تقديم
يقول الله تعالى في كتابه العزيز: مِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚإِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ 1.
ومن صفات عباد الرحمن كما جاء في سورة الفرقان، أنهم يدعون الله تعالى أن تقر أعينهم بأزواجهم وذرياتهم، في قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا 2.
فبعد الإرادة الجادة في نيل هذه الغاية من الزواج والدعاء الصادق من أجل أن تغشى السكينة بيت الزوجية وتسود الرحمة والمودة بين الأزواج؛ لابد من الأخذ بالأسباب والسعي إلى الأمر سعيه الحقيقي.
إن الطريق المختصر والمضمون، لمن يبحث عن السعادة في الحياة الزوجية ويريد أن يجني ثمارها في الدار الآخرة، هو اتباع أوامر الله سبحانه وتعالى ووصايا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً 3. لقد وصف الله تعالى الزواج في كتابه الكريم بالميثاق الغليظ، فما معنى الميثاق الغليظ لغة واصطلاحا؟ وما هي تجلياته في الحياة الزوجية؟ وما هي الأمور المساعدة للوفاء به؟
1. المِيثَاقُ لغة واصطلاحا
قال ابن فارس: “وثق، كلمة تدل على عقد وإحكام”.
الجمع: مواثيق، ومَياثيقُ، ومياثِق.
المِيثَاقُ: القانون، ما يتعاهد أو يتحالف عليه رسميًّا شخصان أو أكثر، رابطة تتألّف من أجل عمل مشترك.
في لُغة العرب تدل كلمة “وثق” على السكون والاعتماد على شيء مَكين مأمون. والميثاق “عقد مؤكد بيمينٍ وعهد” 4.
أما في الاصطلاح، فلقد فسر “الميثاق الغليظ” المذكور في آية أخذ الصداق في قوله تعالى: وكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً، بالإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان، بهذا قال كل من ابن عباس وعِكرمة ومجاهد وأبو العالية والحسَن البصري وقتادة ويحيى بن أبي كثير وضحاك والسدي. وعلق الإمام عبد السلام ياسين رحمه الله على هذه الآية قائلا: “ليس في ديننا وشريعتنا أعلى مصدرا من القرآن الكريم، فالإمساك بالمعروف أو التسريح بالإحسان هما ضابطا الوفاء بالعهد وأداء الأمانة” 5.
وقال كذلك: “ليس من شرط صحة الزواج الإِسلامي أن تحلفَ له ويَحلِف لها، لكن مجرد القَبُول والرضى والإشهاد يتضمن العهد واليمين والأمانة. في صحيح مسلم عن جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خُطبة حجة الوداع: «استوصوا بالنساء خيرا. فإِنكم أخذتموهن بأمانة الله، واستحللتم فروجهن بكلمة الله»“. كلمة الله وأمانته وعهده وشريعته في الزواج هي: ﴿إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ﴾.
وقال الإمام كذلك: “هو ميثاق بين رجل وامرأة يبقيان عليه بشرط المعروف أو ينقضانه بشرط الإحسان. مَا نسب سبحانه الميثاق إلى نفسه، إِذ ميثاقه أبدي ملزم، من نقضه تعرض لغضب الله. وقد ذُكر في القرآن “الميثاق الغليظ” ثلاث مرات، إِحداهن ميثاق الزواج” 6.
2. جزاءُ الوفاء بالميثاق وعاقبة من خانه
في القرآن الكريم ميثاق غليظ أخذه الله عز وجل من النبيئين. قال تعالى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَن صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً أَلِيماً 7. وفَّى رسل الله بميثاق الله، وصدقوا في أداء ما عليهم من حقوقه فنالوا رضى الله. وخان الفسقَة الكفرة من بني إسرائيل ميثاقهم مع الله فلعنهم الله. قال تعالى: وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَـكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً بَل رَّفَعَهُ اللّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزاً حَكِيماً 8. وفي آية أخرى: فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً 9.
ذلك جزاءُ مَن نقض عهدا غليظا أبرمه مع الله رب العباد. ويلحقُ بذلك النقض الفظيع الخائن، على درجة بشرية، خيانة عقد الزواج يبرمه العباد فيما بينهم، تشهد عليهم فيه كلمة الله، وتقتضيهم الوفاءَ به أمانة الله، كما يشهد عليهم فيه العدول من المؤمنين.
3. تجليات الميثاق الغليظ
1- الإمساك بالمعروف
استجابة لقوله تعالى: وعاشِروهُنّ بِالْمَعْروفِ فَاِنْ كرهتموهن فَعَسى اَنْ تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا کَثیرا 10. لطفٌ في القول والفعل، تنفيذ للحقوق وكف الأذى عن الطرف الآخر. فالنبي صلى الله عليه وسلم، وهو خير زوج على الإطلاق، وضع ميزان الخيرية لأصحاب الهمم العالية من الرجال بقوله، عن أم المؤمنين عائشة -رضي الله تعالى عنها- قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي» 11. وفي صحيح البخاري عن الأسود قال سئلت عائشة ما كان صلى الله عليه وسلم يصنع في أهله؟ قالت: كان في مهنة أهله، فإذا حضرت الصلاة قام إلى الصلاة.
“المرأة في حضن الإسلام تُكرَم، ولا يهينها إلا لئيم ناقص. تُعامَل بالإحسان. إحسان الرجل الروحيُّ يفيض عليها رِفقا وعطفا ومحبة وودا. وهي تتكرم فتصبر وتتحمل وتكافئ الإحسان بإحسان” 12. والنبي صلى الله عليه وسلم مدح النساء، حيث قال: «خير نسائكم الودود الولود» 13؛ الودود، لسانها طيب، معاملتها طيبة، فهي امرأة ودود تتودد إلى زوجها.
ومن الإمساك بالمعروف؛ القوامة والنفقة على الزوجة، حيث يقول تعالى: 14 15. ومن الإمساك بالمعروف؛ غض الطرف عن الهفوات والأخطاء الصغيرة العابرة، إذْ ليس من سمة البشر الكمال، بل الأصل في البشر الخطأ والزلل، كما قال صلى الله عليه وسلم: «لا يفرك (لا يبغض) مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقا رضي منها آخر» 16. فالخِطاب موجه للزوجة كذلك، إذا كرهت منه خلقا رضيت منه آخر. إذن، نُغلب حسن الظن ونلتمس الأعذار ونحمل على أحسن المحامل ونقدم النصح بالحكمة وقدر المستطاع.
ومن حسن المعاشرة الزوجية؛ إعفاف الزوج، مع حسن التبعل والتجمل من الطرفين، وحفظ الأسرار، كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم: «وفي بُضْعِ أحدِكم صدقةٌ. قالوا: أَيَأْتِي أحدُنا شهوتَه يا رسولَ اللهِ ويكونُ له فيها أجرٌ؟ قال: أليس إن وضعها في حرامٍ كان عليه وِزْرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في حلالٍ كان له أَجْرٌ» 17. وها هو الإمام المجدد يعمم هذه الصدقة وهذه العبادة في جميع مناحي العلاقة الزوجية إن أعطي للميثاق الغليظ حقه وتم الوفاء به، حيث يقول رحمه الله تعالى: “لكن زواج المؤمنات والمؤمنين يُسبِغ عليه جلال الميثاق الغليظ قدسية، وتجلله الأمانة الإلهية، وتعظم من شأن تبعاته الكلمة، إن حفظت المرأة وقام الرجل بأعباء الميثاق الغليظ اكتست كل أعمالهما، وما يتبادلان من معروف، وما يتبادلان من عطاء، صبغة العبادة والتقرب إلى الله عز وجل” 18.
2- التسريح بإحسان
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أبغض الحلال عند الله الطلاق» 19. والطلاق هو الترك بعد الإمساك، وهو حل ميثاق الزوجية، يمارسه الزوج والزوجة كل بحسب شروطه تحت مراقبة القضاء، كما جاء في مدونة الأسرة، أو هو رفع قيد النكاح في الحال أو المآل بلفظ مخصوص ونحوه. فهناك طلاق يوافق سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم، وطلاق بِدعي يخالف السنة الشريفة ويتبع الهوى والنفس. والله كتب الإحسان على كل شيء، كما جاء في الأربعين النووية، الإحسان في الزواج والإحسان عند التسريح.
وللطلاق أحكام وشروط. فمن أراد أن يستجيب لأمر الله في التسريح بإحسان، وجب عليه أن يطلع على أحكام الطلاق وشروطه حتى لا يقع في الحرام ويعرض نفسه لغضب الله تعالى. فها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم يبين للصحابي الجليل سيدنا عبد الله بن عمر، ولنا من خلاله، بعض الوصايا المتبعة في الطلاق: «عن عَبْدِ اللَّهِ بن عمر رضي الله عنهما، أَنَّهُ طَلَّقَ امْرَأَةً لَهُ وَهِيَ حَائِضٌ تَطْلِيقَةً وَاحِدَةً، فَأَمَرَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُرَاجِعَهَا، ثُمَّ يُمْسِكَهَا حَتَّى تَطْهُرَ، ثُمَّ تَحِيضَ عِنْدَهُ حَيْضَةً أُخْرَى، ثُمَّ يُمْهِلَهَا حَتَّى تَطْهُرَ مِنْ حَيْضَتِهَا، فَإِنْ أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَهَا فَلْيُطَلِّقْهَا حِينَ تَطْهُرُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُجَامِعَهَا، فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ» 20.
قال ابن كثير في تفسيره: “وقوله: فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان؛ أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية بين أن تردها إليك ناويا الإصلاح بها، والإحسان إليها، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك وتطلق سراحها محسنا إليها، لا تظلمها من حقها شيئا، ولا تضار بها. وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، قال: إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين، فليتق الله في ذلك، أي في الثالثة، فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئا.
فكما تعظم النية عند الإقبال على الزواج من أجل المعاشرة بالمعروف، كذلك تحضر النية عند الابتلاء بأبغض الحلال إلى الله تعالى من أجل التسريح بإحسان، فالحفاظ على الحقوق عند الطلاق من الوفاء بالميثاق الغليظ، وخائن الميثاق منهما يرجع عليه بغيه وخيانته.
في زماننا هذا، نجد الكثير من الأزواج سرعان ما ينسون الفضل الذي كان بينهم، فتجدهم عندما يصلون إلى الطلاق ويقفون بأبواب المحاكم، يطلقون العنان للنفس الأمارة بالسوء ويتبعون خطوات الشيطان المفضية إلى الهلاك والخسران في الدنيا والآخرة، تجدهم يدخلون في حرب مفتوحة باليد واللسان وشهادة الزور والكيد للآخر وإفشاء الأسرار. لا يراعون للميثاق الغليظ قدسيته وحرمته. فالمؤمن (أو المؤمنة) يستحضر معاني الميثاق ولا يتحلل منه، فيتق الله عند التسريح، لا يظلم ولا يقبل الظلم، لا يكذب ولو كذب الطرف الآخر، ويدفع بالتي هي أحسن، ويراعي مآل الأولاد إن كانوا، ويحافظ على خيط معاوية.
نصح الإمام المجدد رحمه الله تعالى بالتعامل بشريعة الله في كل الأحوال، قائلا: “ذلك أمر الله للأزواج أن يعاملوا الزوجات بالمفروض الإسلامي الإيماني الصائن لحقوق الزوجات من وراء الحب والكُرْه، في حالات الائتلاف والاختلاف، في رخاء العيش وانقباض الرزق، في غبطة الأنس أو أزْمة الطلاق. إمساك بمعروف من الشرع والمروءة والإنسانية، أو تسريح بإحسان” 21.
لقد اهتم الإسلام وحرض على الرعاية بالمطلّقة والإنفاق عليها، كقوله الله تعالى: أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ ۚ وَإِن كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّىٰ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ ۚ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ 22. ويقول كذلك: وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ ۚ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا 23. فإن كانت واجبة للمعتدة فهي للزوجة غير المطلقة أولى وألزم.
ويدعو الإمام المجدد لفتح باب الاجتهاد لتخفيف آثار الطلاق الاجتماعية وحماية المرأة من التشرد، حيث قال رحمه الله تعالى: “وأتعرض للطلاق وما يترتب عليه من ضياع المطلقة وذريتها، لنبحث عن وسيلة لإلجام الطلاق وتخفيف الكوارث الاجتماعية ومعاناة المشَرَّدات من بيوتهن. هذا اللجام نقرأه في كتاب الله عز وجل في قوله: وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ 24. اختلف أئمة الفقه رحمهم الله في فهم الأمر بالمتاع، فقال المالكية: المتاع إحسان إلى المطلقة مستحَبٌّ للتي سُمِّي صداقها، واجب للتي طُلِّقَتْ قبل تسمية الصداق. وقال الحنفية والحنابلة مثل ذلك. أما الفقهاء الشافعية فاستدلوا بالآية واعتبروا تمتيع المطلقة حقا على المتقين. أي واجباً شرعياً.
“ما كلفنا الله باتباع مذهب وتقليد فقيه. ومن ظن أن الإسلام يقبل أن تُلْقى المطلقة في الشارع مع أطفالها في عصر قاسٍ لا يرحم، انفصمت فيه عُرى التواصل مع العمات والخالات، وتعقدت فيه سبُل العيش، وكثرت فيه الحاجات، فإنما ينسب الحيف والظلم إلى شريعة العدل والإحسان.
نحتاج إذن لاجتهاد على نحو الفقه الشافعي مُعَزَّزا برعاية حق المرأة في الاحتفاظ بسقف يؤويها في عصور من سمات أزمتها نُدرة السّكن وغلاء السكن: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ 25 إلى تمام عدتهن. هذا أمر لا ينبغي أن نَلْقَى به شرط الميثاق الغليظ: إِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ 26. أي إحسان أن تُشرد المطلقة في مدُن الإسمنت القاسية؟ لا ينبغي أن نَلْقَى بالأمر الإلهي أمراً آخر لننقضه. بل الاجتهاد رعاية المصلحة العادلة” 27.
4. الوفاء بالميثاق الغليظ
– الترقي إلى درجة الإحسان في العلاقة الزوجية
الزواج عبادة، وأعلى درجات العبادة الإحسان. الإحسان أن تعبد الله في العلاقة الزوجية كأنك تراه، الإحسان أن تحسن إلى زوجك، الإحسان أن يحسُن عملك مع زوجك.
ويقول صاحب تنوير المؤمنات: “مسك قاعدة البناء في الأسرة المسلمة العدلُ. لكن العدلَ وحده بمثابة ميكانيك جاف تصطك أجزاؤه عند كل حركة إن لم تزيت الحدائد وتُلطّفْ. ملطف الحياة الزوجية الإحسان بعد العدل، الإحسان قبل العدل، الإحسان مع العدل” 28.
– اختيار الزوجة الصالحة
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الدنيا متاع، وخير متاعها المرأة الصالحة» 29. علق الإمام المجدد رحمه الله تعالى على الحديث الشريف، فقال: “المتاع انتِفاعٌ إلى مدة. هو صحبة بين الزوجين يمتد زمنها ما امتدَّ الوفاء بعقد الميثاق” 30.
فكيف تقدر الصلاحية التي نطق بها الحديث؟ تجيبنا النصيحة النبوية لترشدنا وتساعدنا وتفتح أعيننا على الصلاح الباقي، والصلاح الأنفع اجتماعيا ودينيا. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تنكح المرأة لأربع: لمالها، ولحَسبها، ولجَمالها، ولدينها. فاظفَرْ بذات الدين تَرِبَتْ يداك» 31. كلمة «تربت يداك» استغراب وتعجب ممن يفضل على ذات الدين اعتبارات أخرى.
يتحفّظ الإمام من الزواج بالكتابية في عصرنا هذا الذي لا تكاد تجد المحصنات العفيفات المشار إليهن في قوله تعالى: وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ 32. وقد تزوج بعض الصحابة رضي الله عنهم بكتابيات مِمَّن تأكدوا من أنهن محصنات، أي عفيفات، وكُنّ من أهل الكتاب متديناتٍ بدينهن. ومع ذلك كره سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما الزواج من النصرانيات قائلا: “لاَ أعلم شركا أعظم من أن تقول إن ربها عيسى، وقد قال الله تعالى: وَلاَ تَنكِحُواْ الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ 33“.
اجتهاد صحابي في عصر كانت فيه النصرانيات نصرانيات. فما بالك بعصرنا وقد تحلل القوم من كل دين، وتعَذّر، بل استحال، أن تجد منهن ﴿محصنات﴾ عفيفات. فهل يُناط الميثاق الغليظ بكوافر الزمن؟ إذا اختل الشرط بطل المشروط.
خاتمة
الزواج ميثاق غليظ، فهو عهد مع الله قبل أن يكون عهد بين زوجين، والأمر كلما علا شأنه عند الله وعظمت حرمته وسمت الغاية منه، كلما كان الجزاء من الله الكريم أعظم وأكبر. فمن وفى بالميثاق إمساكا وتسريحا وفى الله له ما وعده، وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّه 34. جزاء في الحياة الدنيا سكينة ومودة ورحمة، وفي الآخرة فرحة وحبور كما جاء في قوله تعالى: الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ 35. وعلق الإمام قائلا: “إلى ذلك الـمُقام الكريم تسوق الخُلة بين المتقين، وإلى ذلك الحُبور (وهو الفرح العظيم الدائم) تسوق رفقة الأزواج الصالحة” 36.
[2] سورة الفرقان، الآية: 74.
[3] سورة النساء، الآية: 21.
[4] تنوير المؤمنات، ج.2، ص.155. ص.137.
[5] نفسه.
[6] نفسه.
[7] سورة الأحزاب، الآيتان: 8-7.
[8] سورة النساء، الآيات: 157-153.
[9] سورة المائدة، الآية: 13.
[10] سورة النساء، الآية: 19.
[11] أخرجه الترمذي.
[12] تنوير المؤمنات، ج.1، ص.187.
[13] صحيح الجامع. رواه البيهقي عن أبي أذينة.
[14] الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّـهُ بَعْضَهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ
[15] سورة النساء، الآية: 34.
[16] أخرجه مسلم.
[17] نفسه.
[18] تنوير المؤمنات، ج.2، ص.140.
[19] رواه أبو داود والحاكم، وصححه السيوطي، وضعفه الألباني.
[20] أخرجه مسلم.
[21] العدل: الإسلاميون والحكم، ص.269.
[22] سورة النساء، الآية: 6.
[23] سورة البقرة، الآية: 233.
[24] سورة الروم، الآية: 21.
[25] سورة الفرقان، الآية: 74.
[26] سورة النساء، الآية: 21.
[27] تنوير المؤمنات، ج.2، ص.149- 150.
[28] نفسه، ج.1، ص.217.
[29] رواه مسلم والنسائي، عن عبد الله بن عمرو.
[30] نفسه، ج.2، ص.166.
[31] متفق عليه، من حديث أبي هريرة.
[32] سورة المائدة، الآية: 6.
[33] سورة البقرة، الآية: 219.
[34] سورة التوبة، الآية: 111.
[35] سورة الزخرف، الآية: 70.
[36] تنوير المؤمنات، ج.1، ص.254.