان من الأيديولوجي وسيلة لا غاية.
لقد آن الأوان لكل العقلاء وأصحاب القرار في المعارضات الممانعة أن يتحملوا مسؤوليتهم التاريخية ويدفعوا في اتجاه توحيد كل الجبهات، والتصدي لكل الأصوات المغرقة في الصراعات الأيديولوجية الداعية بلسان حالها “اللهم الاستبداد ولا خصمي الأيديولوجي وإن كان يحمل نفس شعاراتي”. لقد علمنا تاريخ المغرب أن الأحزاب كانت قوية عندما كانت موحدة في كتلة سواء من داخل النظام أو من خارجه، ثم أصبحت ضعيفة حين فرقها سيد السلطة بأدواته، ولا سبيل لإعادة التوازن إلى السلطة إلا برص صفوف المعارضة وفق أرضية صلبة وأهداف واضحة، وإلا فإن المشكلة ليست في الاستبداد وإنما في أدوات الاستبداد المبثوثة داخل المعارضات، والتي لا وظيفة لها سوى رفع راية الأيديولوجيا وإعلان القطيعة مع كل مخالف، ومن ثم حرق شعار “الاتحاد قوة” وتكريس شعار “فرق تسد” نيابة عن المستبد. فهل من آمرين بمعروف الوحدة وناهين عن منكر التفريق، أم أن طريق التغيير لم يتضح بعد؟