مداخلة الأستاذة السعدية اضريس، محامية بهيئة الدار البيضاء، في ندوة عن بعد ناقشت موضوع: “العنف في المجتمع المغربي: مقاربة مجتمعية وقانونية” نظمها القطاع النسائي للجماعة بمناسبة اليوم الدولي للقضاء على العنف ضد المرأة، يوم الأربعاء 27 نونبر 2024.
اعتدنا في مناسبات اليوم العالمي لمناهضة العنف ضد المرأة الوقوف من أجل تقييم مستوى تفاقم أو تراجع الظاهرة ومدى جدوى وفعالية النصوص القانونية والسياسات العامة في القضاء عليها أو على الأقل التخفيف من حدتها، إلا أن تقييم هذه السنة يفضي بما لا يدع مجالا للشك إلى نتيجة مفادها تفشي ظاهرة العنف في أبشع صورها، من خلال الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني بعد معركة طوفان الأقصى المظفرة، والشعب اللبناني بسبب مساندته للقضية الفلسطينية العادلة ومدافعته عن حدوده ضد الكيان الصهيوني المحتل، وكذا السودان والشام واليمن وغيرها من الدول التي تعرف صراعات ونزاعات، والتي تؤدي فيها المرأة الثمن أضعافا مضاعفة، وتنال القسط الوافر من هذا العنف، بمختلف أشكاله، وذلك بالنظر لتعدد الأدوار التي تقوم بها، والأوضاع التي تكون فيها، فهي الحاضنة والراعية وحامية ظهور المجاهدين، والمجاهدة الصامدة، عنف فاق مستوى الإجرام في حق الإنسانية، وذلك على مرأى ومسمع من العالم مما يوضح زيف شعارات حماية حقوق الإنسان، والقضاء على العنف ضد المرأة، الذي ما فتئنا نسمع عن المقتضيات القانونية التي تتم المصادقة عليها من أجل محاربته؛ إن على المستوى الدولي، أو على المستوى الإقليمي أو الوطني.
فالحديث عن المقتضيات القانونية الحمائية للمرأة ضد العنف انطلق في سنة 1975، حيث تم تكييف العنف كظاهرة سلبية من قبل الأمم المتحدة بناء على إحصاءات تقول إن ما يفوق 20 في المائة من النساء تعرضن لنوع من أنواع العنف، وقد تصل الظاهرة إلى 50 في المائة، وهو الذي اعتبر أمرا مخيفا، وبناء عليه ظهرت توجهات تنادي بإقرار حماية المرأة من جميع أشكال العنف على أساس أن المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الإنسان كانت غير كافية، مما أدى إلى وضع “اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة” والمعروفة باتفاقية سيداو، والتي التزمت مجموعة من الدول بمقتضياتها بعد التوقيع والمصادقة عليها.
والمغرب باعتباره جزءا من المنتظم الدولي ومن الدول التي وقعت على هذه الاتفاقية واتفاقيات غيرها، سعى إلى ملاءمة قوانينه الوطنية مع بنودها، بل إنه اعتبرها في ديباجة الدستور المغربي لسنة 2011 تسمو على القوانين الوطنية، وبناء عليه نص الدستور المغربي في العديد من المواد منها المادة 19 على تمتع الرجل والمرأة على قدم المساواة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والبيئية، كما أقرت القوانين الوطنية مجموعة من المقتضيات لحماية المرأة بشكل عام والمرأة العاملة بشكل خاص.
ففي مدونة الشغل مثلا هناك مجموعة من النصوص الحمائية لفائدة المرأة من قبيل:
– النص في المادة 9 على عدم التمييز بين الأجراء في التشغيل من حيث السلالة أو اللون أو الجنس أو الإعاقة أو الحالة العائلية…
– المادة 36 نصت على أنه لا يمكن اعتبار الجنس من بين مبررات اتخاذ العقوبات التأديبية واتخاذ قرار الفصل من العمل.
– المادة 346 منعت التمييز في الأجر بين الجنسين بالنسبة للعمل الذي له نفس القيمة.
– المادة 478 نصت على منع المس بمبدأ تكافؤ الفرص في التشغيل.
– المادة 172 نصت على منع تشغيل المرأة ليلا في بعض القطاعات، وفي أخرى فرضت نوعا من التمييز الإيجابي لها عن طريق فرض شروط لتسهيل هذا العمل.
– أقر المشرع في مدونة الشغل لفائدة الأجيرة خلال فترة الحمل والوضع مجموعة من المقتضيات الحمائية منها:
* توقف عقد الشغل خلال هذه الفترة
* إقرار إجازة الولادة العادية (14 أسبوعا)
* تمديد هذه الفترة في حالة نشوء حالة مرضية
* استفادة الأم الأجيرة من عطلة استثنائية خلال فترة الولادة
* استفادة الأم الأجيرة من عطلة غير مدفوعة الأجر
* استفادة الأم الأجيرة من استراحة الرضاعة
* استفادة مطلقة الأجير من اقتطاع النفقة.
* النص على عدم إمكانية إنهاء عقد شغل الأجيرة الحامل سواء أثناء الحمل أو بعد الوضع بـ 14 أسبوعا…
كما أقر المشرع المغربي في القانون 103.13 المتعلق بمحاربة العنف ضد المرأة مجموعة من المقتضيات الحمائية لفائدة المرأة على المستوى الوقائي، أو على المستوى الزجري من قبيل:
– تجريم كل أشكال العنف ضد المرأة: الجسدي، النفسي، الاقتصادي، والجنسي.
– تشديد العقوبات في السب والقذف والإيذاء العمدي ضد المرأة.
– توسيع نطاق تجريم التحرش الجنسي الذي لم يعد مقتصرا على تحرش الرئيس بمرؤوسه، أو التحرش المرتكب داخل فضاء العمل، وضرورة وجود علاقة تبعية.
– مضاعفة عقوبة المتحرش إذا كان زميلا في العمل أو من الأشخاص المكلفين بحفظ النظام والأمن في الفضاءات العمومية أو غيرها.
– تجريم العنف الرقمي المرتكب بالوسائل الإلكترونية عن طريق التقاط أو تسجيل أو توزيع أقوال أو معلومات صادرة بشكل خاص أو سري دون موافقة أصحابها، وكذلك كل من قام بتثبيت أو تسجيل أو بث أو توزيع صورة شخص أثناء تواجده في مكان خاص دون موافقته، وكل من قام ببث أو توزيع ادعاءات أو وقائع كاذبة بقصد المس بالحياة الخاصة للأشخاص أو التشهير بهم.
– تجريم الإكراه على الزواج باستعمال العنف أو التهديد.
– تجريم تبديد أحد الزوجين لأمواله بسوء نية بقصد الإضرار بالزوج الآخر أو التحايل على مقتضيات النفقة، ومستحقات الطلاق…
هذا إضافة إلى مجموعة من التدابير الوقائية التي حاول من خلالها مشرع القانون 103.13 وقاية المرأة من التعرض للعنف أصلا، أو تجنب تعرض الضحية له مرة ثانية، وذلك من خلال فرض تطبيق تدبير وقائي أو أكثر على مرتكب العنف لفائدة الضحية من قبيل:
– منع المعتدي من الاتصال بضحية العنف أو الاقتراب من مكان تواجدها أو التواصل معها بأية وسيلة.
– إخضاع المحكوم عليه لعلاج نفسي ملائم.
– الإيواء بمؤسسات الإيواء ومؤسسات الرعاية الاجتماعية للضحية المعنفة التي تحتاج إليها أو ترغب بذلك.
– إنشاء خلايا لاستقبال النساء المعنفات محليا وجهويا ووطنيا بطبيعة الحال كي يتوفر للضحية المعنفة شروط الاستقبال من قبل متخصصين مؤهلين لذلك.
كما تضمنت مدونة الأسرة كذلك العديد من المقتضيات التي حاول من خلالها المشرع حماية المرأة من العنف، من قبيل:
– جعل إمكانية رعاية الأبناء مشتركة بين الزوجين لتمكين المرأة من اتخاذ قراراتها بكل حرية في تربية ورعاية أبنائها.
– إمكانية الاتفاق على اقتسام الأموال المكتسبة خلال الحياة الزوجية حماية للمرأة من الأوضاع الصعبة التي تعيشها بعد الطلاق.
– النص على إمكانية احتفاظ الأم الحاضنة بالحضانة حتى بعد زواجها في حالات محددة مرتبطة بسن المحضون أو وضعه الصحي الخاص.
– اشتراط توفر شروط موضوعية واستثنائية من أجل التعدد ضمانا لتوفر شروط العيش الكريم بالنسبة للزوجة الأولى والأبناء.
– تمكين المرأة الرشيدة من ممارسة الولاية على نفسها في الزواج لتفادي حالات الإكراه على الزواج أو العكس.
وجدير بالذكر أن هذه المقتضيات القانونية أوردناها على سبيل المثال لا الحصر، وإلا فهناك العديد من النصوص التي يمكن الرجوع إليها سواء في القوانين التي ذكرنا أو في قوانين أخرى.
ورب سائل يتساءل حول جدوى ونجاعة هذه المقتضيات في القضاء على ظاهرة العنف، أو على الأقل في التخفيف من وطأتها، خاصة وأن الإحصاءات التي يتم رصدها على مستوى هذه الظاهرة توضح تزايدا مستمرا في النسب المسجلة رسميا، الأمر الذي يبقى معه هذا التساؤل مشروعا لوجود مجموعة من الأسباب التي تحول دون تحقيق القانون للنتيجة المرجوة منه، والتي يمكن أن نجملها في ثلاثة أسباب وهي:
السبب الأول: أن هذه النصوص منذ صدورها تحمل معها عوامل عدم نجاعتها؛ سواء من خلال بعض المقتضيات التي تنص عليها، أو من خلال الثغرات التي تشوب هذه المقتضيات، والتي نذكر منها:
– صعوبة إثبات العنف المرتكب في أماكن مغلقة: بيت الزوجية، أماكن العمل، مراكز الاعتقال…. حيث لا يمكن تصور وجود كاميرا أو شهود في هذه الأماكن.
– التناقض بين التأكيد على إمكانية الصلح في جميع مراحل المسطرة، حيث يضع تنازل الضحية عن شكايتها حدا للمتابعة وللحكم وتنفيذ العقوبة، وفي نفس الوقت نص القانون على تدبير وقائي مفاده منع تواصل مرتكب العنف مع الضحية بأية وسيلة.
– محدودية إمكانية الإيواء لقلة المؤسسات، والتي في الغالب تكون مقدمة من قبل جمعيات المجتمع المدني.
السبب الثاني: لا أحد ينكر أهمية ودور النص القانوني في محاربة ظاهرة العنف، ولكنه وحده غير كاف لعدم توفر البيئة الملائمة لتنزيله، حيث يتطلب الأمر ضرورة تبني مقاربة شاملة تفرض الاشتغال في نفس الوقت على ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي وقيمي وأخلاقي وديني… لأن رفع الظلم عن المرأة عموما لا يمكن أن يتم إلا في إطار رفع الظلم عن المجتمع والذي مرده الاستبداد السياسي والاقتصادي… وإلا كيف سنحارب العنف ضد المرأة وقوات الأمن تقوم بسحل وضرب طالبات كلية الطب والأستاذات خلال الوقفات الاحتجاجية؟ ألا يعتبر هذا عنفا يستدعي محاربته ومناهضته؟
فالعنف الذي يمارس ضد أفراد المجتمع هو الذي يؤدي إلى ممارسة العنف ضد الحلقات الأضعف في إطار إعادة إنتاج العنف، وبالتالي يتوجب بداية العمل على مناهضة العنف الممارس من طرف مؤسسات الدولة بمختلف أشكالها، وألا نحصره في العنف الأسري أو في العنف الممارس بين أفراد المجتمع، كما يتعين تفعيل مؤسسات المجتمع المدني للقيام بالدور المنوط بها في تربية المجتمع وتأهيله بما يساعد على مناهضة ونبذ العنف بجميع أشكاله، وأقصد الجمعيات والمساجد والمدارس ووسائل الإعلام…
وفي هذا الإطار أشير إلى ما تضمنته الوثيقة السياسية التي تقدمت بها الدائرة السياسية لجماعة العدل والإحسان، حيث اشتغلت على مجموعة من المحاور كمداخل للتغيير، فبالإضافة إلى المحور السياسي والاقتصادي قدمت الوثيقة محورا مهما وهو المحور المجتمعي، طرحت فيه مقترحات مهمة جدا بدونها لا يمكن الحديث عن فعالية الإصلاح السياسي أو الاقتصادي أو حتى القانوني.
السبب الثالث: كون هذه القوانين مستنبطة من المرجعية الدولية، وما فتئنا نسمع بسمو هذه المرجعية، بل هناك من يقول بضرورة تبني المرجعية الكونية والقطع مع المرجعية الإسلامية، إلا أنه بعد أحداث 7 أكتوبر وحرب الإبادة التي قادها الكيان الصهيوني وساهمت فيها العديد من الدول التي تتبجح بالدفاع عن حقوق الإنسان وتفرض على الدول المستضعفة سن قوانين لحماية المرأة من العنف، في الوقت الذي تقوم فيه برعاية العنف وحماية مرتكبيه، اتضح باليقين أن هذه المرجعية فقدت مصداقيتها، وبالتالي آن الأوان للتصالح مع المرجعية الأصل وهي المرجعية الإسلامية التي كفلت للمرأة من خلال تشريعاتها وأحكامها حماية كبيرة في جميع أحوالها: أما وبنتا وأختا وزوجة ومطلقة… والنصوص الشرعية على حمايتها والرفق بها كثيرة نورد منها على سبيل المثال لا الحصر:
الحديث النبوي: “خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي” (صحيح الترمذي: 3895).
وحديث: “استوصوا بالنساء خيرا” (البخاري: 3331).
وحديث: “رفقا بالقوارير” (البخاري: 6209، ومسلم: 2323).
وحديث: “ما أكرمهن إلا كريم وما أهانهن إلا لئيم” (رواه ابن عساكر في “تاريخ دمشق” 13/313).