ما يُفيد أن نطارد ظواهرَ المخالِفات والقلوبُ منطوية على باطن الإثم؟ بل ما هو الضرر البليغ الذي تجترحهُ أيدي بعض الشباب يلاحقـون النساء في الشوارع بالخشونة والأذى ليفرضوا عليهن عقد خرقة على رؤوسهنّ!
ما يعمل وازع الخشونة إن تقدم وبارز بالعداوة إلا أن يُنَفِّرَ المسلماتِ من دينهن، وأن يوطِّدَ سُمْعَة أنَّ الإسلاميين وحوشٌ ضاريَة. وما كلف الله عز وجل عامة المومنين أن يَعْنُفوا على الناس في مُنكر صغير إن كان العنف يلِدُ منكراً كبيرا. وأي منكر أشد من التعسير والتقتير بَدَلَ التيسير والتبشير!
إسلامهنَّ هو الأصلُ، والرفق هو المنهاج الإسلاميُّ، ووازع القرآن والدعوة أسبق. حتى إذا تُقُبلت فرائض الدين وبقيت الشاذات والشاذون كان لسلطان المسلمين أن يفرض آداب الشارع وأن يمنع التبرج بما يناسب.
إن نساء المسلمين كرجالهم أحوجُ ما يكونون إلى من يعلمهم أمر دينهم ويجدده لهم. وللمرأة كما للرجل حرية الاختيار بين الحياة الدنيا وزينتها وبين الله ورسوله والدار الآخرة. فلا نقدم العقوبةَ على التعليم، ولا المواخذة على الإعلام. وإنَّ السكوتَ المُريبَ في وسائل الإعلام الحركية الإسلامية عن ذكر الآخرة والمآل والرحلة الضرورية وما وراءها في دار البقاء من جزاء وعذاب لثغرة شارعة إلى التيه في أدبياتٍ سياسيَّة تحليلية ثقـافية مقارنة تُبعد المتلقي والمتلقية عن معاني الإيمان لتقربه إلى نضالية جوفاء.
ويُتْرَكُ حبل الشباب المنخرط في الحركة الإسلامية على الغارب. إن لَقِيَ في مسجد واعظا أصغى لحظة لذكر الله ورسوله واليوم الآخر، ثم انصرف بعد ذلك لاهياً قلبُه عن الذكر، منصرِفا عقلُه وهمُّه ويومُه وليلتُه للصراع. لا جرم أن يكون بأسُه على المرأة شديدا، وهي الضعيفة العاطفية السريعة إلى الرجوع لو جلست إليها من بنات جنسها من تذكرها بالله وباليوم الآخر، ومن تطرح عليها الخيار بين زينة الدنيا وزينة الله، بين متاع الدنيا وجزاء الآخرة. وربما تجد من نساء المسلمين مَنْ توغلت في المادية الفلسفية أو في التبرج والتهتك لأنها لم تسمع عن خبر الآخرة، إن سمعت، إلا في نطاق ركن رسمي بارد يلقي فيه واعظ هامد جُمَلاً لا روح فيها. فإعلام هؤلاء النسوة وإخبارهن، وإخبارُ كل المسلمين مع التركيز على مسألة الاختيار المصيري، وباقتناع المومنين والمومنات القائمين على الدعوة، الخاشعين تقوىً لا تصنعا، هو المنهاج القرآني النبوي.
قال الله عز وجل لعباده: اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد كمثل غيث أعجب الكفارَ نباتُه ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حُطاما. وفي الآخرة عذاب شديد ومغفرة من الله ورضوان. وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور 1 .
اعلموا! واليقين باليوم الآخر يأتي في مرحلة لاحقة بمخالطة الشاردة عن ربها، اللاهية بشبابها وزينتها، للمومنات القانتات.
النساء بطبعهن وَلوعٌ باللعب واللهو والتفاخر والزينة، والرجال وَلوع بالتكاثر في الأموال والأولاد والجاه. وما كسرَ هذا التعلق مثلُ تعميق الشعور بالمآل. شبابُكِ أيتها المسلمة ونضارتُك وزينتك كمثَلِ غيث أعجب الكفّار (وهم لغةً الزّرّاع) نباتُه. فإذا به يوما قد اصفر وذبُل وسقط على الأرض حُطاما كما يسقط جسمُك وشعرُك وما تُكَحِّلينَ وتُحَمِّرين.
أين أنت من وعد الله عز وجل للمومنين والمومنات تشريفاً لمن أطاعه؟ قال تعالى: وعد الله المومنين والمومنات جنات تجري من تحتها الانهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن. ورضوان من الله أكبر. ذلك هو الفوز العظيم 2 .
في آيات معدودة يذكر الله عز وجل المومنات مع المومنين تأكيدا لمعنىً يُخشى أن يسبق لفهم الرجل المعتز بذكورته أن المرأة منقوصة الحظ منه. وإلا فكل خطاب للمومنين، تشريفا وتكليفا، فالمومنات في ضِمْن قصده، جريا على قاعدة العرب في لغتهم إذ يغلِّبُون الإخبار بالمذكر إذا كان المخاطبون رجالا ونساء.
من الآيات الناصة على المومنات بعد المومنين هذه البشارة العظمى التي تهفو إليها همم المحسنين والمحسنات أولياءُ الله وولياتُه. قال تعالى: يومَ ترى المومنين والمومنات يسعى نورُهم بين أيديهم وبأيمـانهم 3 . وقال: يومَ لا يُخزي الله النبيء والذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم وبأيمانهم، يقولون ربنا أتمم لنا نورنا واغفر لنا. إنك على كل شيء قدير 4 .
للنبي نور وللمومنين نور في ذلك اليوم المشهود، وللمومنات نورهن يسعى بين أيديهن وبأيمانهن. أي حياة طيبة هذه!
وللمسلمات تُفتح أبواب الاجتهاد في الدين، لا يسبِقُهُنَّ سابق إلا بالتقوى والعمل الصالح. فهن يَرْقَيْنَ على قدر ما ازددْنَ إيمانا وعملا صالحا. قال الله عز وجل: إن المسلمين والمسلمات، والمومنين والمومنات، والقانتين والقانتات، والصادقين والصادقات، والصابرين والصابرات، والخاشعين والخاشعات، والمتصدقين والمتصدقات، والصائمين والصائمات، والحافظين فروجهم والحافظات، والذاكرين الله كثيرا والذاكرات أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما 5 .
في مقابل الوعد الإلهي الكريم، ولتستحق المومنة المراتب العالية في درجات الآخرة، عليها أن تُوَثِّقّ اختيارها بتوبة تامة تلزمُ نفسها بعدها بما التزمت به المسلمات الداخلات في الإسلام على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم: بايعنه بَيْعة فخَمةً مشهودة صارمة بما أخبر الله عز وجل به في قوله: يأيها النّبيء إذا جاءك المومنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنينَ ولا يقتلن أولادهن ولا ياتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعْصِينَكَ في معروف فبايِعْهن واستغفر لهن الله. إن الله غفور رحيم 6 .
بَيْعة اختيارية رافِداها الاقتناع القلبي والحضور العقلي الذي يعرف قدر ما تتحمله الذمة من مسؤولية. ثم ترقَى المسلمة بمخالطة المومنات وبذكر الله والصلاة،وبالعمل الصالح، فتتحرر شيئا فشيئا من سلطان الهوى وسيطرة المحيط العَجَّاج بهوَس بنات الدنيا، فإذا بالاختيار الإسلامي يتفتق عن انضمام إيماني لله ورسوله وجماعة المسلمين. وحينئذ يكون شرع الله هو المُسْتمسَك، وما قضى الله ورسوله هو المعوَّل عليه المرجوعُ إليه، كما يليق بأهل الإيمان السامعين والسامعات، المطيعين والمطيعات لقوله تعالى: وما كان لمومن ولا مومنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن تكون لهم الخِيَرةُ من أمرهم 7 .
في المرحلة الثالثة من ترقي المومنة في معارج الدين يتحسس قلبُها، ويَهفو كيانها، وتتوجه إرادتها للتشبه بأمهات المومنين ذوات الصَّوْن والكمال، تتخذهن نموذجا. وتكون عندئذ بما رفعتها همتُها كالمخاطبة المشرَّفَة المُكَلَّفة بما شُرِّفْن به وكلفن في قوله تعالى: يا نساء النبيء لستُن كأحد من النساء إن اتقيتن. فلا تخضعن بالقول فيطمَعَ الذي في قلبه مرض. وقُلن قولا معروفا، وقَرْنَ في بيوتكن. ولا تَبَرّجن تبرُّج الجاهلية الأولى. وأقمن الصلاة وآتين الزكاة. وأطعن الله ورسوله. إنما يريد الله ليُذهِبَ عنكم الرجزَ أهلَ البيت ويطهركم تطهيرا. واذكرن ما يُتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة. إن الله كان لطيفا خبيرا 8 .
هذه خطوات المسلمة من دنيا التسيُّب والزينة الدنيوية، من حضيض التبرج والتهتك، إلى مرتبة الطاهرات. وبخَطْوِهِنَّ -أيَّدهن الله!- يكون قد تأسس بيت تُتلى فيه آيات الله والحكمة، وتكون المسلمة المومنة المحسنة قد دخلت في الوَلاية العامة،لها فيها مكانُها الأصيل ووظيفتُها الحيوية، ومسؤوليتها العظمى. من الآيات التي نُصَّ فيها على المومنات آيات الوَلاية، تأكيدا على مكانة المرأة في واجب السهر على دين الله، وحَمْل العبء، ودعم البناء. قال الله تعالى: والمومنون والمومنات بعضهم أولياءُ بعض: يامرون بالمعروف وينهَوْن عن المنكر ويقيمون الصلاة ويوتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله. إن الله عزيز حكيم 9 .
مشاركة المومنات في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ركنٌ أساسي من أركان الدين. وحُرْمتُها في المجتمع المسلم حرمة عظيمة، تكون إذايتُها، ومنعُها من الحماية المادية والمعنوية، وخدشُ كرامتها، موجباتٍ للعنة الله، والعياذ بالله. وقد قرَنَ الله عز وجل حرمة المومنات ووازَاها بحرمة المقام العالي:مقام الألوهية والنبوة. وذلك قوله تعالى: إن الذين يوذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذابا مُهينا. والذين يوذون المومنين والمومنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانا وإثما مبينا 10 .
ملعون من آذى الله ورسوله، ملعون من بَهَت المومنين والمومنات. والحفاظُ على عرض المسلم والمسلمة يحوطه التهديد بلعنة الله الدائمة، ويحوطه حد القذف في الدنيا، نكالا من الله.
ويؤكد كتاب الله تعالى حُرمة المومنات المحصنات في قوله تعالى: إن الذين يرمون المحصنات الغافلات المومنات لُعنوا في الدنيا والآخرة ولهم عذاب عظيم. يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون 11 .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما لأنْجَشَةَ وهو يحدو بإبلٍ عليها مومنات، فتَعْدُو الإبل وتُزْعج راحة الظعائن: “رِفقا بالقوارير!” شبههن لِلُطْفهن وحساسيتهن بالأواني الزجاجية، سريعة العطب شفافة. فإن أحسنا دعوة المسلمات برفق وحدَب وصدق أشركنا في عملنا خيرَ من حافظن على الفطرة وحَمَين ظهر المجاهد. ولله عاقبة الأمور، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير.
عن كتاب “العدل، الإسلاميون والحكم”، الباب الأول، ماذا يريد الإسلاميون؟
[2] سورة التوبة، الآية 73.
[3] سورة الحديد، الآية 12.
[4] سورة التحريم، الآية 8.
[5] سورة الأحزاب، الآية 35.
[6] سورة الممتحنة، الآية 12.
[7] سورة الأحزاب، الآية 36.
[8] سورة الأحزاب، الآيات 32-34.
[9] سورة التوية، الآية 72.
[10] سورة الأحزاب، الآيتان 57-58.
[11] سورة النور، الآيتان 23-24.