المنقذ من الضلال-5-

Cover Image for المنقذ من الضلال-5-
نشر بتاريخ

وأما (علم) الطبيعيات: فهو بحث عن عالم السماوات وكواكبها وما تحتها من الأجسام المفردة: كالماء والهواء والتراب والنار، وعن الأجسام المركبة: كالحيوان والنبات والمعادن، وعن أسباب تغيرها واستحالتها وامتزاجها. وذلك يضاهي بحث الطب عن جسم الإنسان وأعضائه الرئيسة والخادمة، وأسباب استحالة مزاجه. وكما ليس من شرط الدين إنكار علم الطب، فليس من شرطه أيضاً إنكار ذلك العلم، إلا في مسائل معينة، ذكرناها في كتاب (تهافت الفلاسفة). وما عداها مما يجب المخالفة فيها؛ فعند التأمل يتبين أنها مندرجة تحتها، وأصل جملتها: أن تعلم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى، لا تعمل بنفسها، بل هي مستعملة من جهة فاطرها. والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره لا فعل لشيءٍ منها بذاته عن ذاته.

4  وأما الإلهيات: ففيها أكثر أغاليطهم، فما قدروا على الوفاء بالبرهان على ما شرطوه في المنطق، ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيها. ولقد قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من مذاهب الإسلاميين، على ما نقله الفارابي وابن سينا. ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلاً، يجب تكفيرهم في ثلاثة منها، وتبديعهم في سبعة عشر. ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين، صنفنا كتاب (التهافت).

أما المسائل الثلاث، فقد خالفوا فيها كافة الإسلاميين وذلك في قولهم:

1 – إن الأجساد لا تحشر، وإنما المثاب والمعاقَب هي الأرواح المجردة، والمثوبات والعقوبات روحانية لا جسمانية ؛ ولقد صدقوا في إثبات الروحانية، فإنها ثابتة أيضاً، ولكن كذبوا في إنكار الجسمانية، وكفروا بالشريعة فيما نطقوا به.

2 – ومن ذلك قولهم: ((إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات))؛ وهذا أيضاً كفر صريح، بل الحق أنه: (( لا يعزب عنـه مثقال ذرةٍ في السمواتِ ولا في الأرضِ)).(سبأ: 3)

3 – ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأزليته فلم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من هذه المسائل.

وأما ما وراء ذلك من نفيهم الصفات، وقولهم إنه عالم بالذات، لا بعلم زائد على الذات وما يجري مجراه، فمذهبهم فيها قريب من مذهب المعتزلة ولا يجب تكفير المعتزلة بمثل ذلك. وقد ذكرنا في كتاب ((فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة)) ما يتبين به فساد رأي من يتسارع إلى التكفير في كل ما يخالف مذهبه.

4 – وأما السياسيات: فجميع كلامهم فيها يرجع إلى الحكم المصلحية المتعلقة بالأمور الدنيوية والإيالة السلطانية، وإنما أخذوها من كتب الله المنـزلة على الأنبياء، ومن الحكم المأثورة عن سلف الأنبياء عليهم السلام.

5 – وأما الخلقية: فجميع كلامهم فيها يرجع إلى حصر صفات النفس وأخلاقها، وذكر أجناسها وأنواعها وكيفية معالجتها ومجاهدتها، وإنما أخذوها من كلام الصوفية، وهم المتألهون المواظبون على ذكر الله تعالى، وعلى مخالفة الهوى وسلوك الطريق إلى الله تعالى بالإعراض عن ملاذِّ الدنيا. وقد انكشف لهم في مجاهدتهم من أخلاق النفس وعيوبـها، وآفات أعمالها ما صرحوا بـها، فأخذها الفلاسفة ومزجوها بكلامهم، توسلاً بالتجمل بـها إلى ترويج باطلهم. ولقد كان في عصرهم، بل في كل عصر، جماعة من المتأهلين، لا يُخلي الله سبحانه العالم عنهم، فإنـهم أوتاد الأرض، ببركاتـهم تنـزل الرحمة على أهل الأرض كما ورد في الخبر حيث قال صلى الله عليه وسلّم: (بـهم تمطرون وبـهم ترزقون ومنـهم كان أصحاب الكهف).

وكانوا في سالف الأزمنة، على ما نطق بـه القرآن، فتولد من مزجهم كلام النبوة وكلام الصوفية بكتبهم آفتان: آفة في حق القابل وآفة في حق الراد:

1 – أما الآفة التي في حق الراد فعظيمة: إذ ظنت طائفة من الضعفاء أن ذلك الكلام إذا كان مُدوَّناً في كتبهم، وممزوجاً بباطلهم، ينبغي أن يُهجر ولا يُذكر بل يُنكر على كل من يذكره، إذ لم يسمعوه أولاً إلا منهم، فسبق إلى عقولهم الضعيفة أنه باطل، لأن قائله مُبطل ؛ كالذي يسمع من النصراني قوله: (لا إله إلا الله عيسى رسول الله) فينكره ويقول: (هذا كلام النصارى)ولا يتوقف ريثما يتأمل أن النصراني كافر باعتبار هذا القول، أو باعتبار إنكاره نبوة محمد عليه الصلاة والسلام!؟ فإن لم يكن كافراً إلا باعتبار إنكاره، فلا ينبغي أن يخالف في غير ما هو به كافر مما هو حق في نفسه، وإن كان أيضاً حقاً عنده. وهذه عادة ضعفاء العقول، يعرفون الحق بالرجال، لا الرجال بالحق. والعاقل يقتدي بسيد العقلاء علي رضي الله عنه حيث قال: (لا تعرف الحق بالرجال بل اعرف الحق تعرف أهله) والعارف العاقل يعرف الحق، ثم ينظر في نفس القول: فإن كان حقاً، قبله سواء كان قائله مبطلاً أو محقاً ؛ بل ربما يحرص على انتزاع الحق من أقاويل أهل الضلال، عالماً بأن معدن الذهب الرغام. ولا بأس على الصراف إن أدخل يده في كيس القلاب، وانتزع الإبريز الخالص من الزيف والبهرج، مهما كان واثقاً ببصيرته ؛ وانما يزجر عن معاملة القلاب القرويُّ، دون الصيرفي البصير ؛ ويمنع من ساحل البحر الأخرقُ، دون السباح الحاذق ؛ ويُصد عن مس الحية الصبي دون المعزِّم البارع.

ولعمري! لما غلب على أكثر الخلق ظنهم بأنفسهم الحذاقة والبراعة، وكمال العقل وتمام الآلة في تمييز الحق عن الباطل، والهدى عن الضلالة، وجب حسم الباب في زجر الكافة عن مطالعة كتب أهل الضلال ما أمكن، إذ لا يسلمون عن الآفة الثانية التي سنذكرها أصلاً وإن سلموا عن هذه الآفة التي ذكرناها.

ولقد اعترض على بعض الكلمات المبثوثة في تصانيفنا في أسرار علوم الدين، طائفة من الذين لم تستحكم في العلوم سرائرهم، ولم تنفتح إلى أقصى غايات المذاهب بصائرهم، وزعمت أن تلك الكلمات من كلام الأوائل، مع أن بعضها من مولدات الخواطر – ولا يبعد أن يقع الحافر على الحافر – وبعضها يوجد في الكتب الشرعية، وأكثرها موجود معناه في كتب الصوفية.

وهب أنها لم توجد إلا في كتبهم، فإذا كان ذلك الكلام معقولاً في نفسه، مؤيداً بالبرهان، ولم يكن على مخالفة الكتاب والسنة، فلمَ ينبغي أن يهجر ويترك؟ فلو فتحنا هذا الباب، وتطرقنا إلى أن يهجر كل حق سبق إليه خاطر مبطل، للزمنا أن نـهجر كثيراً من الحق، ولزمنا أن نـهجر جملة آيات من آيات القرآن وأخبار الرسول صلى الله عليه وسلّم وحكايات السلف وكلمات الحكماء والصوفية، لأن صاحب كتاب (إخوان الصفا) أوردها في كتابـه مستشهداً بـها ومستدرجاً قلوب الحمقى بواسطتها إلى باطله ؛ ويتداعى ذلك إلى أن يستخرج المبطلون الحق من أيدينا بإيداعهم إياه كتبهم. وأقل درجات العالم: أن يتميز عن العامي الغُمر، فلا يعاف العسل، وإن وجده في محجمة الحجَّام، ويتحقق أن المحجمة لا تغير ذات العسل، فإن نفرة الطبع عنه مبنية على جهل عامي منشؤه أن المحجمة، إنما صنعت للدم المستقذَر، فيظن أن الدم مستقذر لكونه في المحجمة، ولا يدري أنه مستقذر لصفة في ذاته ؛ فإذا عدمت هذه الصفة في العسل فكونـه في ظرفه لا يكسبه تلك الصفة، فلا ينبغي أن يوجب له الاستقذار، وهذا وهم باطل، وهو غالب على أكثر الخلق. فإذا نسبت الكلام وأسندته إلى قائل حسن فيه اعتقادهم، قبلوه وإن كان باطلاً ؛ وإن أسندته إلى من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقاً. فأبداً يعرفون الحق بالرجال ولا يعرفون الرجال بالحق، وهو غاية الضلال! هذه آفة الرد.

2 – والآفة الثانية آفة القبول: فإن من نظر في كتبهم (كإخوان الصفا) وغيره، فرأى ما مزجوه بكلامهم من الحكم النبوية، والكلمات الصوفية، ربما استحسنها وقبلها، وحسن اعتقاده فيها، فيسارع إلى قبول باطلهم الممزوج بـه، لحسن ظن حصل فيما رآه واستحسنه، وذلك نوع استدراج إلى الباطل.

ولأجل هذه الآفة يجب الزجر عن مطالعة كتبهم لما فيها من الغدر والخطر. وكما يجب صون من لا يحسن السباحة على مزالق الشطوط، يجب صون الخلق عن مطالعة تلك الكتب. وكما يجب صون الصبيان عن مس الحيَّات، يجب صون الأسماع عن مختلط الكلمات وكما يجب على المعزِّم أن لا يمس الحية بين يدي ولده الطفل، إذا علم أن سيقتدي به ويظن أنه مثله، بل يجب عليه أن يحذّره منه، بأن يحذر هو في نفسه ولا يمسها بين يديه، فكذلك يجب على العالم الراسخ مثله. وكما أن المعزِّم الحاذق إذا أخذ الحية وميز بين الترياق والسم، واستخرج منها الترياق وأبطل السم فليس له أن يشح بالترياق على المحتاج إليه. وكذا الصراف الناقد البصير إذا أدخل يده في كيس القَلاّب، وأخرج منه الإبريز الخالص، واطّرح الزيف والبهرج، فليس له أن يشح بالجيد المرضي على من يحتاج إليه ؛ فكذلك العالم. وكما أن المحتاج إلى الترياق، إذا اشمأزت نفسه منه، حيث علم أنه مستخرج من الحية التي هي مركز السم وجب تعريفه، والفقير المضطر إلى المال، إذا نفر عن قبول الذهب المستخرج من كيس القلاّب، وجب تنبيهه على أن نفرته جهل محض، هو سبب حرمانه الفائدة التي هي مطلبه، وتحتم تعريفه أن قرب الجوار بين الزيف والجيد لا يجعل الجيد زيفاً، كما لا يجعل الزيف جيداً، فكذلك قرب الجوار بين الحق الباطل، لا يجعل الحق باطلاً، كما لا يجعل الباطل حقاً.

فهذا مقدار ما أردنا ذكره من آفة الفلسفة وغائلتها.