تقديم
يحتل مفهوم وحدة الأمة في الفكر المنهاجي موقعا مركزيا، يراهن عليه الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله في ترميم جسم الأمة الممزق، باعتباره شرطا ضروريا لإقامة الدين والدولة، ومطلبا يصبح ملحا في واقعنا البئيس، “وهو بمنطق المقاصد والأصول مقدم على ما سواه من الواجبات، لأنه يقع في مقام الوسائل لغيره من الغايات ولأنه يأتي من باب ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب” [1]، وهي رؤية وضع لها الإمام معالم مستقاة من الهدي النبوي؛ في توثيقها لرباط الرحم العقائدية والآدمية، مشروع يرنو للتحرر من قيود التبعية والخمول، والتطلع نحو النهوض لبناء وتشييد صرح الفعل الشهودي المنشود، يقول رحمه الله: “الإسلام يرسم أهدافا للأمة، أولها أكثرها إلحاحا إقامة حكم إسلامي يوحد الأمة وينتزعها من قبضة أعدائها” [2].
وعليه ونحن غير بعيدين عن المشهد السياسي؛ قبيل الانتخابات وما تبعتها من أحداث تجلي بالبيان والوضوح أزمة الخطاب السياسي، المملى في كثير بنوده من ثقافات دخيلة ترمي لهدم ومسخ الهوية، تحت غطاء برامج براقة أثبتت عدميتها في دولة الفساد والاستبداد، بغض النظر عن نزاهة تفعيلها ونجاعة مضمونها. نقدم في هذه الورقة تلخيص المعالم الكبرى للمشروع المجتمعي؛ الذي يشترط الإمام في نجاحه توافقا تعدديا يجمع ويوثق الروابط بين مختلف الفرقاء الغيورين ذوي الهمم العالية والإرادة في التغيير والبناء. فما هي أهم المعالم الممهدة لوحدة تسعى لرأب الصدع والإصلاح؟ وما هي عناصر تحقيقها؟
وهو ما سنحاول الإجابة عنه من خلال محورين اثنين.
المحور الأول: بعض ملامح التصور المؤسس للفعل المجتمعي.
المحورالثاني: خطوات على طريق نجاح الفعل المجتمعي.
أولا: بعض ملامح التصور المؤسس للفعل المجتمعي
إن مركزية وحدة الأمة في فكر الإمام، جاءت في سياق الرؤية الثاقبة للواقع الذي لا يمكن أن يقرأ إلا في سياقات متعددة، أولها السياق التاريخي الذي استفاد منه كثيرا في تفسير حاضر المسلمين، وقد اعتبر ما ضاع من عزة الأمة راجعا بالأساس إلى ضياع اللحمة والوحدة التي جمعت المسلمين ورفعت شأنهم بين الأمم، لذلك نجده رحمه الله يؤكد على أن “وحدة دار الإسلام بيت الإسلام ضرورة ملحة وواجب شرعي وأمل عزيز على الأمة” [3]، وأن “لاقوة إلا بوحدة المسلمين عربا، ثم عربا وعجما، ولا بقاء في عالم التكتلات لكيان هزيل” [4]، وفي إصراره ذلك؛ ما عهدناه في رؤيته الشمولية المستقاة من الهدي النبوي، فالخطاب القرآني يتوجه للأمة المتماسكة حتما وليست المتفرقة، ودليل ذلك قوله تعالى: إِنَّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَٰحِدَةً وَأَنَا۠ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُونِ [سورة الأنبياء، الآية 92]، وقوله صلى الله عليه وسلم: (مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ، وَتَرَاحُمِهِمْ، كَمَثَلِ الْجَسَدِ الْوَاحِدِ، إِذَا اشْتَكَى عُضْوٌ مِنْهُ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْأَعْضَاءِ بِالسَّهَر والحمى) [5].
من هذا المنطلق تتأسس رؤية الإمام للمشروع المجتمعي، ويجول في صفحات تاريخ المسلمين ليأخذ العبرة بعوامل اندحارهم وتشتتهم، وينتقي المسميات ليبني عليها ما يؤسس لوجهة صائبة من خلال مرونة؛ هدفها التأليف وترميم ما يمكن ترميمه من جراحات راكمتها سنوات قهر السيف والخلافات المذهبية والظلم والاستبداد، ليعرج على مفهوم الفتنة بعد وقوفه مع أسبابها، لا يتسع المجال للتفصيل فيها، وإنما غرضنا فهم ممهدات التخاذل والخمول، الذي كان مبرر شريحة عريضة لتنزوي بعيدة عما حل من فتن وتشتت، مختارة النجاة بنفسها دون غيرها.
على هذا الأساس وفي ظل التقلبات التي عانت منها الأمة وما انتقض فيها من عرى، نجد الإمام رحمه الله حريصا على نعت المجتمع بوصف نبوي؛ مفاده «الفتنة»، فيقول: “ونحن نفضل استعمال كلمة «فتنة» لوصف مجتمعاتنا، فهي كلمة نبوية، وفي كتب الحديث فصول خصصت لذكر ما حدث به الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم عن نشوء فتن واضطرابات في الأمة، ما ذكر أنها تخرج الأمة عن إسلامها. إنما هي أمراض، بعضها أخطر من بعض، والزيال الواجب لها ليس في الانسحاب والاستعداد لنسفها، لكن في معالجة الفتنة لنقضي على الفتنة لا على الناس” [6]، فهو يرفض رحمه الله مسميات قدحية متعارف عليها من مثيل الجاهلية أو التخلف، باعتبار أن “الأفق واسع والمشروع الإسلامي الذي تعمر نيته وإرادته الرغبة في المساهمة فيه قلوب مئات الملايين من المسلمين الرازحين في أغلال الجهل والمرض والفقر، في بلايا مباشرة وغير مباشرة وجهها المادي يسمى بلغة العصر تخلفا اقتصاديا وفوضى اجتماعية وتبعية سياسية، ووجهها المعنوي يسمى بلغة الكتاب والسنة فتنة تغذوها روافد الجاهلية من مجاري الثقافة الكافرة الغازية، والتسلط الامبريالي والنهب الطبقي” [7].
تلك القراءة الحصيفة لتاريخ المسلمين وأسباب اندحارهم، ينطلق منها الإمام في بسط مشروعه المجتمعي الرامي للتآلف والتوافق، وحوله يؤكد أن الفتنة تتطلب الصبر والعزم في تغييره، إذ “من يحاول تغيير المجتمعات المفتونة لا بد له أن يتقدم إلى الميدان وله من القدرة على مواجهة الواقع المكروه، ومن قوة ضبط النفس، وقوة الصبر والتحمل، وقوة الصمود والثبات على خط الجهاد مهما كانت القوى المعادية متألبة” [8].
ثانيا: خطوات على طريق نجاح الفعل المجتمعي
تجدر الإشارة إلى أن أنسب طريق لبلوغ ما ألمحنا إليه آنفا في رؤية الإمام هو «التجديد»، باعتباره العلاج الصائب لمرض الفتنة والخروج منها، بل هو طريق نهضتها، تجديد جامع يشمل الفرد والجماعة، ينطلق من تجديد الإيمان في القلوب إلى تحقيق الاستخلاف الأرضي؛ موعود الله تعالى لعباده المؤمنين. يقول تعالى: وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ مِنكُمْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِى ٱلْأَرْضِ كَمَا ٱسْتَخْلَفَ ٱلَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ ٱلَّذِى ٱرْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنۢ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِى لَا يُشْرِكُونَ بِى شَيْـًٔا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُوْلَٰٓئِكَ هُمُ ٱلْفَٰسِقُونَ [سورة النور، الآية 55].
تجديد يحيي الأصول في القلوب، وليس “تغييرا للثابت من شرع الله، فإن أحكام الكتاب والسنة ماضية إلى يوم القيامة” [9]، شرط أن ينبري إليه جماعة من المؤمنين، وليس فردا واحدا، ولا أفرادا مجتهدون، بل ويؤكد ضرورة وجود متخصصين في كل الميادين، “إذ لا يكفي ولا يفيد أن يجتهد الفقيه المطلع على الأحكام، العارف بأصول الشريعة، بل لا بد أن يشرك في اجتهاده رجل الاقتصاد الذي يحدد الأهداف، ويعرف بضرورات العصر، وصرامة المنافسة الاقتصادية في العالم، والأحجام، والآليات الأساسية المطلوبة للإنتاج، وحاجة الأمة للمال، ومصادر التمويل المتاحة، واضطرار الأمة للاقتراض من الخارج، وشروط توفير الأموال واستثمارها، ولا بد أن يشرك معه رجل الدعوة، إن لم تجتمع في الدعاة أنفسهم كفاءات الفقه وشروط الاجتهاد، ليذكره بأهداف العدل، وقسمة المال، ومحاربة الطبقية، ولا بد أن يشرك معه رجل الإدارة والحكم ليطلعه على الواقع، وعلى إمكانيات التطبيق، وفراغات التشريع التي يدخل منها التزوير، والخيانة، والسرقة، وعلى دروس التجربة، وتقنيات الصياغة، والتخصيص والضبط” [10]، وضمن جميع التخصصات لا يفتأ أن يذكر بضرورة حضور المرأة ومشاركتها في وضع لبنات الاجتهاد [11]؛ من خلال ما حباها الله من خاصية وظيفة الحافظية، فضلا عن كعبها العالي وتفوقها في جميع التخصصات العلمية.
وإجمالا فالتجديد المنهاجي يسعى لتجاوز النمطية التي أفرغته من روحه إلى الرحابة والشمولية في الانفتاح على جميع المجالات سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية.
وضمن تلك الرؤية الشاملة للمشروع المجتمعي الجامع يقترح الإمام دروبا أخرى للالتقاء؛ من خلال بسطه مشروع تدبير الاختلاف مع المخالفين، وقد وضع لها ضوابط نذكر بعضا منها:
1- الحوار
من حيث هو ضرورة في التأسيس لبناء مستقبل مشترك وجامع، فلا يمكن للأمة “أن تواجه تحديات الحاضر والمستقبل إن لم تجمع ما فرقته عصور الخلاف. وإنما يمكن ذلك بنصب الجسور، والتعاون الفعلي في جهود البناء، لتكون نتائج البناء المشترك حافزا على توحيد النظرة بعد حين” [12]؛ من خلال مبدأ التدرج والحكمة في إرجاء المختلف فيه لتوافق مستقبلي، وهو ما يؤكده الإمام في قوله: “لا ينبغي أن نؤجل الحوار، ولا أن نستعجل الوفاق، ولا أن نيأس لما نراه خلفنا من أهوال تاريخية” [13].
ولا غرو فهو مشروع تشهد مواقف الجماعة على عزمها الصادق في تنزيله على أرض الواقع، من خلال سلسلة من المبادرات الرامية لتعميق الحوار ومد جسوره بين الفرقاء السياسيين في أفق إيجاد شكل من التوافق الساعي لبناء صرح التحرير والتغيير والتنمية، نذكر منها:
اليوم الوطني للحوار: اعتمدت الجماعة ذكرى حصار مرشدها منذ يناير 1998، محطة سنوية للتواصل مع مختلف القوى السياسية والفكرية داخل المجتمع، في شكل ملتقى تحضره هذه القوى، وقد تحول بعد رفع الحصار إلى يوم وطني للحوار، فنظمت أول مائدة من هذه المبادرة في يناير 2001، تحت عنوان «الحوار بين الضرورة والاختيار».
وفي دجنبر 2007، أصدر المجلس القطري للدائرة السياسية في دورته الثانية عشرة، للدعوة والتآلف والتعاون وإنقاذ الوطن، نداء «جميعا من أجل الخلاص».
وبالمثل أطلق رئيس الدائرة السياسية الدكتور عبد الواحد متوكل نداء «حلف الإخاء».
وعلى مشارف انطلاق الحراك المغربي في مارس 2011، أطلقت الجماعة لنفس الهدف نداء «قبل فوات الأوان».
وآخر المبادرات الندوة الحوارية «المغرب وسؤال المشروع المجتمعي» التي عقدت يومي السبت والأحد 11-12 دجنبر 2021، بمناسبة تخليد الذكرى التاسعة لرحيل الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله، دعت للبحث في سبل التغيير العميق، وإيجاد الرؤية الواضحة في بناء المشروع المجتمعي الجامع.
2- الميثاق
إن التجربة الإنسانية على مر العصور أثبتت ضعف المواثيق والعهود الوضعية؛ باعتبارها تؤطر بمصالح مذهبية وطائفية، صيغت بسيف الغالب وسيف القوة المتحكمة في رقاب المستضعفين، مما يضعف بالتأكيد جانبها الأخلاقي، ويزعزع رابطتها التي بنيت على أساس واه، وفي ذلك يقول الإمام: “ميثاق الله والميثاق القانوني الدولي نقيضان في انطلاقتهما وأهدافهما، نقيضان في مقوماتهما وبواعثهما ووسائلهما، فشريعة الله وميثاقه وفاء بالعبودية له سبحانه، من استقام عليها وعدل وأحسن كانت له ضمانا لمصلحة الدنيا والآخرة، وقوانين المعاش البشرية ودساتير الدول الديمقراطية والمواثيق والعهود الدولية شرائع عمادها القوة لا التقوى” [14].
الميثاق إذن في رؤية الإمام أكبر من علاقة تجمع الحاكم بالمحكوم، أو بين قوي وضعيف أو بين منتصر ومهزوم، بل هي رابطة متينة تجمع الفرقاء على أمر سام، وإذا كان الهدف سامي فالناظم الجامع حول بلوغه لا بد أن يكون أسمى، هي رابطة متينة تجمع وتوثق وتعقد بما يحمله المفهوم من معنى مادي يلمح للرباط الغليظ، الذي مثل له القرآن الكريم في رابطة الزواج السامية، التي هي “عهد وطيد غليظ، بهذا وصفه الله عز وجل في الزجر عن رجوع الرجل في صداق المرأة وأكله بالباطل فقال: وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً [سورة النساء، الآية 21]. الإفضاء وصلة بين جسمين أعطاها القرآن حُرمتها، والميثاق عهد بين ذِمتين، فتَلاءم الاعتباران، الجسدي والنفسي القلبي، ليكوِّنا الوَثاق ويمتِّناه” [15]، وبالمثل لا يمكن لأي ميثاق أيما كان إلا ويلزمه التقيد بواجبات مادية ومعنوية تسمو بروحه وترفعه إلى مصاف الروابط المتينة الغليظة.
هذا بالنسبة للجانب المادي أما المعنوي الذي يعزز الرابطة ويكمل المادي فيها؛ فهي الثقة الملزمة لاستمرار العلاقة والذود دونها بصدق وثقة في تحقيق آمال ذاك الاجتماع، ثم إن الثقة المتبادلة بين الأشخاص والفرقاء واليقين في كل ما تم التوافق والتراضي عليه، لا ريب يبدد الحواجز والعقبات.
وعليه فإن الميثاق في رؤية الإمام ينبني على أرضية بساطها الإيمان، بل هي الإيمان نفسه، وهي خاصية قد يفهم منها أن لا مكان فيه للمخالف في الاعتقاد من أصحاب المروءات، وهو ما ينفيه الإمام في كتاباته التي تؤكد؛ أن لا وجود لميثاق دونهم وغيرهم ممن تحررت فيهم الإرادة للتغيير والإصلاح. يقول رحمه الله: “الدين إسلام وإيمان وإحسان. درجات. ولا مناص من أن نتعامل ونتعاون في داخل المجتمع مع ذوي المـروءة على ما معهم من ديـن. لا ننتظـر حتى يكون الناس جميعا على مستَوَى أهل الكهف والرقيم من اليقظة الإيمانية. وفي خارج المجتمع مروآت بلا دين، وغياب المروءة والدين معا، ولا منـاص من التعامل الدولي والتعاون والتبادل. لا مناص من التعامل مع القُوى الحاقدة على الإسلام، مع القانون الدولي اللاأخلاقي” [16].
هو الميثاق الجامع إذن؛ يخاطب الفطرة النائمة ويدعوها لرواء حياتها بنور الإيمان والصدق في الطلب، والاستجابة لنداء الحق تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّيْنَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقًا غَلِيظاً* لِّيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً [سورة الأحزاب، الآيتان 7 و8].
يخاطب العلماء والعاملين للتعاون في بناء صرح متين وواع بمسؤوليته في إحقاق الحق ومعارضة الباطل [17].
يخاطب ذوي المروءات ويدعوهم لميثاق يجتمع على احترام الإنسان ومحبته ونبذ العنف والكراهية، يقول: “نحن معك أيتها النفوس الخيرة عندما تنتفضين ضد منفذي الأعمال الوضيعة التي تحرض عليها قوى العصر أو تثيرها القوى الصغرى المحلية الشيطانية، نحن معكِ، نحن الأوفياء للإسلام، وسنكون معك أكثر فأكثر، نحن الأتباعَ المؤمنين إيمان أبينا إبراهيم محطمِ الأصنام الصادع بالحق، نمد لكم اليد، أيتها النفوس المتآخية في الإنسانية، مهما كانت اعتقاداتكم ما دامت الرحمة الإنسانية والمحبة لبني البشر تنعش قلوبكم وأعمالكم، إننا وسنبقى دائما على استعداد، وكلنا عزم وثقة في رحمة الله عز وجل، لمد اليد إلى الرجال والنساء ذوي الإرادة الطيبة والاستعداد النبيل. سنبقى كذلك حتى نعقد ميثاق عدم الاعتداء على الإنسان وعلى كرامة الإنسان، ميثاق رفق شامل بالإنسان، ميثاق رفق فعال ونشيط وباذل، إننا كذلك حتى نقضي على الإقصاء والحقد العنصري، واحتقار خلق الله عز وجل، والعنف على الإنسان والوسط الحيوي للإنسان” [18].
يخاطب جماعة المسلمين؛ من جماعات ومجتمعات إسلامية، للاجتماع على كتاب الله والنأي عن الخلافات المذهبية والعقدية.
يخاطب السياسيين من أبناء الوطن ويدعوهم لتوحيد الصفوف والاجتهاد فيما يحقق التوافق والتشارك على الإصلاح الموافق لثقافة «الشعب» ومرتكزاته، وأسطر هنا على «الشعب» باعتباره مفهوما يعني الكثير عند الإمام، حيث يضعه في خانة الميثاق السياسي المأمول، بل ويجعله الشرط الأساس في نجاح أي مشروع إصلاحي، من خلال استحضار ثقافته وضعفه وآماله وهمومه، تحترم قراراته واختياراته دون قهر أو استبداد، والمسؤولية متبادلة؛ حقوق وواجبات في أفق نجاح مساعي الإصلاح، إذ على الشعب كذلك تحمل المسؤولية في صمته كما في صدعه لانتزاع حقه، وحوله يقول الإمام: “إن المدافعين الثوريين عن حقوق الشعب إنما يريدون من الشعب «انقيادا» آخر يصفق لهم ويرفع شعاراتهم ليستغلوا «المخزون النفسي» الديني لدى الجماهير الإسلامية كما تُسْتَغَلُّ الدفائن النفيسة. ونحن نريد من هذه الجماهير أن تستيقظ لما يطلب إليها دين «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» لتتحمل مسؤوليتها فاعلة غير مفعولة، مراقبة كلاًّ في ميدان مسؤوليته، معارضة منتقدة” [19]، تنتزع حقها في المشاركة السياسية الفعلية “لتستنير الطريق، وينكشف الزيف، ويعرف الحق، وتختار الأمة، وينفضح الدخيل، ويَخزَى المنافق” [20].
وأخيرا نخلص إلى أن تجاوز ما تعيشه الأمة من توترات واضطرابات، لا يمكن بلوغه في الرؤية المنهاجية إلا من خلال “نقاش عام يشارك فيه الجميع دون استثناء أو إقصاء” [21].
[1] مجموعة من الباحثين، وحدة الأمة في فكر الإمام عبد السلام ياسين، إفريقيا الشرق، ط1، 1436هـ/ 2015م، ص19.
[2] عبد السلام ياسين، مقدمات في المنهاج، دار لبنان للطباعة والنشر، ط1، 2018، بيروت، ص20
[3] عبد السلام ياسين، نظرات في الفقه والتاريخ، مطبعة فضالة، ط1، 1989، المحمدية، ص4.
[4] عبد السلام ياسين، في الاقتصاد البواعث الايمانية والضوابط الشرعية، ط2، 2003، البيضاء، ص239.
[5] البخاري، الجامع الصحيح، كتاب الأدب، باب رحمة الناس والبهائم وغيرها، رقم 6011.
[6] عبد السام ياسين، المنهاج النبوي تربة وتنظيما وزحفا، الشركة العربية للنشر والتوزيع، ط1، 1989، القاهرة، صص264-265.
[7] عبد السلام ياسين، مجلة الجماعة، ط1، 1399هـ/ 1979م، ص36.
[8] المنهاج النبوي، م س، ص292.
[9] المنهاج، م س، ص39.
[10] المصدر نفسه، ص307.
[11] عبد السلام ياسين، الإسلام والحداثة، ط1، 2000 ، ص211.
[12] عبد السلام ياسين، الخلافة والملك، دار لبنان للطباعة والنشر، ط1، 2018، بيروت، ص41.
[13] المصدر نفسه، صص41-42.
[14] عبد السلام ياسين، تنوير المؤمنات، مطبوعات الأفق، ط1، 1996، الدار البيضاء، ج1، ص104.
[15] تنوير المؤمنات، م س، ج2، ص153.
[16] عبد السلام ياسين، العدل الإسلاميون والحكم، ط1، 1420-2000م، ص 599.
[17] العدل، م س، ص 137.
[18] الإسلام والحداثة، م س، ص 22.
[19] العدل، م س، ص136.
[20] عبد السلام ياسين، حوار مع الفضلاء الديمقراطيين، مطبوعات الأفق، ج1، 1994، الدار البيضاء، ص6.
[21] الإسلام والحداثة، م س، ص 306.