المقاومةُ الفلسطينيةُ: وظـائِـفُ ومكاسبُ

Cover Image for المقاومةُ الفلسطينيةُ: وظـائِـفُ ومكاسبُ
نشر بتاريخ

حيثما يكن الاحتلال تكن المقاومة، ثنائية تؤكدها سُنّة التدافع القرآنية: وَلَوْلَا دفاعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ [البقرة: 251]، فأضحت مُسَلّمة فـي محطات الصراع والنزاع المسلح الذي يغطـي – مع الأسف – مساحة كبيرة من التاريخ البشري؛ وإذا كان الاحتلال يغذي نزوة التملك والتسلط فـي النفس البشرية، فإن المقاومة مؤشـر صحـيّ علـى رفض الهيمنة باعتباره مدخلا لسلب حقوق الشعوب والاستكانة لقوة الغالب. يقول المفكر مالك بن نبـي فـي مؤلفه “شروط النهضة”: “الاستعمار ليس من عبث السياسيين ولا من أفعالهم، بل هو من النفس ذاتها التـي تقبل ذل الاستعمار، والتـي تُمكّن له فـي أرضها، وليس ينجو شعب من الاستعمار وأجنادِه إلا إذا نجت نفسه من أن تتسع لذُل مستعمِر، وتخلصت من تلك الروح التـي تؤهلها للاستعمار” 1. وفـي نظر مالك بنِ نبـيّ، هناك مستعمِـر، وهناك شعب قابل للاستعمار.

وإذا كانت الوظيفة الأساس للحركات التحررية هـي الحيلولة دون تثبيت حالة الاستعمار والتعايش معه والتسليم بتَسْيِيدِه، فـي انتظار اكتمال الشروط المادية والمعنوية لرفع مستوى التصدي ومواجهة الغزاة، فإن المقاومة الفلسطينية لم تَحِدْ عن هذا النهج منذ الإعلان علـى إنشاء دُويلة الاحتلال الإسرائيلـي تحت عباءة الانتداب البريطانـي قبل عقود، ولم تتردد فـي دفع فاتورته: قوافل شهداء، ونكبات ومجازر بالعشرات، وعمليات تهجير قسـري وتهويد للمقدسات ومصادرة للممتلكات.

ووعيا منها بطبيعة احتلال مدعوم عسكريا وإعلاميا، ومسنود سياسيا فـي المحافل الدولية تغطية علـى جرائمه، وإجهاضا لقرارات إدانته، تحلت المقاومة الفلسطينية بالنفَس الطويل غذّاه ويُغذيه إيمان راسخ بعدالة القضية، بل ورُكْـنٌ عقديّ أن الاحتلال الغاصب فـي أرض فلسطين إلـى زوال. عـن أبـي أمامة قال: قال صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين، لعدوهم قاهرين، لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء، حتـى يأتيهم أمر الله، وهُم كذلك”، قالوا: يا رسول الله وأين هم؟ قال: “ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس” [أخرجه الطبرانـي].

وفـي ذروة الغطرسة والعُلوّ – بالتعبير القرآنـي – للكيان الغاصب الذي نجح فـي “ترويض” النظام العربـي الرسمـي من خلال معاهدات التطبيع، وبعد وضـع اللمسات الأخيرة لتنزيل اتفاقيات “أبراهام” لتكريس هيمنة الكيان الإسرائيلـي والاعتـراف به فاعلا محوريا فـي الشرق الأوسط، فاجأت المقاومة الإسلامية العالم، وليس دُويلة الاحتلال فقط، بعملية طوفان الأقصـى يوم السابع من أكتوبر 2023، فخلطت الأوراق ونسفت مشاريع الهيمنة علـى المنطقة، وأعادت للقضية الفلسطينـية وهجها وزخمها؛ طوفانٌ بمآلاته المنظورة والمستقبلية أدهش العالم، مثلما نفخ فـي وعـي الأمة روح انبعاث من سبات قرون، وأيقظ فيها معانـي الإيمان، وجسد بثبات وصمود المقاومة وحاضنتها الشعبية ما يجب أن تكون عليه الأمة الإسلامية تعرضا لنصر الله وتأييده.

لقد استحالت المقاومة الفلسطينـية مرجعا فـي الفعل المقاوم والتحرري هذه أهمّ تجلياته:

1. المقاومة تربية ووعـي راسخ بالقضية، وفيه نجحت المقاومة فـي تنشئة أجيال فريدة؛ تنشئة ارتكزت علـى ثلاث دعامات: ترسيخ الوازع الإيمانـي الجامع عقيدة وتربية، وتدريب عملـي علـى الفعل الحركـي الميدانـي، وتحصيل علمـي بما هو إمام للعمل الجهادي الراشد؛ وعـي راسخ بعدالة القضية واليقين فـي نصـر الله تزخـر به شهادات عفوية للإنسان الفلسطينـي مهما كان عمره وحيثيته الاجتماعية.

2. تثبيت السردية الفلسطينية ودحض رواية الاحتلال التـي ضلّل بها الرأي العام الغربـي عقودا، يشهد بذلك منسوب التعاطف الغربـي مع الشعب الفلسطينـي من خلال حجم فعاليات التضامن عموما والطلابـي تحديدا: كبريات الجامعات الأمريكية نموذجا.

3. تصحيح صورة الإسلام النمطية بما هو دين إرهاب وترهيب فـي المخيال الغربـي من خلال مواقف الثبات واليقين فـي نصـر الله، علـى الرغم من وحشية البطش والتنكيل التـي اقترفتها الماكينة الحربية للاحتلال المدعوم من الغرب عموما، والولايات المتحدة تحديدا؛ ثبات شيخ يحضن حفيدته “روح الروح”، ورباطة جأش من جاءه -صحفـي- خبر استشهاد زوجته وابنه وابنته وحفيده مكتفيا بالقول: “معلش، بضغطو عنا بالأولاد”؛ مواقفُ اهتـز لها وجدان الغرب الحر، وشرحت صدور فئات واسعة منه شيبا وشبابا، وجذبتهم عظمة الإسلام وأثره فـي تربية النفس وترسيخ القيم والأخلاق النبيلة، فتسارعوا لاعتناقه بل والانخراط فـي التعريف به بين أقوامهم وبلغاتهم.

4. الاضطلاع بأدوار تجديدية انبعاثية للتديّن، فقد أعادت المقاومة الإسلامية للوازع الإيمانــي قيمته، فأحيت فـي أمة إسلامية مُحبَطة بعد قرون من النكبات والهزائم النفسية معانـيَ الثقة فـي نصـر الله، حيث أفرغت المقاومة الوسع منذ عقود فـي تربية أفواج يُذكرون بما كان عليه الرعيل الأول من الصحابة وسلف الأمة؛ تعلقا بكتاب الله واهتبالا عجيبا حفظا وتحفيظا، وتحريـرا للنفوس من داء الوهن، فعاشوا معانـي القرآن الكريم وتمثلوها فـي يوميات التدافع مع الاحتلال، كيف لا، وكل فلسطينـي يعتبر نفسه مشروع شهيد، لا يبالـي ببطش أو تنكيل، ولا ترتعد فرائسه لتهديد أو وعيد، ولسان حاله يردد قوله تعالـى: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [آل عمران: 173]، ويزداد ثقة أن المعية الإلهية معه سوقا لإحدى الحُسنيين من خلال قوله جل وعلا: قال الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ كَم من فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: 249].

5. الحنكة العالية فـي تدبير الملف فـي محيط غربـي يعتبر الاحتلال الإسرائيلـي امتدادا لماضيه الامبريالـي، فلا يبخل عليه بدعم عسكري أو سياسـي أو إعلامـي، ومحيط عربـي متآمر علـى القضية، يرى فـي المقاومة بما تسَوِّقه من الوعـي ومعانـي الثبات والصمود عدوى قد يمتد لهيب نارها لكراسـي حكمه الكارطونية؛ تدبيـر  نسج علاقات أثمرت دعما ماديا ولوجستيكيا وجبهات إسناد، وأبقـى على “شعرة معاوية” ممدودة مع الأطراف الدولية إقامة للحجة، وفضحا لازدواجية معاييـر التعامل، ومع المحيط العربـي رفعا للإحراج وتفاديا لفتح جبهات جانبية قد تشوش علـى تعاطف الشعوب العربية وتضامنها مع القضية.

6. كسب المعركة الأخلاقية والإعلامية من خلال مراسم عمليات تبادل الأسـرى، فبقدر إمعان الاحتلال فـي أساليب التنكيل والنيل من آدمية المعتقل الفلسطينـي تعذيبا وتجويعا، تـرفع المقاومة مُعامل الإنسانية فـي الإحسان لأسـراه تأكيدا علـى سمو القيم الإسلامية فـي معاملة الأسير، تأكيدا لقاعدة: كل ينفق مما عنده.

بعد خمسة عشـر شهرا من العدوان الـذي لم يسلم من بطشه الحجر قبل البشـر، يحِقُّ للمقاومة أن تعلن أن أهداف طوفان الأقصـى تحققت علـى الرغم من كلفتها البشرية والمادية:

1. كسـرت شوكة غطرسة عدو لا يقهر زعما، وأهانت صناعته الحربية بوسائل متواضعة؛ حيث صنع الإيمان بالقضية واليقين فـي الله بعد الاجتهاد فـي الأخذ بأسباب النصر الفرق.

2. صمدت وقاومت وحاضنتها عدوانا دوليا بسقف حرب كونية، وحيث إنها ظلت ثابتة مرابطة فـي غزة العزة، فقد انتصرت.

3. جعلت الاحتلال يدفع كلفة عالية من رصيده السياسـي والأخلاقـي، فقادتُه متابعون ملاحقون قضائيا علـى مستوى دولـي، وجنوده يحتاطون قبل أن يسافروا خارج الكيان، ناهيك عن كلفة العدوان البشرية والعسكرية والاقتصادية، والتـي لو تجرأوا بالإفصاح عليها بشفافيتهم المزعومة لتصدع بُنيان دويلتهم. فلا عجب تتلاشـى السردية الإسرائيلية مقابل تصدر الرواية الفلسطينية المشد الإعلامـي.

4. تبييض السجون من المعتقلين الفلسطينيين وذوي المؤبدات والمحكوميات العالية تحديدا، وهذا إجراء بمفعولين متناقضين: فلسطينيا يؤكد وحدة الصف والتعالـي علـى الاصطفاف التنظيمـي والحركـي، وإسرائيليا يؤكد الخضوع والرضوخ لمطالب المقاومة.

5. إحياء القضية الفلسطينية بعدما شارفت علـى مرحلة الإقبار وطـي ملفها إلـى الأبد، وهو ما يُحسب للمقاومة وحِسِّها الاستباقـي، الأمر الذي يؤكد إخفاقا استخباراتيا للأجهزة الأمنية الإسرائيلية وأخواتها غربا وعربا.

فتحية إجلال وتقدير لشعب مقاوم أحال غزة المحاصـرة برا وبحرا وجوا بصموده وتشبثه بأرضه مركز العالم، حيث تتعلم منها البشرية دروسا فـي التضحية والثبات علـى المواقف، لا تحيد، ولا تزيغ، ولو تكالب عليها أشرار العالم ومرضاه النفسيّون المهووسون بالهيمنة وإبادة الشعوب وطمس الحضارات.


[1] مالك بن نبي، شروط النهضة. (دمشق: دار الفكر)، ص 33.