2- النخب السياسية والتحولات الراهنة، مقاربة تشخيصية
ستظل سنة 2011 سنة استثنائية بالنظر لحجم الحراك الشعبي الذي انطلق ولتداعياته على المنطقة، وبغض النظر عن التسميات التي أطلقت على هذا الحراك بين ثورة وانتفاضة وربيع… والتي قد نتفق معها وقد نختلف، لا يمكننا إلا الاعتراف بأن هذا الحراك حقق مجموعة إيجابيات رغم كلفته الباهظة خاصة في التجربة السورية، ورغم حجم العراقيل التي اعترضت مساره من عقبات ذاتية وموضوعية وإكراهات محلية وإقليمية ودولية، إيجابيات نلمسها من خلال استرجاع الشعوب لزمام المبادرة، وكسر حاجز الخوف وحالة الجمود والرتابة التي تطبع المشهد السياسي العربي عموما، نلمسها من خلال رفع سقف النقاش العمومي وكسر الطابوهات المصطنعة، ونلمسها من خلال المطالبة بالتغيير الشامل ورفض الحلول الترقيعية التجزيئية….
لسنا هنا بصدد تقييم لمخرجات الحراك الشعبي وما ينبغي لنا، فلا يمكننا الحديث الآن عن مخرجات بل ينبغي الحديث عن موجات، كما أن تقديم خلاصات وأحكام جازمة ونهائية يكون فيه قدر كبير من المجازفة وقد يكون فيه قدر كبير من التجني خاصة أمام تسارع الأحداث وتسابقها، لكن هذا لا يمنع المراقب من استخلاص دروس وعبر مما جرى ويجري، لذا سأسوق مجموعة ملاحظات فيما يرتبط بتفاعل النخبة السياسية مع التحولات التي باغتتها وأضعها في عنوانين اثنين هما:
حول استيعاب المرحلة
كان بمقدورنا أن نجعل من سنة 2011 سنة مفاصلة مع الاستبداد بامتياز، وكانت اللحظة التاريخية تسمح بذلك بما حملته معها من نفحات صحوة شعبية عارمة، لكن وللأسف الشديد أخطأت بعض نخبنا السياسية الموعد، ولم تقدر خصوصية المرحلة تقديرا دقيقا، فساهمت من حيث تدري أو لا تدري في إعادة إنتاج منظومة الاستبداد بأشكال جديدة أو ساهمت في إفراز دول هشة ومفككة.
إن مثل هذه المراحل التحولية الدقيقة لابد أن يرافقها وعي كبير بحجم الموروث، وحجم المطلوب وحجم الممكن، وعليه فإن مسارات التحول لابد أن تفتل في اتجاهات ثلاث تسير بنفَس واحد، وهي مسار تصفية تركة الاستبداد، ومسار بناء الديمقراطية، ومسار الحفاظ على الدولة، وهذه المسارات الثلاث وللأسف الشديد حدث في تدبيرها اختلال كبير، على تفاوت بين التجارب، مما انعكس سلبا على حسن إدارة المرحلة.
حول استيعاب الاختلاف
ينبغي ألا نسقط من حسابنا تاريخ المنطقة الذي لم يسمح للأمة بأن تتربى على ثقافة الاختلاف وتقدير الآخر ورأي الآخر، وأمام تسارع الأحداث وفجائيتها وجدنا أنفسنا وسط المعمعان محملين بكل العقد الفكرية والنفسية التي تشكلت على مدار قرون خاصة فيما يرتبط بعلاقة الأنا بالآخر، ورغم المجهود الكبير الذي بذلته النخب في مرحلة الميادين من أجل تذويب الاختلاف في وعاء الثورة سرعان ما طفت على السطح اختلالات حجبت منطق التعاون والتضامن والتوافق ليحل محله منطق التنافس بل في بعض الأحيان منطق العرقلة وتصفية الحسابات، وهذا جر الفاعلين إلى معارك أضعفت الجميع بل أضعفت المسار التغييري برمته، وفي أحسن الأحوال بطأت مساره، مما سمح للأنظمة أو بقاياها بالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب الأوراق بل خلط الأوراق بما يخدم مصالحها ويثبت وجودها؛ وقد عصفت مثل هذه السلوكات بالتحالفات الثورية وجعلتها عرضة للتفكك والانقسام، وبرزت مجموعة من الأعطاب من قبيل الإقصاء السياسي، وتجييش الشارع، وشيطنة الخصوم السياسيين أو تخوينهم، وإعلاء المصالح الفئوية والحزبية على المصلحة الوطنية ووو…. حالة التشظي والانقسام هذه أرخت بظلالها على المشهد السياسي ورسمت مسار مجموعة من التفاعلات التي تتحمل فيها النخب السياسية جزءا من المسؤولية خاصة فيما له علاقة بتوجيه الشارع وتحصينه واستعادة الثقة التي بدأت تتعافى لتنتكس من جديد.
وعلى العموم يمكن القول أن ثمة أزمة ثقة وعلى مستويات متعددة، على مستوى عمودي في علاقة النخب بعضها ببعض، وعلى مستوى أفقي في علاقة النخب بالجماهير والشعوب.