المولد مَوعِد

Cover Image for  المولد مَوعِد
نشر بتاريخ

استدعى ميلود الهاشمي طوائف من المسلمين لحفل حاشد، وضمَّن رسالة الاستدعاء التي أرسلها لكل طائفة على حدة شرطا أساسيا للحضور والمشاركة مفاده ألا كلام إلا عن المتّفَق فيه، ويُمنَع كُلّيا الحديث عن المختلف فيه.

وقد أكّدَت جميع الطوائف عزمها على الحضور والمشاركة إلا ثلاثة منها اعتذرت؛ اثنتان منها لئلا يؤدي حضورها ومشاركتها إلى نَسْف اللّقاء بأقوال أو أفعال. وأما الثالثة فاعتذارها كان مَردّه إلى عدم التشويش على الحضور بأحوال لا تليق بالمقام وأهله من نساء ورجال.

شكر ميلود لمن قبلوا استجابة الدعوة تلبيتهم، وقَبِل عُذر من اعتذروا.

وجاء الموعد المنتظر، وحضر مَن حضر. استُهِلّ الحفل بتلاوة آيات من خواتيم سورة الفتح: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ… الآيات.

وقدَّم ميلود الهاشمي لطوائف الحضور بترحاب وتعريف قبل أن يَعْرِض عليهم برنامج الحفل الذي يتضمّن تلاوات قرآنية، وأمداحا نبوية، وقراءة في الشمائل المحمدية، وتتخلّل هذه الفقرات كلمات الوفود.

استمالَتْني مِن الكلمات كلمة طائفة أهل صاد الذين قالت الناطقة باسمهم: «شُكرا لميلود أن دعانا لهذا الحفل الكريم، الذي يذكّرنا بمحبة سيّد الأنام عليه الصلاة والسلام».

يا لَه من موعد للعاشِقين مَن هُيامُهم بالحبيب، وبذاته وصفاته، وأسمائه وكلّ ما منه؛ إنه أحبُّ مولود وموجود ومفقود جسدا لا روحا، فمن سلّم عليه استدعى روحه الشريفة لترُدّ عليه السلام، ومن صلّى عليه نال فضل القرب منه يوم الزّحام، ووسم بوسام الكرم، فهي مِن فِعل الله وملائكته الكرام، وهي السَّكَن والـمُخرِج من الظلمات إلى النور، وضامن استجابة الدعاء بدءا ومسك ختام، وهي شيخ من لا شيخ له، وهي تذكير بآل بيته وصحابته وصحبة مَن صَحِب على الدوام.

ومع الصلاة على رسول الله لا يفوتني التذكير بوصية رسول الله صلى الله على الحبيب الذي حُبّب إليه الطيب والنساء، وجُعِلت قُرَّة عينه في الصلاة؛ إذ المرأة طيّبة لطيّب وهي كما للصَّلاة إمام للصِّلات إمام: أمّ تحت أقدامِها الجنات، وزوج لا خير في مَن لم يكن لها خيرا، ولا ينبغي لمؤمن أن يَفْركها، ولا لكريم أن يُهينها، فهي أحبّ الناس إلى المصطفى، وهي وصيّته، وصّى بها واستوصى، وخَفّف عنها التكاليف رِفْقا وعطفا، وجعل لها كمالا وإرثا وكانت ناقصة لا تَرِثُ بل تورَث كالمتاع والإماء، وجعل لها الحج جهادا، وخَصّها بعطلة شهرية من دون الرجال عن الصلاة والصيام، وجعل مِن يـُمْنِها تبكيرها بالأنثى، وجعل وَأْدها مِن أشنع الإجرام، وطلاقها أبغض الحلال، وحسن تربيتها تأشيرة العبور إلى دار الخلد في النعيم المـُقيم مع النبيئين والصديقين والشهداء والصالحين وسيدهم أجمعين عليه الصلاة والسلام.

ثم انتصب بين يدي ميلود الناطق باسم طائفة حاء، فقال:

يا له من موعد للصادقين

والصدق ما جاء به جَدّ المتقين عليه صلوات الله وسلامه وعلى أنبياء الله ورسله أجمعين؛ وأصدق الصدق بعد كتاب الله المبين؛ الهُدى والموعظة والذّكرى والفرقان والنور والشفاء لما في الصدور والمصدِّق لما بين يدَيْه من الكتب السماوية والمهيمن عليه حديثُ الصادق الأمين: وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى.  حديثٌ صَحَّت روايته وضُبِطَت مِن قِبَل عدول ثقات، نُقِلَتْ أصولا عن فحول، ونصوصا عن خصوص، وضَمَّت من الكلام أطْيَبه وأفْصَحه، ومِن الدّين أقْوَمَه وأَبْيَنه وأوضحه، ومِن الخُلُق أجَلَّه وأجمله، ومن العلم أجمعه وأنفعه وأصلحه، ومن الشهادة أوثقها، ومِن البشارة أرقاها، ومِن النذارة أوقاها، ومِن الدّعوة أنقاها، ومِن الإنارة أقواها. جعلنا الله وإياكم ممن نَضَّر وجهه بنضارة كلام خير البرية، وممن رحمه أن سمع مقالة طه فوعاها وأدّاها كما سمعها زكية نقية بكل خير وافية، وصلى الله على مَن جعل له المولى القرآن رسالة هداية، والحديث أعظم سند ورواية.

ثم انبرى للمنبر ممثل طائفة فاء فقال:

يا له من موعد للحاذقين

إن كان الذّكر للتدبّر، والكون للتفكر، والنفس للتبصر، فإنما هي آيات لأولي الألباب الذين احتفالهم بمولد المصطفى وبعثته وهجرته احتفال بنعمة العقل التي أنعم الله بها علينا لنتدبّر ونتفكّر ونتبصر، عسانا نتبع خير البشر وندعو إلى الله على بصيرة ونظر، وهل كان رسول الله إلا عالما بالله، مُعَلّما بأبوة راحمة ليّنَة: إنّما أنا لكم بمَنزِلة الوالد، أعلّمُكم، وبحدب وشفقة وحرص ورأفة عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ. صدق الله العظيم، وبلغ رسوله الكريم، ونحن على ذلك من الشاهدين.

ثم تقدم للمنصة المتحدث باسم طائفة دال فقال:

يا له من موعد للسابقين

فاستباقنا جميعا مُستجيبين لدعوة ميلود الهاشمي هي استجابة لدعوة الهادي وحركته الإسلامية المباركة التي هي حركة حزب الله،  المجاهد في سبيل الله، القائم لله بالحق، الشاهد بالقسط، المبعوث مع مَن بُعِث لإخراج العباد مِن عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومِن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدّنيا إلى سَعة الدّنيا والآخرة، صلى الله على أول من دعا بعد أن لبى واستجاب، وعلى الآل والأصحاب، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الحساب ممن بَرَّأ ذِمّته، وحَشد هِمّته لتبليغ رسالته، وأداء أمانته رجاء الاندراج في سلك أهل الحق والصواب، والحكمة وفصل الخطاب.

ثم جاء دور المفوَّض عن طائفة ذال فقال:

يا له من موعد للذائقين

مَن ذاقوا حلاوة حُبّ سيّد السّادات عليه أفضل سلام  وصلاة.

ذوق مَن يُحيي مولد الحبيب بمواكب شموع مِن “سَلا”، وسيول دموع مَن مدح وصلّى، وحياء وخشوع مَن اشتاق فزار واستغفر واستنار، ومَن توسَّل بمحبّته للمتبوع الأعظم صلى الله عليه وسلم ولم يتسوّل بها جَلْبا لمصالح أو دفعاً لمضارّ. مَن أقاموا لهم في طيبة وقفا، ووجدوا لهم في حديث الطيّب المطيّب ذكرا ووَصْفا، وشوقا وأجرا وعطفا، وورثوا عن أجدادهم في تعظيم رسول الله، وما مِن رسول الله عُرْفا، ونَفحوا من دلائل الخيرات، والإحسان والشفا  عَرْفا. صلى الله على النبي المصطفى.

ثم أقبل مندوب طائفة ش فقال:

يا له من موعد للواثقين

ولا ثقة إلا برحمة الله سيد الهادين المهتدين وآله الطيبين الطاهرين؛ هُم مَن وضع فيهم جدهم وإمامهم الثقة فجعل نسبهم أعلى نسب، ومحبتهم أقدس ما يُحَبّ، وذكرهم ماء القَرَب، وفضلهم هيهات يُكتسَب؛ خديجة أمّ المؤمنين الثابِتة المثبتة مبتدأ الخبر، والزهراء بضعة من سيّد الأعاجم والعرب، وعليّ باب مدينة العلم، ورافع لواء الوفاء والفداء والدّأَب، والحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة ولا عجب، والعباس وابنه حَبر الأمّة ويا له من لقب، وحمزة سيّد الشهداء طول مدى القرون والحِقَب، و”سلمان منّا آل البيت”؛ فارسيّ اللّحم والعظم والعَصَب. نِعْم الجدّ والعِترة والأهل والعَقِب. صلى الله على الحبيب وآل بيته ما مُحِبّ أحبّ، وسائل طلب، وشاعر شعر، وكاتب كتب، وخطيب خطب، قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى، إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي، الثَّقَلَيْن، وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض. هل بعد هذا البيان من بيان؟ فبأي آلاء ربكما تكذبان!

وكأنّ القطار كاد أن يخرج عن سكّته، وكأن الشرط اللازم للحضور والمشاركة أوشك أن يخرقه خارق بعدم انضباطه وقلّة يقظته، لكنّ طوائف دخَلَت علينا باب منزل ميلود فجأة فلفتَت الأبصار، وشدَّت الآذان إلى مُقتحمين صامتين بلا لسان إلاّ مِن حال سيّء يشي به ما بُثّ في لافتين من أقوال، إحداهما يحمِلُها ممثّل عن طائفة السّكارى كُتِب عليها: لا تلعنوه فإنه يحب الله ورسوله، وثانيهما يحملها ممثّل عن طائفة المشرّدين الحيارى مبثوث فيها: “إلاّ رسول الله” هالَني المشهد وأبكاني كما أبكى الجميع وأنساني كما أنساهُم ما قاله العاشقون والصادقون والسابقون والحاذقون والذائقون والواثقون، فقُمْت مِن مكاني وانضممت إلى الطائفتين وحاملي اللافتتين، ووقفت بينهما لا أبالي بـِمَن بنظرات كالسِّهام رماني، وقلت نائِبا عنهم:

يا له من موعد للآبقين

مَن أذنبوا لم يرعووا بئس الـمَسار

مَن جرّبوا أدهى أساليب الدّمار

مَن خرّبوا أرواحهم يا للشَّنار

مَن عُذِّبوا؛ ساموا النفوس لهيب نار

مَن عوقِبوا بالخزي في دار البوار

مَن أَتْرَبوا إن بالرِّبا أو بالقمار

وتحزَّبوا لمن اقتفوا أثر الكِبار

وتَعقّبوا خطوات أصحاب القرار

مَن أغْرَقوا الشباب في عمق البحار

وسَعَوا بهم نحو الضلال والانتحار

“إلا رسول الله” لافؤتَة اعتذار

“لا تلعنوه” للسّكران جار

ولكل خطّاء وآثمة شِعار

مَسَح الحضور دموعهم بمنديل التوبة والاعتبار، وقام ميلود الهاشمي فشكر الحضور على الحضور والانضباط بشرط المشاركة في المنتدى، وأُسْدِل السِّتار على حفل جمع المختلِف على الـمُوَحِّد، والشّتات على الـمُؤلِّف، والمتناقض المتنافر على المتّفق عليه؛ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يُحْرَم من هذه الأجواء الـمُعَقّمة والأحوال الـمُكَرّمة، إلاّ مَن اعتبر الاحتفال بميلود من الموبقات المحرّمة، وخشي أن يكون حضوره بالحضور عاصف، وللمكان ناسف، وفي هذا اعتراف ضمني باحترام ميلود الهاشمي يُستَثْمر –إن شاء الله وبإذنه وتوفيقه، وحوله وقوّته – في موعد قابل لأنه للعلاج في مستقبل الأيام قابل.

تُلِيَت سورة الضّحى مِسْك الختام، وصلّى الجميع بالمكيال الأوفى على خير الأنام وآله الكرام ودعا خاشِع دعاء لاَنَتْ له وبه القلوب والدّموع سجام، وانصرف الحضور ليضربوا موعدا آخر في عام آخر متمنين لميلود الهاشمي طول العمر، ولأهله وذويه الاجتماع على الخير، والتعاون على البِرّ، وإصلاح ذات البَيْن، وسعادة الدارَيْن، حامدين الله على أن مَرّ الحفل بسلام، وخُتِم بتَصافٍ ووِئام.