مرت سنة على اندلاع عملية “طوفان الأقصى” الاستثنائية. عام كامل من الفداء والصمود، من التحدي والثبات، من البذل والبطولة والعطاء، في معركة تحرر عزّ فيها النصير، وتكالب الأعداء، والأمة مكبّلة الأيادي بسلاسل أنظمتها السياسية، تتفرج على ما يُقترف في حق أبنائها من تقتيل وتجويع وتشريد، عاجزة، لا حول لها ولا قوة.
هذا، وما أريد التنبيه إليه، وفي حدود ما يسمح به المقام، أنه رغم ما نشهده من تسفيك للدماء الزكية، ومن جراح وآلام كبيرة، ومن دمار هائل للبنيان، إلا أن الناظر بهمّة اقتحامية، وبصيرة موقنةٍ بموعود الله تعالى، يرى بنيانا نورانيا مشرقا لا تزيده الأحداث القاسية المتتالية إلا رسوخا وشموخا. إنّه بنيان الأمة الروحي، قلبها النابض الذي يشعّ نورا وحياة مع كل قطرة دمِ شهيد، ومع كل فعل مقاوم من أولئك المجاهدين الأبطال الذين يضخّون في الأمة روح الشهادة والإخلاص، ومعاني العزة والكرامة، من قلوبهم الطّاهرة المُطهِّرة. نعم، قد يهدم الأعداء بنيان الطوب والاسمنت، لكن، هيهات هيهات أن يهدموا بنيان قلب الأمة.
لن ندرك عمق ما يصلحه جهاد المقاومة فينا إذا لم نتعرف على أصل الداء الذي ينخر كيان الأمة. الداء الذي شخّصه الإمام عبد السلام ياسين، رحمه الله تعالى، تشخيصا دقيقا مستندا إلى حديث رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، الذي يقول فيه: “يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة على قصعتها”، فقال قائل: “ومن قلة نحن يومئذ؟” قال صلى الله عليه وسلم: “بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن الله الوهْن في قلوبكم”، فقال قائل: “يا رسول الله، وما الوهن؟” قال صلى الله عليه وسلم: “حب الدنيا وكراهية الموت”. رواه أبو داود والإمام أحمد بسند صحيح. والغُثاء لغةً ما يحمله السيل من رغوة ومن فُتات الأشياء التي على وجه الأرض.
إنّ أصل الهوان الذي نزل بالأمة ليس من عدوها الخارجي، وإن كان هذا العدو مكشرا أنيابه ينهش جسدها صباح مساء، لكنه بالأساس من الوهن الذي يسكن قلوب أفرادها ويستولي على إراداتهم؛ قلوبٌ قليلة الحظ من الإيمان بالله واليوم الآخر، ولا تُحدث أنفسها بالجهاد في سبيل الله، لا إرادة مقتحمة ترجى منها.
لا قيام للأمة الإسلامية، ولا نهضة، ولا تحرر، إلا بعلاج داء الغثائيّة العميق في القلوب؛ إذ به نؤسس الأرضية الصلبة للانطلاقة الصحيحة. فبإيمان لا يتزحزح، وإرادة إحسانية جهادية، نقتحم بتوفيق الله تعالى وعونه كل العقبات التي تعترض طريق الأمة نحو النصر والتمكين. بذلك فقط نستطيع أن نكسر القيود التي تُقيّد الأمة، وتشلّ حركتها، وتعطل فاعليتها.
وإنّ من أخطر هاته القيود قَيد الحكم السلطوي الجاثم على النفوس؛ إذ بإقامتنا للحكم على أساسه الشوري نعيد للأمة قرارها الحر، وسيادتها المنتهكة، ونهيئ لأنفسنا أسباب النصر بتأسيس أنظمة سياسية قوية ومخلصة لأمتها، قادرة على الدفاع عن مصالحها الحيوية ضد كل معتد غاشم، تَحل مكان أنظمة الغثاء هذه. فأعداء الأمة ليسوا ميليشيات ذات إمكانيات محدودة، وإنما دول تتحرك بإمكانيات الدول الواسعة، ولا سبيل لردعهم إلا بإمكانيات من نفس المستوى، وهو ما يستلزم تحرير دولنا من المنبطحين المتخاذلين لتلتحم بقضايا الأمة المصيرية.
إنّه متى استوعبنا ضرورة تحقق شرط الشفاء من داء الغثائيّة لنهوض الأمة من كبوتها، تبين لنا أنّ معيار الاصطفاف في الأمة اليوم، الخادم لمصالحها العليا الراهنة، يتحدد بشكل كبير في التمييز بين مَنْ (أفرادا وجماعات ودولا) نفضوا غبار الذل والهوان عن أنفسهم وقاموا لله تعالى يُعدوا القوة ليُشيّدوا للأمة مجدها ويدفعوا عنها ظلم الظالمين، ومن رضوا لأنفسهم وأمتهم الخزي والمهانة وطبّعوا معهما، بين مَنْ اصطفوا مع جبهة المقاومة في صف المجاهدين القائمين، ومن اصطفوا ضدها في صف القاعدين المتخاذلين الغثاء.
حيّا الله رجال المقاومة المجاهدين الأبرار في كل الجبهات، جندًا وقادة، ونصرهم على أعدائهم، أعداء الأمة، وألهمهم رشدهم، ونفعنا الله بجهادهم، وأيقظنا وقوّانا للنهوض لنصرتهم ونصرة أنفسنا، إنه نعم المولى ونعم النصير.