المَالُ وَالبَنونَ

Cover Image for المَالُ وَالبَنونَ
نشر بتاريخ

لقد خلق الله تعالى الحياة الدنيا، كما خلق الآخرة، وأوجد لكليهما مقومات وركائز، ولحقارة الأولى وخَسَاستها، فقد جمَّلها الله تعالى بزينتي المالِ والبَنِينَ.

– فما أهمية المال في حياة الأفراد والجماعات؟ وهل هو وسيلة أم غاية؟

– ولماذا اعتبر الله تعالى البنون أحد مقومات وأساسيات هذه الحياة؟

تُعَرَّفُ الحياة في المعجم بالنمو والبقاء، وهي نقيض الموت، واصطلاحا هي صفات وُجِدت في الكائنات الحية كالتكاثر والحركة والتغذية وغيرها… والدنيا لغة هي الحياة الحاضرة، وعكسها الآخرة.

إن الغاية من خلق الله تعالى لهذه الحياة إنما هو تحقيق العبودية لله، يقول الله تعالى: وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) [سورة الدخان].

وقد أكد الرسول ﷺ على انحطاط ودناءة الدنيا، حيث جاء في حديث سهل بن سعد الساعدي قال: قال رسول الله ﷺ: “لو كانت الدنيا تعدل عند الله جناح بعوضة ما سقى كافراً منها شربة ماء” (رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح).

فقيمة الدنيا أحقر وأتفه من أن ينشغل بها عاقل، لذا وجب على المؤمن إيثار الآخرة والعمل لها، فعن أبي هريرة رضي الله عنه  قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: “ألا إن الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكرَ الله تعالى وما والاه، وعالماً ومتعلماً” (رواه الترمذي، وقال: حديث حسن).

ولحقارة هذه الحياة ومكانتها الدونية، فقد كانت صفاتها في القرآن الكريم عيوبا ونقائص، يقول الله جل جلاله: اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ ۖ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ ۚ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ [الحديد: 20]. لذلك زينها الله تعالى وحسَّنها بزينتي المال والبنين، للتخفيف من قساوتها وحقارتها، وهو الأمر الذي أكده الله ﷻ من خلال قوله: الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ۖ [الكهف: 46]. لأن في المال ملاحة وطائلة، وفي البنين شكيمة ودَرعا، وحتى تكون الزينة متناسقة ومنسجمة وجب أن يكون مصدر المال حلالا لا شُبهة فيه، وأن لا يشغل ذويهِ عن طاعة الله ورسوله، وأن يُؤَدُّوا حق الله فيهِ.

واختلف المفسرون في كلمة البنون؛ منهم من قال إن المقصود بِهم الذكور دون الإناثَ مستدلا بقوله تعالى: أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطور: 39] وقوله عز وجل: فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ [الصافات: 149]، ومنهم من قال إنها تشمل الجنسين عملا بالقاعدة التي تقول: (إن الخطاب بالمذكر يشمل الجنسين إلا إذا عطف عليه المؤنث، بينما الخطاب بالمؤنث يشمل الإناث فقط)، فأينما ورد الخطاب بالمذكر دون عطف المؤنث عليه فإنه يشمل الجنسين، مستدلين بآيات كثيرة، منها قوله تعالى: وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ‌بَنِينَ وَحَفَدَةً [النحل: 72]، وثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ ‌وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا [الإسراء: 6]، وفي حال العطف: أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى ‌الْبَنِينَ [الصافات: 153]، وأَمْ لَهُ ‌الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ [الطور: 39].

فالولد الصالح ذخيرة الوالدين في الدارين، عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قَالَ: “إِذَا مَاتَ ابنُ آدم انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثٍ: صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أو عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ” (رَوَاهُ مُسْلِم). ولأن الولد خلق الله وصنع والديه، فإن كل عمل صالح يعمله الولد يلحق ثوابه للأبوين، وقد أجمع أهل العلم على أن الميت ينتفع من عمل الأبناء، من دعاء، واستغفار له، وصدقة، وحج، وعمرة… فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: «‌إنَّ الرَّجُل لَتُرْفَعُ درجته في الجنة فيقولُ: أَنَّى هذا؟ فيقال: باسْتِغْفَارِ ولَدِكَ لك» (رواه ابن ماجة).

والمال والبنون صفة مشتركة بين البشر على اختلاف أجناسهم وعقائدهم… وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا [الكهف، 46]، فهي جامعة لكل الأعمال الحسنة، من ذكر، وصيام، وقيام، وزكاة، وجهاد، وغيرها… لذا كانت ذُخر المؤمن في الآخرة، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله ﷺ: “خُذُوا جُنَّتَكُمْ مِنَ النارِ؛ قولوا: سبحانَ اللهِ، والحمدُ للهِ ، ولَا إلهَ إلَّا اللهِ، واللهُ أكبرُ، فإِنَّهنَّ يأتينَ يومَ القيامةِ مُقَدِّمَاتٍ وَمُعَقِّبَاتٍ وَمُجَنِّبَاتٍ، وَهُنَّ الْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ” (أخرجه النسائي).

ختاما فإن المالَ والبنين مما يُتَزَيَّنُ و يُتَجمَّلُ بهما في الحياة الدنيا، وهما قاسمان مشتركان بين الناس جميعا، فيما الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا، وهي زينة المؤمنين في الدنيا والآخرة.