مسكين هذا الإنسان الهلوع الخوَّاف، يشخص ببصره لينظر إلى الأحداث الكبرى التي يحدثها الله في كونه فتهوله الأمور وبالكاد يفهم أشياء ليتعزى وينصرف إلى الانغماس مجددا في هموم الحياة وأشيائها. ينتظر بفارغ الصبر أن يقدر العلم على أن يخلصه من الموت القريب وقد ينتظر معجزة تنتشله من وهدة الخوف والقلق. يتابع الأخبار كل يوم حيث تمده القنوات بأعداد المصابين والوفيات وحجم الانهيار الاقتصادي وتوقف الحركة وأصبح الكل محجوزا وراء أربعة جدران. يتسلى بجهاز هاتفه وتلفازه ويطلب من الوقت أن يمر مرورا سريعا حتى نطوي هذه المرحلة الخطرة بأقل الخسائر. بل من البشر من يمني النفس أن تأخذه غيبوبة أو نومة حتى يعبر هذا الواقع دون أن يحس به.. فالوارد على نفسه من الأخبار أكبر من أن يتحمله خصوصا إن كان المصابون من أقربائه وأحبائه.
المشكل أننا نحن البشر الذين ندعي الحكمة والعقل ننظر إلى كل شيء إلا النظر إلى أنفسنا. إننا ننظر بعيدا عنا لكن لا ننظر عمقا فينا. إن ما يحدث من الإصابات والوفيات يحدث أضعافه في الأوقات الماضية.. فحوادث السير والشغل والحروب تؤدي بأضعاف ما يؤدي اليه هذا الفيروس.. لكن لماذا لا تهولنا هذه الأمور ويهولنا هذا الفيروس؟! لسبب بسيط أن تلك الحوادث تعطينا مساحة التفكير فيها في حين أن الفيروس يباغتنا فنصاب بالذعر.. الفيروس يشعرك لأول مرة أنك أنت معني بهذا الموت، أما الوفاة التي تأتي بالوسائل الأخرى تفكر فيها باعتبارها تطال آخرين بعيدين عنك. نحن لا نحس بالموت بل لا يصبح للسؤال كثير معنى عندما يغتال القريبين منا.. عندما يأخذ أباك أو أمك أو ابنك.. هناك يقرع الموت في عقلك وقلبك قرعا. هنا يوجع الموت الأحياء!
إن هذه اللحظة التي نمر منها هي اللحظة التي يمكن لكل فرد أن يفوز بالكنز الذي في داخله. إنها الفرصة الذهبية لكي يصفي آنية قلبه حتى يرتد إليه بصره خاطئا وهو حسير، ويقول بلسان الإيمان: ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك. أغلب الأكابر من كل ملة ودين ومذهب مروا بتجربة داخلية جوانية مع الذات، حولوا وجهة السؤال من السؤال إلى خارج الذات إلى السؤال إلى داخل الذات. كان التوازن مبنيا على نقطة ارتكاز داخلية أكثر من البحث عن نقطة ارتكاز خارجية.. هل عبثا تحنث الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم في غار حراء؟ وهل عبثا انعزل غاندي وزعماء الماوية والبوذية والأكابر من أعلام الإسلام أمثال الغزالي.. بعد أن أعياهم البحث خارج الذات؟ الموت هو اللغز المحرك للبحث عن حقيقة ذواتنا وحقيقة الوجود. الموت هو الدليل الذي يستدل به ولا يستدل عليه. هو الذي يثير فينا كل الأسئلة التي تحاول البشرية أن تتلهى عنا وتتناساها. الموت هو المحرك للموقف العظيم من الفطرة البشرية. لا حياة بلا موت. لقد كان إبليس يدرك هذا المعنى عندما غرر آدم بالخلود والملك هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى.. فآدم نسي حقيقة العبودية في لحظة وعده فيها إبليس وعد الغرور بالخلود والملك. وهو الوعد الذي تكرره اليوم الحضارة الإبليسية باسم العلم والتعديل الوراثي وثلاثية المال والجنس والعنف. حيث تعد الإنسان بالجنة فوق الأرض فلا داعي للتفكير في جنة السماء.! لكن الموت بهذا الشكل المباغت ينسف كل هذه الفلسفات والأوهام التي تسكن حضارة اللذة القائمة على فلسفة “نسيان الله” نسيان ما هو إلهي فينا.
فقط الاشتغال عما هو إلهي فينا هو الذي سيحررنا من الخوف المرضي من الموت.. مادام الموت ليس عدما بل استئناف للحياة مع الله. وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة بكل اقتدار، تلك التي تشكل العزاء الوحيد لنا نحن البشر الفانون بأنفسنا الباقون بالله؛ إنا لله وإنا إليه راجعون.