2- المخزن ورعاية الفساد
في المقال السابق فصلنا القول في منظومة الاستبداد السياسية والإيديولوجية التي تشرع احتكار المخزن للسلطة واستئثاره بالحكم، وفي الوسائل والقنوات الضبطية والردعية التي يوظفها لإحكام السيطرة والاكتساح المجالي، وترسيخ الحضور الدائم والفاعل في جميع المجالات. وفي ظل هذه الهيمنة والاستبداد تنمو كل أنواع الفساد وأشكاله؛ بل الأدهى والأخطر أن الفساد أصبح صناعة لها مؤسساتها ومخططاتها وشبكتها ومواردها تتجذر وتنتشر تحت نظر المخزن ورعايته.
أ- المخزن الاقتصادي: استئثار بالمال والسلطة
إن الوضع الاقتصادي والاجتماعي يزداد سوءا وبؤسا؛ لا يتناسب إطلاقا مع الموقع الاستراتيجي للمغرب ومؤهلاته البشرية، وموارده الطبيعية والفلاحية والمعدنية، وقدراته الصناعية والتجارية والسياحية وذلك بسبب نهب الخيرات والثروات، واحتكار الأرباح والمداخيل من طرف نخبة من المتنفذين تشكل ما يسمى “بالمخزن الاقتصادي”.
والمخزن الاقتصادي تحالف مصلحي يضم مجموعة من الأقليات، تمتلك النفوذ الاقتصادي والسياسي (أو السياسي والاقتصادي يجوز الوجهان)، وتشارك – بشكل مباشر أو غير مباشر – في صنع القرار السياسي والاستراتيجي بالمغرب، والذي تصبو من خلاله للحفاظ على مصالحها وامتيازاتها…
فالاقتصاد يستفيد من نفوذ السياسة وسلطتها ودعمها؛ فتحتكر الأسواق والمبادلات، وتتقوى الأرباح، وترتفع أرقام المعاملات، وتتراكم الثروات بشكل فاحش وفي أيادي قليلة.
والسياسة تستفيد من نفوذ الاقتصاد، فتصرف الأموال والامتيازات من أجل الاغتناء الفاحش للنخبة المتنفذة ضمانا للولاء والتبعية، وتكريسا للهيمنة والأحادية السياسية، وشراء للذمم واكتسابا لأعضاء جدد من المعارضين، وترسيخا للطاعة والخضوع من طرف الشعب عن طريق تفقيره وتهميشه، والتحكم في معاشه ومصيره.
هكذا يصبح المخزن الاقتصادي الوجه الخفي والمعلن للمخزن السياسي، أو قل إنهما وجهان لعملة واحدة. وإذا كان “الحكم – حسب اللورد اكطون – يفسد، والحكم المطلق يفسد بإطلاق” فإن احتكار الحكم والهيمنة على الاقتصاد ومصادر الثروة يشكل مفسدة عظمى، واستعبادا للشعب وإذلالا له.
إن الاستئثار بالسلطة والمال فرعونية متجددة، وتأله على الأمة، وتحكم في خيراتها ورزقها وإرادتها ومصيرها.. وتتجلى هذه الهيمنة المخزنية على الاقتصاد ومصادر الثروة في مظاهر عدة نذكر منها:
* احتكار رسم التوجهات الإستراتيجية للسياسة الاقتصادية، وخضوع البرامج الحكومية للتوجيهات الملكية في المشاريع التنموية، بما يضمن الحفاظ على مصالح الكبار (سياسة المغربة، تفويت الأراضي الفلاحية، سياسة بناء السدود، التقويم الهيكلي، الخوصصة، اتفاقيات التبادل الحر…).
* سيادة اقتصاد الريع وتكريس التوزيع الغير العادل للثروات من أراضي وأموال وامتيازات وتراخيص في مجالات اقتصادية متنوعة مثل: تصاريح النقل، الصيد البحري، استخراج الرمال،… والتي يستفيد منها أصحاب النفوذ وشخصيات كبيرة في الدولة من عسكريين، وأمنين وسياسيين،… في غياب تام لقواعد التنافسية والشفافية، وفي خرق سافر للمساطر القانونية.
* المؤسسة الملكية تتصرف وحدها في خمس الثروة الوطنية، وتنفرد بامتلاك ما يقارب 30% من القدرات الإنتاجية الاقتصادية المغربية عن طريق شركات أخطبوطية (أونا، سيجر، الشركة الوطنية للاستثمار ..) وتستثمر في أغلب الأنشطة الاقتصادية، وتستحوذ على أهم القطاعات الإستراتيجية: كقطاع المال، الأبناك، التأمين، المناجم، الصناعات الاستهلاكية والغذائية والكيماوية، التوزيع، البناء، الأسواق الكبرى، السياحة، … وهي بهذا تحقق أرباحا خيالية، وتراكم ثروات ضخمة؛ فقد أعلنت الشركة الوطنية للاستثمار والتي يملك المجمع الملكي siger سيجر أزيد من 60% من حصتها عن ارتفاع كبير في صافي أرباحها وأصولها إلى 828 مليار سنتيم بارتفاع وصل إلى سنة 347% في 2010، في وقت يشهد فيه العالم – والشركات العملاقة المتعددة الجنسية – أزمة اقتصادية خانقة.
* لجوء المخزن حماية لمصالحه إلى محاصرة الفاعلين الاقتصاديين غير الدائرين في فلك المؤسسات الاقتصادية المخزنية، واستعمال مختلف الأسلحة الاقتصادية والسياسية لمواجهة كل مؤسسة تقترب من دائرة نفوذ المجمع المالي الملكي، أو تتجاوز الخطوط الحمراء المسموح بها؛ كما وقع –مثلا- للشركة السعودية “صافو لا” العاملة في مجال زيوت المائدة، لما دخلت زيت “عافية” في منافسة مع شركة لسيور كريسطال التابعة لأونا . فكانت نتيجة هذه المنافسة غير المتكافئة وغير الشريفة بين الطرفين أن حولت الشركة السعودية استثماراتها إلى الجزائر.
* مراكمة مجموعة صغيرة من العائلات لثروة ضخمة، ونفوذ اقتصادي قوي 1 ، لم يأت نتيجة الإبداع والإنتاج والاستثمار، بل من خلال ارتباطهم بالمستعمر في فترة الحماية، ونسج علاقات تجارية وصناعية نافذة معه، ومن خلال اندماجهم مع المخزن واستحواذهم على الأراضي الزراعية المسترجعة من المستعمر، وعلى أكثر من64 في المائة من الرساميل الناتجة عن عملية المغربة. كما تشكلت – في عهد الاستقلال – نخبة أخرى من العائلات النافذة والثرية، نتيجة ممارستها لبعض الوظائف العليا في جهاز الدولة (الجيش، الأمن، الوزارات، البرلمان، المؤسسات العمومية، المجالس المنتخبة …) والتي استغلت موقعها للاستيلاء على الأراضي في البوادي، أو الدخول في مجال المضاربات العقارية، أو الحصول على التسهيلات المالية والإدارية، أو الاستفادة من رخص التصدير والاستيراد أو الصيد البحري في أعالي البحار، أو رخص مقالع الرمال أو استخراج المعادن.
* غياب تنمية اقتصادية شاملة، ومشاريع استثمارية منتجة، ومقاولة مواطنة مبدعة، تروم بناء اقتصاد قوي يرقى بالمستوى الاجتماعي والمعيشي لجميع المغاربة، ويحرص على التوزيع العادل للثروات على الجميع دون احتكار أو إقصاء…فهل بوضع اقتصادي يسوده : اقتصاد الريع، النهب، الفساد، سوء التدبير، الرشوة،الصفقات الوهمية والمشبوهة… يمكن أن نخوض ونواجه تحدي العولمة والتبادل الحر والمنافسة الأجنبية. فالفساد المستشري في كثير من الإدارات والمؤسسات والمقاولات (المحسوبية، البيروقراطية، استغلال النفوذ،التهرب الضريبي،الصفقات المشبوهة، الاحتكار…) سبب إعراض المستثمر الأجنبي – الضروري لاقتصادنا ولحضورنا التنافسي في السوق العالمية – وتوجسه من المخاطرة بأمواله في بلادنا … فكيف يمكننا تحقيق إقلاع اقتصادي ومؤسساتنا وجهازنا القضائي وإدارتنا في أوضاع مخزية، فكيف نقنع الأجانب بالاستثمار في بلدنا والإجراء الإداري البسيط يتطلب شهورا أو سنوات؟… إلى أن يرضى الوسيط المقرب من الدوائر العليا عن حصته من أسهم شركتك، أو تصحو من غفلتك وتفيق من مثاليتك…لكي تستثمر في المغرب، عليك أن تحترم “قانون القهيوة” من أسفل السلم إلى أعلاه، وانتهاء بالسادة المتربعين على قمة الهرم، كل حسب تعر يفته، بدءا من الورقة الحمراء إلى الظرف المكتنز، أما الشيك المحول إلى رصيد في البنك السويسري، فهو وسيلة الأداء النظيفة لمن علا في سلم السلطة) 2 .
إن ثمرة هذه السياسة المخزنية المتحكمة في دواليب الاقتصاد، تفضحها الإحصائيات الكارثية التي تضع المغرب في مؤخرة الركب العالمي على جميع الأصعدة، نذكر منها –على سبيل المثال لا الحصر، ومن خلال تقارير رسمية وطنية ودولية– ما يلي:
* ما يناهز 10 مليون مغربي لا يفوق دخلهم 10 دراهم يوميا.
* تتفاوت الأجور في المغرب مابين 1 و1000 بينما لا يبلغ بل يقل أحيانا هذا التفاوت عن نسبة 1 إلى 10 في أوربا.
* احتل المغرب الرتبة 122 عالميا سنة 2008 في مؤشر احترام حرية الصحافة. لينزل إلى الرتبة 127 من أصل 175 دولة سنة 2010.
* مؤشر التنمية البشرية: الرتبة 126 سنة 2008 من أصل 177 دولة. لينزل إلى الرتبة 130 سنة 2009.
* المؤشر العام للنزاهة: الرتبة 53 من أصل 59 دولة سنة 2006 .والرتبة 59 من أصل 85 دولة سنة 2008.
* مؤشر الرشوة: الرتبة 80 من أصل 180 دولة سنة 2008. والرتبة 89 سنة 2009.
* بلغ معدل الفقر بالمغرب 31 في المائة بمعيار دليل الفقر البشري.
* تقرير التنمية البشرية يحدد نسبة البطالة في %16، في حين تقدرها التقارير الرسمية على المستوى الوطني بـ% 9.1 سنة 2009.
* تقرير البنك الدولي حول مناخ الاستثمار بالدول لسنة 2010 صنف المغرب في الرتبة 128.
* التقديرات تؤكد أن كلفة غياب الشفافية في إبرام النفقات العمومية بالمغرب تصل إلى 3.6 مليار دولار (30 مليار درهم) من حوالي 130 مليار درهم. أي بنسبة %26 من الاستثمارات العمومية وحوالي %5 من الناتج الداخلي الخام.
* %30 من سكان البوادي وهوامش المدن محرومة من الكهرباء، و%20 محرومون من الماء الصالح للشرب.
* %50 من الأجراء محرومون من التغطية الصحية.
* صنف البنك الدولي المغرب على مستوى الدخل الفردي في الرتبة 136 عالميا من بين 213 دولة.
* ما يقارب %50 نسبة الأمية بالمغرب.
*المغرب ثاني قبلة للسياحة الجنسية بعد تايلاند…
* ينتج المغرب 30 إلى 40 مليون لتر من الخمور…
هذه أمثلة فقط للنتائج الفظيعة المترتبة على هيمنة المخزن على الاقتصاد، فضلا عن أثار أخرى لا تقل خطورة: كهجرة الأموال والأدمغة والاستثمارات، تدهور الإنتاج، تراجع فرص الشغل، إنهاك خزينة الدولة،ارتفاع نسبة الفقر والتهميش من جهة والغنى الفاحش لفئة قليلة من جهة أخرى، تبذير المال العام، انعدام الأمن الاقتصادي والاجتماعي، عدم الاستقرار السياسي.. وكل هذا يحتم – شرعا وقانونا ومنطقا وواقعا – ضرورة الفصل بين الثروة والسلطة، بين ممارسة الحكم وتدبير الاقتصاد. ومحاسبة ومحاكمة جميع المسؤولين عن الجرائم الاقتصادية والاختلاسات، وملفات الفساد وتبذير المال العام.
ب- بعض قواعد الحكم المخزني
1- إن الهم الأكبر للمخزن هوا لحفاظ على استقرار الحكم، ومصالح النخبة المتنفذة وامتيازاتها، معتمدا في ذلك على قدرته الكبيرة في الاختراق والانتشار في جميع الهياكل والقنوات والمجالات التي تمارس فيها السلطة سواء كانت إدارية أو عسكرية أو مالية … فالمخزن يتمتع بسلطة متأصلة في المجتمع تجعله فوق كل الاعتبارات إذ تمكنه من ترتيب شؤون الجماعة وفق مصلحته، كما تمده قدرته على التموقع في الداخل وفوق المجتمع بقوة خارقة. إن المخزن يعرف كل فرد، ومكانة الفرد داخل المجموعة، ووضع المجموعة ضمن القبيلة. وعليه، فإن بإمكانه اختيار من يريد تشريفه بمنصب من المناصب، أو الزج به في غياهب النسيان. والمخزن متمرس كذلك في فن تقييم ميزان القوى المحلي، فهو يقيم وزنا لقدرات وتطلعات الأفراد المؤثرين: يعرف ماضيهم وثرواتهم ومدى تأثيرهم وانتمائهم العائلي ومكانتهم الدينية والعلمية وهيبتهم الموروثة أو المكتسبة أو الكامنة، إنه يستمد قوته من قدراته العجيبة على تخزين وتوظيف المعلومات المتعلقة بالأفراد وبالثورات وبعمليات القمع ومناسبات التوافق ومواثيق التحالفات) 3 .
2- إفشال الهيمنة من خلال عدم السماح لأي طرف بأن يصبح قويا، وإضعاف باقي المؤسسات السياسية والمدنية والاقتصادية… فالسلطة المخزنية وظفت جميع طاقاتها للحيلولة دون بروز مؤسسات بالمعنى الحقيقي للكلمة، لدرجة أصبحت معها المؤسسة الملكية المؤسسة الحقيقية الوحيدة في البلاد، والتي تعتبر ضرورة حيوية لسير وتسيير واستمرارية النسق السياسي .أما المنشآت الأخرى كالأحزاب، والنقابات،والقوات المسلحة، والإدارة، والجماعات المحلية،والبرلمان، والقضاء،واتحاد أرباب العمل، والصحافة وعير ذلك، فهي تعيش دوما في المؤقت وانعدام التوقعية، وتخضع دوما للإرادة الملكية. فاستقلالها المؤسسي محدود جدا، ولكي تضمن بقاءها وتكتسب شيئا من الشرعية،تجد نفسها دوما مجبرة على تأكيد شرعية العرش،لأنها بدون ذلك تحكم على نفسها بالتهميش) 4 .
3- ضبط جميع المجالات سواء الدينية أو المدنية أو السياسية أو الاقتصادية أو العسكرية… والتحكم فيها وخلق شبكات هي بمثابة عيون المخزن وأذانه في كل مكان، وكل لحظة، أكسبته القدرة على الاستشراف، وبذلك يسبق الفكرة، أو يختصر الطريق إلى الفكرة التي يمكن أن تشكل حقلا مضادا أو ندا منافسا، ينسفها أو يحتويها، مفرغا إياها من محتواها ليدرأ عن نفسه خطر الجهة المنافسة أو المضادة… أو يخلق حقلا مضادا لمن يريد التضاد معه، وبذلك يصبح الحقل المضاد ذا وظيفة صورية يخدم في حقيقتها النظام، نواته وأجهزته، ويحافظ عليها أكثر من الموالين) 5 .
4 – تشجيع الصراعات وتوظيفها، ورعاية الفوضى ومأسستها، فالمخزن يتحكم في مجموعة من الصراعات تنمو وتتطور تحت مراقبته، وتمكنه من البقاء سيدا للحركة الاجتماعية، ومن الوقوف في نقطة المركز المتحكم في آليات التحول السريع الذي يطرأ على جميع فصائل المجتمع. فالملك يولي أهمية كبيرة لقضية التحكم في طرق التواصل بين الفاعلين السياسيين حتى لا يبرز أي ائتلاف ضده…) (الان كليس).
فيجتهد المخزن في الرد على الخارجين عن طاعته والمنافسين له في الفعل السياسي إلى شل حركتهم، أو إعادة إدماجهم لأغراض جديدة… ووفق هذا تم اعتماد وتطبيق منطق “إن الوطن غفور رحيم” في حق العناصر الأكثر تطرفا في جبهة البوليساريو (إبراهيم حكيم وعمر الحضرمي) اللذان ثم إلحاقهما بوزارة الداخلية برتبة عامل، وفي ذلك دليل على قدرة المخزن من الاستفادة من التمرد وتوظيفه لمصلحته الخاصة. ولا يصبح التمرد مخلا ومدمرا -يستوجب الإقصاء – إلا عندما يقدم نفسه كبديل سياسي للنظام القائم، أي حين يتجرأ الفرد أو الجماعة المتمردة على تطوير خطاب سياسي يزعم امتلاك شرعية بديلة 6 .
5- الحفاظ على التوازنات السياسية دون إغفال مواكبة التحولات، والعمل على التجديد النسبي والمستمر للطبقة السياسية دون السماح بالاختفاء النهائي لطرف معين بما في ذلك أحزاب المعارضة؛ لذا يعمل المخزن على أن لا يفقد رئيس الحزب نفوذه: الدخول إلى القصر، وبعض الممارسات الرمزية (الاستشارة، البعثات إلى الخارج) بما يسمح للزعماء بالاحتفاظ بقليل من الاعتبار يمكنهم من تجميع الزبناء في الوقت المناسب… كما تتفادى الملكية التماهي مع المجموعات التي ساهمت في ولادتها وتقوية حضورها (الفديك، التجمع الوطني للأحرار، الاتحاد الدستوري، حزب الأصالة والمعاصرة…) للاستفادة من نجاحها والتنصل منها في حالة الفشل، واستبدالها بأخرى عندما تصبح ورقة خاسرة، فليس للسلطة السياسية حليف استراتيجي ودائم، وإنما هناك أدوار ووظائف تسند لهذا الطرف أو ذاك حسب كل مرحلة مرحلة 7 .
6- لا يقبل المخزن التسويات والتفاوض، وتقديم التنازلات تحت الضغط، ويفضل منطق العطايا والمنح (الدستور الممنوح، الحكومة الممنوحة، التعيينات الممنوحة، العفو الممنوح،…) كمركز للسخاء والاستعلاء.
كما تنهج السلطة صيغة الاستشارة بدل التمثيل الديمقراطي البرلماني (المجلس الوطني لحقوق الإنسان، المجلس الاستشاري لشؤون الصحراء، للجالية…)، وأسلوب تعيين اللجان لتدبير بعض الملفات خارج الاختصاصات الحكومية (اللجنة الوطنية لإصلاح التعليم، لمحاربة الفقر، المبادرة الوطنية للتنمية البشرية…) كطريقة في الاستئثار بالسلطة والحكم فالذهنية المخزنية لا تقبل نفسها إلا محتكرة لكل المجالات بدء من الديني، صاحبة كل المبادرات، ولا تقبلك إلا مواليا قابلا لشروط اللعبة، وإلا تبقيك خارج النسق محاصرا مقصيا ومهمشا، هذا إذا لم تتم تصفيتك معنويا أو ماديا كفاعل، وإن كنت من عامة الناس، فالسياسة المخزنية تبقيك في غياهب الجهل على الهامش، منقادا، ولعل هذا السلوك ما يفسر رسوخ الارتعاب من المخزن في ذهنية ونفسية الجماهير، وبذلك تتغذى استمرارية المخزن من هذا الشعور بأفراد مجتمع ممخزن) 8 .
7- قدرة المخزن على المناورة السياسية والالتفاف على مطالب الشعب، إما باحتوائها، أو تدجينها، أو تهذيبها،أو تشويهها؛ وذلك لتخفيض حدة الاحتجاج الاجتماعي، وجذرية المطالب، وقوة المعارضة الراديكالية. فهو يعمل جاهدا على ضبط الوضع، وعدم قطع شعرة معاوية مع الشعب، حتى لا يصل إلى حد يصعب التحكم فيه. وهذا ما وضحه الحسن الثاني بقوله (لقد كان والدي رحمة الله عليه يقول دائما: إن المغرب أسد ينبغي قيادته بزمام، ولا يجب تحسسه بأنه مشدود وبسلسلة من حديد. وعليه فان التعامل بيننا يكون على الشكل التالي عندما يجر الشعب الزمام بقوة فإنني أرخي من جانبي، وحين يسترخي أجره قليلا) فالمخزن في المغرب لا يقدم استقالته فهو لا يعدم الوسيلة، وإن كانت بعض ملامح الإفلاس تظهر عليه، وآلياته التدجينية تبدو محدودة الفاعلية فإنه يمتلك إمكانيات أخرى للإبداع، ليفاجئنا اليوم أو غدا بحقن جديدة قد تجعلنا نداري الألم بين ضلوعنا، ونعتنق آماله ووعوده العرقوبية،المهم أنه سيحقننا مجددا وسنخر له سجدا) 9 .
8- بالرجوع إلى التاريخ السياسي المغربي نجد أن القصر كان الفاعل الرئيسي والمركزي في الحياة السياسية، وكل المبادرات كانت تنبع منه. وقد استطاع أن يدير الصراع السياسي ويتغلب على منافسيه عبر آليات وأساليب مختلفة:
أ- الأسلوب القمعي والعنيف: الاعتقالات والتعذيب…
ب- الأسلوب الاحتوائي: الاعتراف القانوني، الامتيازات، الإدماج في النخبة…
ج- أسلوب إذكاء الصراعات والانقسامات “فرق تسد”، “شتت لتبقى”.
د- امتصاص غضب الجماهير عبر إصلاحات جزئية أو تمويهية…
ر- احتكار الألقاب والرموز الدينية والوطنية، والسيطرة على وسائل التأثير: الإعلام، مؤسسات التنشئة الاجتماعية، الاقتصاد.
وبفضل هذه الأساليب وغيرها، استطاع النظام المخزني أن يستمر ويحافظ على نفسه، ويحتوي مختلف الفاعلين السياسين الذين تحولوا من الخيار الثوري إلى الخيار الإصلاحي، ومن معارضة الحكم إلى معارضة الحكومة، ومن معارضة الحكومة إلى المشاركة في الحكومة … بل أصبحت الأحزاب روافد مهمة ودعائم أساسية لنظام الحكم…
9 – المخزن كتلة غير متجانسة تخترقه تيارات ولوبيات، تجمعها المحافظة على المصالح الخاصة والامتيازات.وقد تختلف على مستوى المقاربات وأساليب التدبير للشأن العام، وطريقة التعامل مع الأحداث. وهذا ما يفسر الاضطراب والتناقض الذي قد يطبع السلوك المخزني في التعامل مع بعض القضايا والأحداث، وذلك بسبب الصراعات والضغوطات التي يمارسها كل تيار داخل مربع الحكم. لذا كان التساؤل –خاصة في ظل ما يسمى بالعهد الجديد– حول من يحكم في المغرب؟ مشروعا ومبررا.
10- إن سدنة الجهاز المخزني وحراسه المتمرسين في أساليب الشيطنة والدهاء والمناورة والقمع الممنهج، المستميتين في الدفاع عن امتيازاتهم والمحافظة على الظروف السياسية الممكنة لعهد الجمود؛ يحاربون كل صوت متعقل قد يعلو من داخل البنية المخزنية، ويقفون سدا منيعا أمام كل تحول عميق وتغيير جذري في النظام السياسي. وهذا ما حذر منه الأستاذ عبد السلام ياسين الملك في بداية حكمه في “مذكرة إلى من يهمه الأمر” متحدثا عن الجوارح المستنسرة والثعالب العجوزة والأفاعي الحربائية ومحركو الدواليب خلف الستارة، الفاسدون المفسدون المتمرسون بأساليب التعمية والتزييف الذين سيبذلون كل ما في وسعهم لمناهضة الإرادات الشابة المبتدئة…) 10
3- رجز الاستكبار والاستعباد
ورد في القرآن الكريم ذكر الرجس والرجز في آيات عديدة. قال الراغب الأصفهاني في معجم مفردات ألفاظ القرآن (الرجس: الشيء القذر) وقيل الرجس: النتن. قال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون. رجس أخلاقي من خمر وميسر ونوادي الماسونية والروتاري والليونز المكفولة والمحترمة والمدعومة. وقال سبحانه فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به. الأوثان المعبودة شتى وأنواع، منها المحسوس والمعقول، منها البشري والمالي والسلطوي، قول الزور وفعل المنكر متعانقان في السياسة والاقتصاد والإدارة) 11 . الرجس هو الوصف الملائم والواسع لكل أشكال وألوان الفساد السياسي، الاقتصادي، الاجتماعي، الأخلاقي، الإداري …الرجس شبكة فساد ومسلسل إفساد “يعم السياسة والإدارة والاقتصاد والمعاش”. فالواعظ والعالم يضعان أصبعهما على طرف المنكر فيشدد النكير على الخمر والميسر والزنا والفسق… والسياسي والنقابي ينددان بالرشوة واستغلال النفوذ والتشطط في استعمال السلطة فلو توسع فهمهم، وتتبعوا خيط الخمر أو الميسر أو الرشوة أو المحسوبية… لأدى بهم التأمل لاكتشاف شبكة الرجس كلها، ولو كانت لهم الإرادة الصادقة في التغيير لفضحوا المسؤولين الكبار عن الفساد وشبكته.
أما الرجز فهو الاضطراب كما قال الراغب الأصفهاني رحمه الله وهو وصف شامل للاضطراب النفسي والهيجان الحاقد والتظالم الطبقي وعدم الاستقرار السياسي والعنف وقمع الحريات وما إلى ذلك.) والرجز جزاء الرجس. وعن قذارة الظالمين الشاملة لمعاني الفسق والتسلط والإفساد في الأرض ينتج الاضطراب) 12 . قال الله تعالى فبدل الذين ظلموا قولا غير الذي قيل لهم فأنزلنا على الذين ظلموا رجزا من السماء بما كانوا يفسقون البقرة آية 58. وقال عز وجل فبدل الذين ظلموا منهم قولا غير الذي قيل لهم فأرسلنا عليهم رجزا من السماء بما كانوا يظلمون الأعراف 162. فرجس المحرفين فينا على شكل فتاوى ديدان القراء. ورجس الفرعونية متمثل في الحكم بقانون الجاهلية ودافع الاستكبار والإجرام. والظلم والفسق، وتبديل آيات الله موجبات للرجز الطوفاني والعقاب الإلهي…) 13 الرجز – وهو إهلاك الله تعالى للظلمة المستبدين، ومكره سبحانه بالطغاة المترفين – سنة إلهية باقية، ونتيجة حتمية لرجس الظلم والفسق والعصيان.. هذا ما تؤكده وتفصله آياته القرآنية،وتشهد له وتدل عليه آياته الكونية.نقرا في آيات الله القرآنية عن سنن الله الاجتماعية والتاريخية الماضية، التي لا تتبدل ولا تتغير، بل تجري على جميع الخلق، وتمضي قوانينها على كل أمة وملة دون استثناء ولا محاباة، متى توفرت الأسباب، وانتفت الموانع نص عليها ربنا عز وجل في كتابه المجيد قصد الاسترشاد والاعتبار، والاتعاظ والاستبصار، بشواهد التاريخ وأحوال الأمم السابقة وصيرورة المجتمعات الإنسانية قال الله تعالى قد خلت من قبلكم سنن، فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين، هذا بيان للناس وهدى وموعظة للمتقين سورة أل عمران أية 136 و138.
عاقبة الاستكبار والطغيان هو خراب ديار المستكبرين، وسقوط عروشهم، وتهاوي قوتهم، أمام قوة الله المنتقم الجبار، وأفول نجمهم بل نارهم، وتخاذل وتفرق أعوانهم وسدنتهم عندما تدق ساعة انهيارهم. قال الله تعالى حاكيا عن أمم سابقة مستكبرة طاغية ألم تر كيف فعل ربك بعاد، إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد، وثمود الذين جابوا الصخر بالواد،وفرعون ذي الأوتاد، الذين طغوا في البلاد، فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب، إن ربك لبالمرصاد سورة الفجر أية 5-14 أمم سابقة (عاد وثمود) لم تنفعهم قوتهم وتطولهم وبطشهم من نقمة الله وعقابه. أما فرعون وقومه؛ فرغم استئثاره واحتكاره للحكم والسلطة لدرجة التأله، واعتماده على سلطة المال والاقتصاد (قارون)، والأجهزة الأمنية العسكرية (هامان)، ودهاقنة الفكر والدين والإعلام (السحرة)، لم يمنعهم كل ذلك من عقاب الله تعالى وانتقامه لما كذبوا الرسل، وظلموا وفسقوا واعتدوا واستكبروا. فكانت دعوة موسى عليه السلام حركة سياسية دينية لتحرير الإنسان ورفض الطغيان، فانتهت بالحرية لبني إسرائيل المستضعفين، والطوفان لفرعون وملئه المستكبرين.) 14 هذه هي سنة الله الماضية في جميع المجتمعات والأزمنة أن تكون عاقبة الظلم والظالمين هو الخزي الشديد، ومآل الاستبداد والمترفين هو الانهيار المحتوم يقول سيد قطب -رحمه الله- في تفسيره: المترفون هم في كل أمة طبقة الكبراء الذين يجدون المال ويجدون الخدم، ويحبون الراحة فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم، وتأسن وترتع في الفسق وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والمحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فسادا ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، ورخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها، ومن تم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها، وأسباب بقائها، فتهلك وتطوى صفحتها.) 15
خلاصة
إن المغرب يعاني أزمة سياسية عميقة؛ أزمة نسق سياسي عتيق مستبد، تحكمي مفسد، يأباه القانون والشرع، ويمجه العقل والطبع. فخلف المظاهر الديمقراطية، والأشكال العصرية الحداثية، والشعارات الصاخبة الطنانة، يبقى المخزن الثابت الذي لا يتغير، و”الأصيل” الذي لا يتحول، و”الروح” الحاضرة والمتحكمة في كل تطور، كما أن التعديلات الشكلية الطفيفة هنا وهناك، والإصلاحات الهامشية والجزئية لم تعد تجدي نفعا أمام التحولات العميقة التي يعرفها المجتمع المغربي، وأمام تشكل خطاب سياسي شعبي، خاصة في ظل الحراك الجماهيري الذي يشهده بلدنا، يدعو إلى إحداث تغييرات بنيوية في النظام السياسي عبر القطيعة مع المنظومة والأساليب والخصائص المخزنية، وبناء دولة مدنية عصرية تحترم فيها الحقوق والحريات، وتصان فيها الأعراض، ويخضع فيها أصحاب السلطة للمساءلة والمحاسبة.
فهل سيكون الحكام أكثر تبصرا بالأحداث وتطورها، واستشرافا للمستقبل ومآلاته، وأعمق وعيا للحظة التاريخية وشروطها. فيستجيبون لمطالب الشعب، ويؤسسون لتعاقد جديد مبني على الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، فيشكلون بذلك استثناء حقيقيا ونموذجا متميزا في تدبير الاختلاف والتعايش المشترك، أم أن العقلية المخزنية العتيقة والأيادي الماكرة ستوظف كل أسلحتها وأوراقها وتجربتها لإفشال كل جهد وإقبار كل محاولة في هذا الشأن. هذا ما سنحاول توضيحه في المقالة المقبلة بإذن الله.
[2] انظر ذ عبد السلام ياسين “مذكرة إلى من يهمه الأمر ” ص 14 بتصرف.\
[3] محمد الطوزي: الملكية والإسلام السياسي في المغرب ص 32-33.\
[4] عبد اللطيف أكنوش: واقع المؤسسة والشرعية في النظام السياسي المغربي ص 53 – 54.\
[5] هند الوالي عروب: المخزن: ماهيته – جذوره – استمراريته؛ مجلة وجهة نظر عدد 38 خريف 2008 ص 9.\
[6] محمد الطوزي، مرجع سابق، ص 53 – 54.\
[7] انظر جون واتربوري؛ مرجع سابق.\
[8] هند الوالي عروب؛ مرجع سابق؛ ص 9.\
[9] عبد الرحيم العطري: صناعة النخبة بالمغرب ص260.\
[10] عبد السلام ياسين: مذكرة إلى من يهمه الأمر ص4.\
[11] عبد السلام ياسين “رسالة القرن الملكية في ميزان الإسلام” ص43.\
[12] نفس المرجع ص 35.\
[13] نفس المرجع ص 33.\
[14] حاكم المطيري: “تحرير الإنسان ” ص 20.\
[15] سيد قطب: “في ظلال القرآن” ج 5 ص 312.\